15 نوفمبر، 2024 10:53 ص
Search
Close this search box.

قراءة في مجموعة يسري الغول (جون كينيدي يهذي أحيانًا)

قراءة في مجموعة يسري الغول (جون كينيدي يهذي أحيانًا)

 

قصة دير شبيغل/ المرأة أنموذجاً

إعـــــــداد: د. عبد الرحيم حمدان

تقع المجموعة القصصية الجديدة التي صدرت حديثًا سنة ٢٠٢٣ م عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت بعنوان “جون كينيدي يهذي أحيانًا”، للروائي والقاص الفلسطيني يسري الغول ()في نحو مئة وستين صفحة من القطع المتوسط، وتوزعت على عشرين قصة قصيرة، وجاءت بأسلوب غرائبي فنتازيا، من خلال استدعاء أحداث ومواقف وقعت بعد موت الأبطال، ومعظم تلك الشخصيات هي شخصيات بارزة عالمياً في السياسة والأدب والفكر مثل: جون كينيدي وبابلو وشرين أبو عاقلة وغيرهم. وعالج الكاتب يسري الغول في مجموعته القصصية هذه عدداً من قضايا واقع المجتمع الفلسطيني المتنوعة: السياسية والوطنية والاجتماعية.

ملخص القصة:

 تبدأ قصة “دير شبيغل/ المرآة وهي القصة الأولى في المجموعة، برجل ميت وهو الشخص السارد الذي يحكي بلسان الكاتب نفسه، والذي وجد قبره مفتوحاً فهرب، إذ كان يلبس جناحين ويحلق، يلتقي امرأة انصرف عنها زوجها إلى أخريات، وهي مشتاقة إليه، ويجري معها حوراً عاطفياً حاراً يعوضها عما افتقدته من زوجها الذي خُدعت بمظهره الخارجي.

 وهي قصة خيالية منحوتة من عالم بعد الموت، وتنتمي إلى قصص الواقعية السحرية التي تنهض على الأحلام والكوابيس. ويجري ذلك لمجرد تغريب الشخص عن واقعه، وتزجية أوقات الفراغ، وهروب من اليومي المباشر، سياسياً كان أم اجتماعاً، وتحويل هذا الواقع إلى مادة للسخرية.

يأخذ الكاتبُ في هذه القصة المتلقي إلى عالم من الفنتازيا والغرائبية؛ ليعبر من خلال نصوصها عما يريده من رؤى وأفكار، فيلجأ إلى هذه الحيلة الغرائبية؛ لكي يستنطق من خلالها الأموات، ويجعلهم يقومون بالأفعال، ويجعل الشخصيات تعيش في حالة من الأحلام والكوابيس والهذيان حد الهلوسة. 

تمكن الكاتب في هذه القصة التي تعد أنموذجاً صادقا لسائر قصص المجموعة من استحضار آلياته الفنية وأدواته السردية؛ ليوصل رسالته ومفهومه في هذه القضية الاجتماعية، وهذا المضمون الفكري في قالب فني قصصي جميل ومؤثر، فما تلك الأدوات والآليات السردية التي استعان بها في بناء قصته؟ في الواقع وظف الكاتب عدداً من الأدوات والآليات السردية في خطابه السردي منها:  

أولاً – عنصر الشخصيات: 

تمثل الشخصية ركناً أساسياً في بناء القصة القصيرة، وقد جاء رسم الشخصيات هذه القصة بأسلوب غرائبي فنتازي، من خلال استدعاء أحداث ومواقف وقعت بعد موت البطل الشخصية الرئيسة السارد. 

تعد شخصية السارد وهو الرجل الميت الذي خرج من قبره؛ ليتحول إلى روح شفيفة أو يتلبس في هيئة جني؛ ليزور الأحياء كحلم في أثناء منامهم، هي الشخصية الرئيسة في القصة، إذ أخذ السارد يقود السرد ويوجهه، يقول في مفتتح القصة:

كلُّ ما في الأمر أنني وجدت القبر مفتوحاً على مصراعيه؛ فهربت … ألبس جناحين كبيرين، ثم أحلق فوق الأسطح والأبنية المتهالكة، بحثاً عن حكاية أقتل بها الملل ورفاق الحزن؛ حتى اكتشفت ضالتي صدفة” (المجموعة، ص: ٩ ).

يكشف السارد في حوار درامي عن ملامح الشخصية الرئيسة الثانية وهي إحدى الزوجات التي كانت تعاني من فراغ عاطفي بسبب انصراف زوجها عنها، فتقول شاكية في حوار درامي مع السارد:

  – تزوجته؛ لأنني أعجبتُ بمظهره الخارجي، يلبَس أرقى أنواع الموضة، يتحدث كسفير، يجيد لغات خمساً، وأنا التي تقدس بدلة الزفاف كصديقاتي اللواتي يهمسن دوماً بجمالي، ولسوء حظي اقترنت به. 

 –هل تزوجتما إذاً؟ 

– نعم… لم تطل فترة الخطوبة، كان كثير التذمر والصمت غالباً، بينما أتحدث عن كل شيء.

– لئيم …

– كيف عرفت؟!

– لأنه لا يمنحك فرصة؛ لتحديد طبيعة أفكاره ورؤيته للمستقبل، يترصدك بين الحروف؛ ليقوم بتشكيلك كيفما يريد. 

–هذا صحيح؛ فلم تمض سوى سنة واحدة حتى مللت، ما عاد يرغب بالحديث معي، إنما يبحث عن جسدي. (المجموعة ص ١١).

قارب الكاتب في هذا المجتزأ من القصة قضية اجتماعية إنسانية، والتي تقوم على إعجاب بعض الفتيات بالمظاهر الخارجية الخادعة للرجل، مثل: جمال الهيئة، وجمال الملابس الراقية التي تتماشى مع أرقى أنواع الموضة، واللباقة في الحديث والحديث بغير لغة، وبعد الزواج تنكشف الحقيقة الزائفة، فيحل التذمر والصمت بدلاً من مبادلة كلمات الحب، فالزوج لم يعد يخاطب زوجه ولا يستمع إلى حديثها؛ حتى يتمكن من تحديد أفكارها ورؤيتها للمستقبل، وما يلبث أن ينصرف عنها إلى غيرها؛ الأمر الذي يجعل الزوجات يعشن في فراغ روحي، فيبحثن عما يسد هذا الفراغ، ولو في الأحلام.

 وما زال الرجل الميت يتتبع شخصية المرأة المتزوجة، وأخذ يجري معها حواراً، وهي نائمة، ويحدثها عما افتقدته من مشاعر الحب، ويحاول أن يعوضها عن حنان زوجها، ويجري مغامرة معها، يقول:

“مضت عدةُ أسابيع لم أخرج فيها من قبري، كنت منعزلاً عن فتاتي الطارئة، خوفاً من سرقة حياتها لأجل الخيال، لكنني قررتُ في لحظة غضب، وتحديداً بعد صراخ المقبورين بجواري، البحث عن بيت أسكنه؛ لذا عدتُ مهزوماً إليها، وقد كانت برفقة رجل آخر، يحتسيان كؤوساً من النبيذ، يلتقطان صور سيلفي، بينما يقبلها الرجل بشراهة؛ لأتبين وجهه من المرآة.. إنه أنا) “المجموعة ص15 ).

  يتبين أن الكاتب عمد إلى استدعاء شخصيات قصصه من الأموات/ سكان القبور، واستنطاقها بما يريده الكاتب، إنها شخصيات أدبية ما بعد الموت، وكان يختار تلك الشخصيات وينتقيها بعناية واقتدار لتعبر عن تجاربه الأدبية. وكأنه بعمله هذا يؤسس إلى اتجاه أدبي جديد في بناء فنه القصصي، ينهض على الاتخاذ من الأموات شخصيات لفنه القصصي، وهي بالطبع شخصيات ذات طابع فنتازي عجائبي، ومن علم اللامعقول، حيث إن الكاتب خلق عوالم سردية تضج بالحياة، كما لو كان واقعاً نحياه، فهناك التنقل من حياة القبور إلى حياة الأحياء ومحاورتهم ومواساتهم في أحزانهم، عالم لا يمت حتى للخيال بصلة. 

نجح الكاتب في رسمه للشخصيات وتحميلها ما يريد من أفكار بعدما أدخل المتلقي معه في حالة من الهذيان متكئاً في ذلك على خياله الخصب؛ لكي يصنع عالماً جديداً لم يُسبق أن خاض غماره أحد بهذا الشكل الخلاق. فشكل عمله هذا حالة متفردة ونوعية في الأدب الفلسطيني الحديث، وقد جاء أسلوب السارد بالحديث بضمير المتكلم؛ الأمر الذي يضفي على التجربة طابعًاً من المصداقية بعيدًا عن التقليدية والقصدية.

ثانيا – تقنية الحذف:    

تعد تقنية الحذف إحدى الآليات التي استعان بها الكاتب في رسم شخصياته والأحداث، وهي تُعني بالمتلقي وتمنحه فرصة للاشتراك في تخيل أحداث القصة ووقائعها وملء فراغاتها، وهي تقنية فنية تعبيرية جمالية، وهي تحمل دلالات واسعة، وهي تحمل دلالات واسعة، وتعني بالمتلقي وتمنحه فرصة للاشتراك في تخيل أحداث القصة ووقائعها وملء فراغاتها.

 وقد وظّف القاص علامة النقاط الدالة على الحذف توظيفًا ذكيًّا، جعل منها فاعلةً في البناء القصصي، معيّْنَةٍ له في تحقيق شرط التكثيف، فقد وفَّرت عليه استخدام كثيرٍ من الكلمات، وعبَّرت عن تتالي الأحداث، وأبقت على الأسلوب سلسًا وكأنَّه أجزاءٌ من مقطعٍ موسيقي. يقول الكاتب: ”   

“كل ما في الأمر أنني وجدت القبر مفتوحاً على مصراعيه؛ فهربت…

“خطواتي إيقاعٌ مستمر، نزفٌ لأيام تمضي برتابة ق أتصفح الوجوه/ الجدران بينما يداهمني الوقت؛ فأسافر إلى أمكنة غارقة في الغياب” (المجموعة، ص:٩).

     وفي موضع آخر يوظف الكاتب التقنية ذاتها، فيقول في حوار بين المرأة والسارد، والذي تبدؤه المرأة:

  – لا تقلق؛ لأنني أعرف كيف أسرقك من الحلم؛ لتصبح حقيقة. 

 –ههه هل سنصبح قصة ؟! 

  • بالتأكيد، وسنصير أيقونة للعشاق.
  • أنت تحلميـــــــــــ…

تعمد الكاتب عدم إكمال جملة (تحلمين)؛ ليوحي للمتلقي بدلالات استحالة عمل المرأة، وعدم قدرتها على تحويل الحلم إلى حقيقة، فالمرأة تعيش في عالم الأحلام والكوابيس، ولن تستطيع تحقيق ما تطمح إليه.

إن مثل هذه الفراغات لها دلالات جمالية موحية، فهي تثير القارئ، وتستفزه إلى القيام بتتبع الفجوات الكامنة في نصوصها وملئها؛ ليصل إلى معانيها الحقيقة، وتوظيف الكاتب الفراغات دلالة على أحداثٍ مسكوتٍ عنها تستبين من خلال ما قبلها وما بعدها، أو من خيال المتلقي لما يحتمل أن تكون .

فالصمت آلية اعتمدها الكاتب؛ ليعطي الفرصة لقرائه؛ كي يساهموا في بناء المشهد السردي بناء مشتركاً؛ لأن الخطاب الروائي خطاب إنساني يترجم المعاني الإنسانية والقيم والأشواق والمحن؛ ذلك لأن الصمت والبياض والفراغ والحذف معادل بياني للإيجاز بالحذف في البلاغة العربية.

ثالثا – تناسل الحكايات: 

       وظف الكاتب في خطابه القصصي تقنية تناسل الحكايات وتوالدها، ويقصد بها أن الأحداث الرئيسة تستقبل أحداثاً خارجية أخرى تدعم تلك الأحداث. إذ أفاد من هذه التقنية في ذكر عدد من الحكايات من خارج القصة منها: إنه يستعيد حكاية جدته التي تحمل دلالات الحكمة والوقار والتأمل، لخدمة أفكاره التي يريد توصيلها إلى القارئ، يقول:

 “كانت جدتي تحكي لنا عن الميت الذي يستطيع اختراق الأجساد للوصول إلى العقول والقلوب، يبشّر هذا بالعمر المديد، وهذه بالموت، يرسم للنائم في ثوانٍ معدودات حياة مختلفة كأنها أعوام، ثم تقول وتجاعيد وجهها تبرز بشكل واضح: 

“الحياة… ثوانٍ معدودات، فاحملْ نفسك، وهاجرْ إلى قلبٍ تُحبُّه”. (المجموعة، ص:10).

 وفي مكان آخر يستحضر حكاية أحد الأفلام الهندية، ويوظفها لخدمة مضمونه وتأكيد رؤيته، يقول: 

“بقيتُ أتابعها، وهي تفتح التلفاز، تشاهد فيلماً هندياً لشاروخان، يسافر البطل لتجارته في اليوم التالي من الزفاف، فيعجب جِنّيّ حالم مثلي، كيّف لـ كيشان/ شاروخان أن يترك عروسه بتلك السرعة؛ ثم يقرر تأدية مهام الزوج حتى تتعلق المرأة بالجني أكثر من الزوج نفسه” (المجموعة، ص : ١٣ (.

تكشف هذه الحكاية عن ثقافة الكاتب الواسعة، ومظان معلوماته المتنوعة، وكيفية توظيفها بما يخدم الخطاب السردي لقصته، وأن بعض هذه الأفلام تعالج – أيضاً- قضايا اجتماعية على قدر كبير من الأهمية.

   يمكن للمتلقي أن يعد تقنية التقطيع الزمني لوناً من تناسل الحكايات، إذ تعمل على توقيف التتابع الزمني للأحداث، وإدخال حكاية جديدة، وهي صوت سيارة الإسعاف، فيتوقف حلم المرأة، فلم تستطع إكماله:

” يخرج صوتُ سيارة إسعاف في الشارع فجأة، يوقظ حبيبتي من سباتها…) المجموعة، ص: ١٣ (.

رابعاً – اللغة:

تشكل اللغة اللبنة الأولى الأساسية في الإبداعيات الأدبية، فلا يعد أيّ عمل أدبي ولا لساني ولا نقدي؛ إلا إذا تميزت لغته، وتعددت أساليبه جاء الوصف بلغة مجازية فيها خيال مجنح، فالألفاظ ذات قدرات إيحائية وتشمل لغة القصة الوصف والحوار. 

   وقصة دير شبيغل/ المرأة غنية بالأساليب اللغوية التي تثير القارئ، وتستفزه إلى القيام بتتبع الفجوات الكامنة في نصوصها؛ ليصل  المتلقي إلى معانيها، وتتناول أهم المظاهر الأسلوبية التي اشتملت عليها الرواية مثل : الأساليب الإنشائية من استفهام ونداء وتكرار، وتضاد.

ومن الوصف الذي وظف المفردات الموحية قول الكاتب: 

جسدي الذي تكوَّر بسرعة ” (المجموعة، ص: 11 (.  

فللوصف وظيفة ذات طبيعة تفسيرية ورمزية معاً، فرسم شـكل الشخـصيات وملابسهم وملامحهم -أيضاً- وكلُّ هذا يعطي فكرة عن تركيبها النفسي، فالوصف عنصر حيوي في تقـديم الشخصيات والأحداث.  ()

فلفظ “تكور” يحمل دلالات واسعة موحية تدل على الحمل بجنين. وتحمل عبارات أخرى دلالات عميقة موحية:     

“خطواتي إيقاعٌ مستمر، نزفٌ لأيام تمضي برتابة ق أتصفح الوجوه/ الجدران بينما يداهمني الوقت؛ فأسافر إلى أمكنة غارقة في الغياب” (المجموعة، ص: 9 (.  توصيف رائع وجميل للكاتب المبدع في رسمه لملاح الشخصية الرئيسة، ومدى حرصه على النص الذي عبر عنه.

   ومن العبارات المجازية التي تحمل دلالات واسعة موحية؛ قولُ السارد: 

” تسربتُ إليها كماء، ولجتها كجني، بحثتُ عنها بين شرايين، وأوردة بساتين وحدائق، وفجأة اكتشفتُ أن داخل الروح حقلَ الغام لا نهاية له” (المجموعة، ص: 10 (.  تكشف هذه العبارات لغة توصيفة جذابة قادرة على حمل أفكار الكاتب ورؤاه الفلسفية، إلى الغاية التي يريدها.

   أما عن الحوار بنوعيه: الخارجي والداخلي، فقد برزت أهميته لكونه يدفع الأحداث إلى الأمام والكشف عما يعتمل داخل الشخصية من مشاعر وأحاسيس. 

فالحوار يمثل وسيلة رئيسة من وسائل السرد الروائي في رسم الشخصيات، والإبانة عن مستواها الثقافي والفكري والاجتماعي، كذلك يهدف إلى الكشف عن مدى التأثير والتأثر فيما بين أحداث القصة بشكل سردٍ روائي ينطوي على خصائص فنية عديدة، فقد عرض السارد أحداث الشخصية بشكل تفصيلي دقيق؛ كي يتيح للقارئ معاينة الواقع المعيش في المجتمع الفلسطيني بصورة واضحة تتجاوب مع ما كان عليه الإنسان الفلسطيني في ظل الأوجاع والمعاناة التي نجمت عن الاحتلال المرير، والحصار السافر، والانقسام البغيض.

أ – الحوار الخارجي

   ويقصد بالحوار الخارجي الحوار الذي يدور بين شخصين أو أكثر()، ويسمع الملتقى هذين الصوتين واضحين في مشهد واحد، ومن أمثلته؛ الحوارُ الذي دار في أثناء الحلم بين السارد الرجل الميت والمرأة التي نأى عنها زوجها، يقول على لسان المرأة :

  • أنجبتُ طفلاً جميلا، يشبهني، ذكيا مثلنا، دبلوماسياً في نقاشه كأبيه . – 
  •  كم عمره الآن؟ –
  •  عشرة أعوام، لكنه كبير يطاول السماء بجمال هيئته ومحتواه.

– وأنت؟ 

– أنا .. ماذا ؟ 

–  كم عمرك الآن؟

 – هل تريد الاقتران بي؟

 – ليتني أفعل .. لكنني لست جميلاً كزوجك. امتلأتُ بالجراح، وصار وجهي يقص للعابرين غرائبية الرجل المنبوذ

– لم أعد أبحث عن الجمال الخارجي، أنت لبق ومهذب.

– هاهاه، وكيف عرفتِ؟ 

    المتأمل في بناء القصة الفني يكتشف أنها تعج بالحوارات التي وظفها الكاتب على نحو سليم، بالرغم من أن القصة القصيرة في تكوينها الفني لا تحتمل الحوارات الخارجية الطويلة، وهي بالرواية أليق، على الرغم من كونها قصيرة مكثفة متتابعة متدفقة في يسر وسهولة، ومرتبطة بالسياق التي وردت فيه .   

ب – الحوار الداخلي

وهو حوار يدور بين الشخصية وذاتها ()، ويكشف عن الأحاسيس والانفعالات الداخلية وكوامنها المستكنة في قاع النفس الإنسانية.

 ومن أمثلة الحوارات الداخلية؛ قولُ المرأة معبرة عن ضجرها وغضبها من صوت سيارة الإسعاف التي قطعت عليها حلمها الجميل، يقول السارد على لسان تلك المرأة: 

أووووف، والله كنت مبسوطة بالحلم، منك لله يا سواق“.  (المجموعة، ص: 12).

ومن أمثلة الحوار الداخلي قول السارد نفسه:

   ” يا الله، ما كل هذا الجمل الذي تعيشه فاتنتي، إنها تصرخ في الداخل، تستغيث من رجل يريد قتلها» (المجموعة، ص: 10).

     ومن أمثلة الحوار الداخلي المباشر الذي تعبر عنه عبارة “سألت نفسي” قول السارد:

“سألت نفسي: هل يمكن لي أن أحاورها يقظة، أم أنها ستهابني وتهرب ؟!  (القصة ص:13). 

      ويلحظ المتلقي امتزاج الحوار الخارجي بالحوار الداخلي، و- أيضاً – بالسرد ومثال ذلك قول السارد:

– ألم يبادلك كلمات الحب؟ 

– بلى، فعل ذلك بداية زواجنا ثم انصرف إلى أُخريات.   

“یا الله، هل كل هذا الحوار يحدث، وأنا ما زلتُ في ربع الثانية الأولى من الحكاية الحلم / الكابوس …؟ (المجموعة، ص: 11 (.

يلحظ القارئ سلامة لغة المؤلف من الأخطاء اللغويَّة نحوًا وإملاءً في وقتٍ أصبحت هذه الأخطاء قاسمًا مشتركًا يشوِّه كتابات كثيرٍ من الأدباء، إنَّ عناية المؤلف باللغة وصلت إلى حرصه على كتابة علامات الترقيم؛ الأمر الذي يتناساه عمدًا أو جهلاً كثيرٌ من الكتَّابِ بالرغم من أنَّه من مقتضيات اللغة العربية عند كتابتها.

خامساً – التعبير عن الجنس:

 تمثل قضية الجنس محوراً مهماً من المحاور التي حفلت بها الرواية والقصة القصيرة في الأدب العربي، إذ ظل الجنس موضوعاً حيوياً، وقضية مهمة في الحياة التي يقدمها العالم الروائي والقصصي، لا يمكن التغافل عن دراستها وابداء الرأي فيها، وتظل يعد واحداً من العوامل المؤثرة في شخصية الفرد والجماعة، وأن له دوراً فاعلاً في رسم الصورة الحقيقية لعلاقة الرجل بالمرأة على السواء.

     لم يكن التعبير عن الجنس الذي يعده بعض النقاد ظاهرة تجديد وتحول في كتابة النصوص الأدبية، إذ لم يكن حضور الجنس في قصته اختراقاً للممنوع؛ بوصفه تمرداً على قيم الحياء والحشمة والأخلاق التي تقوم عليها الثقافة العربية التقليدية.  ولم يأت الجنس كهتك لعرض هذه الثقافة، وكفض لبكارتها؛ وإنما لخدمة أغراض فنية في البناء الفني للقصة. 

   يحضر الجنس في هذه القصص؛ بوصفه تعبيراً عن التطلع إلى التحرر، تحرر الرجل، وتحرر المرأة بخاصة.  لقد أورد الكاتب حديثه عن الجنس في أسلوب غير مباشر مستخدماً طريقة الإيحاءات الجنسية في إشارات لطيفة؛ لتكون منجاةٌ له من الوقوعِ في هذا العيبِ، وتلك الإباحية؛ حفاظًا على القيمِ والمبادئ والأخلاق داخل المجتمع.   يقول السارد الميت: 

“المرأة ضالتي تتثاءب توشك على النوم بعد أن فرغت من العبث بهاتفها المحمول، كأنها كانت تقتل الوقت بالحديث مع عابر سبیل مثلي يبحث عن مجنونة تسرقه من ضجيج هذا العالم، تخلع قميصها الأبيض تلقي به على الأرض؛ فتثيرني، تبعث في روحي شيئاً من رغبة، شيء ما يرتعش، ولا جسد يحملني، أتسلل إليها وأجلس عند رأسها “(المجموعة، ص: 9).

      بيد أن السارد في موطن آخر من القصة يزداد جرأة في حديثه عن علاقته بتلك المرأة في الحلم، فيعبر بذلك بقوله: 

  لثمتني بجرأة لم أعتدها، قبلة أنستني طعم التفاحة الأخيرة، غرقت فيها وهي تنزع عني ثيابي كي تمارس معي كل جنون “لاتشي” الهندية، وأنا لم أبخل عليها بشيء؛ إذ كم تمنيتُ أن أحظى بلحظة فرحٍ بعد أن أويتُ إلى فراشي داخلَ القبر، أقضمُهَا؛ لأتبخر مجدداً” (المجموعة، ص: ١٤، ١٥ (.

       انتقل الكاتب في تعبيره عن الجنس في المقطع السابق من المضمر إلى المصرّح به، من الخفي إلى المتجلي، إمعاناً في الواقعية أحياناً، وأحياناً أخرى نقداً للواقع المعيش عبر شفيرة الجنس، فلم يعد يستخدم التورية والتلميح، بل لجأ إلى أسلوب البوح والمجاهرة في الخطاب القصصي، فهل كانت المشاهد الجنسية التي ذكرت تثري حقاً العمل الفني، وتساهم في نماء أو تطور العمل الأدبي؟

     إن الجنس في هذه القصةِ عنصرٌ من عناصرها يخدمُ العملَ الفنيَّ ويثريه! ولم يأت ليدغدغ غرائز الشباب في سن المراهقة، أو يثير غرائزهم، فيقبلون على مثل هذه النصوص، وكأنها عمليةٌ رخيصةٌ تستهدفُ إثارة الغرائز، ولم يأت الجنس في القصة على أنه مجرد إقحامات أو إبتذالات بعيدة عمّا يتطلبه المتن القصصي في خصوصه وعمومه وهمومه وسياقاته، فضلاً عن أن الكاتب لم يجعل من قضية الجنس محوراً أساسياً تدور حوله أحداث قصته.

أتمنى للكاتب مزيداً من التألق والإبداع في متونه القصصية القادمة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة