كتب: عثمان خاطر _ السودان
في البدء جاءت هذه القراءة متماشية مع سيمفونية الرواية بأحداثها المثيرة ورؤيتها البديعة الثاقبة لكل عِلل مجتمعها. تتشابك الأفكار والقضايا وفينولوجيا الحياة المجتمعية العصرية في هذه العالم. ما أعني أنني أبحث في هذه القراءة إيجاد تلك البصمة الخفية في ثنيات العمل بشكل أو بآخر.
[ الرواية هي لُب المجتمع. وأي عمل روائي لا يطرح أسئلة جريئة تشد القارئ ذهنيا، أي أسئلة تجعله يراجع حصيلته المعرفية يعد عملاً لا يؤول إليه كثيراً ] .
_ نبذة بسيطة عن الرواية:
جاءت الرواية في 221 صفحة من ذات القطع المتوسط، تتناول قصة شخص يعيش في عالم خاص به، إنسان متوحد ومنعزل. إنها رواية مليئة بالتفاصيل والمواضيع المجتمعية المتكررة دائما، تحاول الرواية من خلال السرد كشف حياة أحمد الذي يبدو أنه يعاني من مشكلة التوحد والانعزال يشعر بالخوف والتردد في تفاصيل حياته، شخصية تعيش بين زمنين؛ الزمن الواقعي والتخيلي، تارة تأخذه ذكريات طفولته البعيدة والحنين الى الأيام الخوالي، الأسرة وحنانها ورائحة المنزل وحنان الأمومة والأبوة، الإخوة والأخوات وتارة أخرى الحياة العملية بكل ما فيه من مشتقات وتحديات، إخفاقات ونجاحات، يقدم لنا دكتور أحمد حياة بطل روايته بصورة متزنة جميلة، إنها سيمفونية كاملة من الألحان. على الرغم من أن منولوج السرد يبدو أنه يركز بشكل أو بآخر على البحث عن الحب النقي وشريك الحياة المثالي (هذا ما سيفهمه القارئ) لكنٌ بالطبع أن القضية المحورية التي يحاول أحمد التعايش معها ليست الحب كما يظهر في سردية الرواية، بل رحلة البحث عن الحياة السهلة الحلوة، الحياة الكلاسيكية، تلك الواقعية التي فقدها الإنسان الحالي، مما يجعل حياته (أحمد بطل الرواية) تبدو وكأنها حياة تحاول إعادة رسم الخريطة التفاعلية بين الذات والأخرى الحالمة.
تضعنا الرواية أمام شخصية غريبة ومتناقضة في تصور أفكارها وطريقة رؤيتها للواقع، وحين يحس بالفشل (على الأقل الشعور به ) ينخرط في العمل حتى تسير كل تفاصيله مرتبطة بالعمل، وفي الواقع أنه ذكي جداً يعرف كيف يتقن عمله ويتقدم فيه، لكنه ما أن يكتشف أنه ينقصه الاستقرار العائلي يترك العمل في الإمارات فيعود إلى مصر يلتقي بفتاة مختلفة فيتعلق بها بل ويحبها وفي النهاية يكتشف إنها ليست الفتاة التي يبحث عنها يتركها ويعود إلى العمل، أنه كائن ما عاد يعرف ما الذي يؤديه في الحياة، من خلال تنقلات الحياتية المريرة يكشف لنا دكتور أحمد الشربيني حيوات وقصص ووقائع ومحطات من حياة بطله بأسلوب فلسفي بديع ولغة سهلة ممتعة. تبدأ الرواية بطريقة عادية أحمد يجلس على الأريكة يقرأ وينظر إلى المصباح في السقف الذي بدي أنه بحاجة للإصلاح، ثم يبدأ يستعيد ذكريات حياته السابقة رحلة العمل والسفر والتعب والبحث عن الشريك، ويخلص دكتور أحمد هذه البداية بعبارة رائعة جداً يقول” (عالم آخر جديد…. بداية عمل وبداية حياة شبه مجهولة) ص 7 . ( إنها بدايتي ومشاعر مختلفة من الخوف والحماس والترقب والرغبة في النجاح) ص10 . هذه العبارتين تكشف لنا هموم الحياة الإنسانية التي نعيشها، وكأنما شخصية البطل يود أن يخبرنا بأن الحياة التي في انتظاره ليس سهلا، وهو الأمر الذي نقرأه في الصفحات التالية.
_ العنوان:
” شيفاز ” ما الذي يلاحظه القارئ الجيد حين يطالع عنوانا مختصراً، غامضاً، وخادعاً منذ الوهلة الأولى؟ هل سيفكر بشكل جلي في العنوان أم أنه سيبحث عن الذات البعيدة (الخيالية) داخل العمل؟ أم أنه سيفهم منذ البدء مغزى العنوان _ كما يعتقد البعض بأن الرواية تقرأ من عنوانها؟. هذه الأسئلة وغيرها الكثير تجعلنا نقف بشكل جدي عن مكنون العنوان “شيفاز ” ماذا تعني هذه الكلمة التي يتوه معها القارئ وهو يحاول معرفة معنى الكلمة البسيطة التي تزينت عنوانا لعمل مدهش داخليا.
“شيفاز ” اسم من أسماء الكحول تصنع من الشعير، إذن نفهم أن العنوان استعارة لغوية وذهنية عبقرية وكذا الحال يستخدمها الكاتب مهدئ لكل ما ينتظرنا من صديقنا أحمد بطل الرواية. العنوان موسيقى الذات إلى حقيقته، شيفاز المشروب الذي يلملم أطراف الأجزاء الصغيرة التي تناثرت مع فوضى الحياة العارمة.
_ الذاكرة المكانية:
تجري أحداث الرواية في ثلاثة دول مصر و الإمارات وإيران .هذا الفضاء المكاني المتنقل الذي تعيش فيه شخوص الرواية؛ يظهر لنا جوانب عديدة من خفايا العالم الذي لا يعرفه الكثير بالأخص ما يخص دولة إيران رغم أن الكاتب لم يعط تفاصيل كثيرة عن الحياة الإنسانية بعمود فقرها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، اقتصر الأمر في الستة أشهر التي قضاها بطل الرواية في إيران، وهو ما أشار إليها الكاتب في الرواية “بعيدا عن السياسة ” كأنما أمام عقبة غير مرئية في أمور الدولة الحساسة. الإمارات العربية المتحدة والتي تكوٌن معها جل تفاصيل وشخصية البطل يكشف لنا دكتور أحمد التفاصيل أكثر إيضاحا ونتعرف على الحياة الإنسانية بدقة وإنسانها الحياة العمل المدن.
أما مصر كما يسميها الدكتور “مصر الحبيبة” فهي مختلفة جداً بتفاصيلها، مدنها وإنسانها وطريقة تفكيرها، في مصر تعيش الذكريات، منزل العائلة، الأصدقاء الأنقياء، الحنين إلى الحياة الأولى وبراءة الطفولة وشم رائحة الأرض الأم إنها العشق من نوع خاص .
_ المسألة الاجتماعية:
شيفاز هي دراسة سيكولوجية يقدمها الدكتور أحمد بطريقة روائية فريدة من نوعها، يقوم بكشف نفسية البطل ويجعلنا في مأزق نفسي تارة نتعاطف مع البطل وتارة أخرى مع انفسنا، هذه المجتمعات التي تفوقت عليها العصرية في تمرحل حياتها بصورة أكثر واقعية أو موضوعية كما في طور التكوين الناعم الذي يسبق إبتسامة هادئة. نجده يتغلل بنا إلى عوالم خفية من حياة أحمد قلقه/ تعاسته/ أفراحه/ أتراحه/ أسراره/ مخاوفه/ توحده/، الأمر الذي يجعلنا نتسائل بوضوح مستمر ما هي المسألة الاجتماعية التي بنيت عليها الرواية أفكارها؟ الإجابة على هذا السؤال يعيدنا للبحث عن طفولة البطل والكشف عن المكنون الخفي في شخصية البطل أسلوبه/ حياته/ وطريقة تعامله مع محيطه الخارجي (المجتمع ) والداخلي (الأسرة).
الرواية تفضح التغير الحياتي الذي يصاحب الإنسان، تناقضات الواقع ومصائب العصر الحديث، ذلك التيه والتنافر بين المكان والزمان، بين الحقيقة والخيال، بين مستجدات حركة التكنلوجيا وبدائية التفكير، كل تلك المسائل المتعلقة بهذه القضية يكشف غموضها دكتور أحمد الشربيني برواية رومانسية واقعية، وبأسلوب فلسفي بعيد حلو، وحبكة متزنة يتوه معهما القارئ بين طيات اللغة والفكرة داخل العمل، إنها ليست قضية حب أو الخوف أو حتى التوحد إنها قصة مجتمع كامل خاصة جيل الشباب الذين ينخرطون في عوالم ليست هي نفسها عند مجتمعاتهم، فمثلا في بداية الرواية نجد أن بطل الرواية يذهب للحج ويعيش حياة المؤمن ويتقن دكتور أحمد في وصفه حالة بطله النفسية بعد الحج ب ” كان شعوري كالطفل المولود، لا يحمل ضغينة إلى أحد كصفحة بيضاء من كتاب لم يمس بعد. ” ص16 . لكنه فجأة يتحول إلى انسان آخر يذهب إلى الحانات يحتسي الخمر ويعيش عزلته الفريدة الغامضة؛ وهذه الغموض تصحبه التناقض بصورة جلية كأننا نتوه وسط دهشة الاغتراب بين الواقع والخيال ” كنت أشرب بالقدر الذي يجعل الأصوات داخلي تهدأ إلى حد ما ” ص 57.
بعدها حين يعود إلى مصر تعيش معه في البيت فتاة من غير زواج، كل هذه الإشكاليات وأعمقها يكشفها الرواية بواقعية ماتعة حتى إن القارئ النموذجي ينساق معها بتلذذ إنها سيمفونية البراءة المحرمة، ستكشف إنها رواية مليئة بالتفاصيل والمواضيع والقضايا لكنها لا تترك مجالا لمعرفة كل المواضيع. هذه القطعة الجميلة بكل غموضها وتعريها النفسي والروحي تمثل قطعة تاريخية ورداء المجتمعات ونواتها الحقيقية فمن خلال السرد اللغة اللتان تظهران بوضوح في الرواية يثبت لنا عن أن ما في أيدينا هي دراسة سيكولوجية كاملة لمجتمع الشباب بطريقة عشوائية .
_ الأسلوب الروائي:
شيفاز رواية واقعية بامتياز تتشابه إلى حد كبير بين البوفارية والسحرية في سرد التفاصيل الصغيرة التي تمثل الحبكة الروائية الكاملة. تسير الأحداث بخط تتبعي متزن؛ المسار الخطي المتعارف عند بعض الروايات القصص الكلاسيكية، يعقبها تغيرات هنا وهناك، وتتقاطع ذكريات الطفولة بين ضفاف الشهقة، وأحداث هائمة تطرق الباب في كل لحظة سانحة. ما أود قوله إن الرواية جاءت على شاكلة واضحة تسرد أسلوبها بواقعية وسلاسة، كأنها ألحان وأنغام تتقاطع بين الأصوات الموسيقية الكثيرة، صرخة واحدة هي التي ترتفع عاليا، وهي صوت البطل وحياته وكآبته. الرواية مكتوبة بلغة فلسفية بعيدة كل البعد، شيقة فكرياً، وتنشط الذهن، ملمة بأفكار علم التحليل النفسي، وهو ما يظهر جليا في أن الشخصيات الأخرى جميعها ذات أهمية نفسها كما عند الشخصية الرئيسية، فمثلا (هند ووليد وشريف وذهني ومجموعة الشباب الذين اختارهم أحمد للعمل معه في الشركة) كل هذه الشخوص لها ما يتطلب النظر إليهم. تجري أحداث الرواية في الألفية الثانية بعد الميلاد وتسرد عن طريق” فلاش باك ” .
_ النهاية:
“وهكذا انتظرت الغد أن يأتي، أحلم ببداية جديدة بداية معها بالذات أشعر بدقات قلبي ترتجف…
ولكن من يعرف ما الذي خبأته لنا الأيام” ص 221 .
هذه الرواية بلا نهاية واضحة؛ إنها تبدأ حيث تنتهي وكأنها تحاول إعادة القارئ إلى نقطة البداية التي هي في الأساس ليست سوى حبكة كاتب. إنها تتصارع مع كل كلمة منذ اللحظة الأولى إلى النقطة الأخيرة أحداث، وقائع، مشاهد وقصص مع بعضها البعض في حلقة واسعة النطاق من الأسئلة التي تخلفها الرواية في أذهان القراء عامة. الرواية تفوقت في الأسلوب الواقعي والتخيلي والسرد واللغة والحركة الزمكانية والحبكة مما جعل من العمل يتميز بالبعد الفلسفي.