خاص: قراءة- سماح عادل
يحسب لبعض الكتاب العراقيين بقاءهم داخل وطنهم رغم تفجر الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وطول فترة الحروب التي تواصلت. كما يحسب لبعضهم احتفاظه برأيه وعدم مهادنته للسلطة رغم قوتها، حتى وإن لجأ إلى الترميز في الكتابة وإلى الإيحاء لكي يتجنب بطش السلطة، فمن اختار أن يبقى في وطنه بإرادته الحرة رغم أنه كان يستطيع أن يهاجر، وقرر أن يبقى ويعيش الظروف السيئة مع أهله وذويه يعد بطلا. خاصة عندما يتحمل ظروف اقتصادية واجتماعية قاهرة ولا يبيع رأيه أو يتملق السلطة أو ينافق، أو يتخلى عن مبادئه وأخلاقه، هكذا كان الكاتب الستيني صاحب التاريخ في الكتابة “أحمد خلف”، والذي يعده الوسط الثقافي العراقي من أبرز الكتاب الذين تواصل إنتاجهم الإبداعي منذ الستينيات وحتى الآن.
ويؤكد بعض الكتاب أن “أحمد خلف” اختار أن يكتب عن واقعه دون اللجوء إلى عصور ماضية أو تمويه وغموض في كتاباته، أو لجوء إلى أساطير أو كتابة غرائبية، فقد كتب عن التفاصيل الحياتية واليومية لوطنه، مع الاحتفاظ بنوع من الترميز والرسائل الموحية داخل أعماله.
رواية “موت الأب” للكاتب العراقي الكبير “أحمد خلف” التي كتبها عام 1995، وصدرت عن دار الشؤون الثقافية في العراق عام 2002 تحكي عن أب متسلط وشرير، يفرض سلطته بقوة وبعجرفة مما يؤثر على أبناءه والآخرين الذين دفعهم القدر إلى الانضواء تحت سلطته.
الشخصيات..
يوسف: بطل الرواية، يحكي عن والده القاسي المتسلط، ويبدو أنه قد تعرض لقهر كبير نتيجة لتسلط والده، استمر تأثير هذا القهر طويلا في نفسه حتى عندما أصبح رجلا ناجحا بالمعنى المادي واستطاع أن يكون تاجرا غنيا.
الكاتب: كاتب صحفي يتعرف على يوسف في مرسم صديق مشترك، ثم يطلب منه يوسف كتابة حكايته في رواية لأنه لا يستطيع التعبير بالكتابة عن ما يدور داخله، فنتعرف كقراء على يوسف من خلال عيون الكاتب.
الأب: رجل غير متعلم، يتصرف بعجرفة، يؤجر غرف منزله ويصر على فرض سلطته على المؤجرين لمنزله معلنا أنه صاحب السلطة في هذا المنزل، يخون زوجته، ويطرد ابنه الكبير حين يعلم بأنه يعاشر تلك السيدة التي يخون زوجته معها، ويعامل ابنه الثاني بقسوة، وتخضعه زوجته الثانية ساهرة بسبب سطوة إغواءها.
الأم: ضعيفة ومستكينة، لكنها حين تلم بها الكوارث، أولا بفرار ابنها إسماعيل مع سارة، ثم يتزوج عليها الأب تقرر التمرد لكنه نصف تمرد حيث تبدي اعتراضا على ما فعله زوجها دون رغبة حقيقية في الحصول على الطلاق. لكن يطلقها زوجها بإيعاز من زوجته الثانية ساهرة وتستسلم للأمر الواقع، وتذهب إلى منزل أهلها وتستسلم لقهر زوجها الذي يحتفظ بالابن الثاني، ثم تتزوج من نوح شقيق زوجها ثم تموت كمدا بعد أن يقتل نوح على يد شقيقه.
أمجد: بطل رواية ثانية، كان الكاتب الصحفي قد كتبها ولم تكتمل وعرضها على صديقه يوسف، لا نعلم مدى تطابق شخصية أمجد مع شخصية الكاتب الصحفي.
هاجر: ابنة خالة البطل أمجد داخل الرواية الثانية، وهي فتاة ذكية ولطيفة لكنها تتعرض لتجربة سيئة.
وهناك شخصيات أخرى داخل الرواية.
الراوي..
الرواية تروى بصوت الكاتب الصحفي أولا، ثم يترك مساحة كبيرة ليوسف ليحكي عن والده وسطوته، وهناك رواية أخرى داخل الرواية، يحكي فيها الكاتب الصحفي بصوت البطل أمجد الذي ربما يكون متطابقا معه وربما يكون الخيال قد لعب دورا في رسم شخصيته.
ليعود الحكي من خلال يوسف والكاتب الصحفي.
السرد..
الرواية محكمة البناء، تقع في حوالي 289 صفحة، وهي مكونة من ثلاث كتب، الكتاب الأول والثاني يحكيان عن حكاية يوسف وأبيه، والكتاب الثاني رواية أخرى ألفها الكاتب الصحفي ولم تكتمل، ويعطيها الكاتب ليوسف ليقرأها، وتعتمد الرواية الأولى على استدعاء الماضي حيث يحكي يوسف عن طفولته منذ البداية، لذا نجد الحكي يتنقل ما بين الوقت الحاضر وما بين الماضي، بينما الرواية الثانية تحكي عن أمجد، الذي يتذكر طفولته أيضا ويحكي عن حاضره وصعوبات حياته ككاتب صحفي في ظل ظروف الحصار الاقتصادي الذي تعاني منه البلد. لا تنتهي الرواية الثانية لأن الكاتب لا يكملها، بينما الرواية الأولى تنتهي بشكل مفاجئ حين نتبين أن الأب لم يمت، وإنما هو يعيش في منزل يوسف مع زوجته الثانية ساهرة.
رموز وإيحاءات..
رواية موت الأب تحمل كثير من الرموز والإيحاءات ربما لا يستطيع فكها إلا من عاش تلك الأحداث وتفاصيلها في العراق في فترة التسعينات وقت كتابة الرواية، لكني سأحاول فهم بعض تلك الرموز رغم كوني لا انتمي إلى المجتمع العراقي وإنما أتعرف عليه من خلال الروايات والمقالات، الأب المتسلط القاسي، المتهور الذي يتسلط على الجميع، ولا يمتلك الحكمة أو بعد النظر، وإنما يؤثر نفسه وتحقيق رغباته على الجميع حتى على أبناءه ربما هو رمز إلى الحاكم في ذلك الوقت، والنظام الذي كان يقهر العراقيين ويدفعهم إلى مصائر مأساوية بتخبط قراراته وسعيه إلى حروب لا فائدة منها، وجره لشعبه إلى حياة كارثية، حتى أن ما فعله ظل باقيا طويلا داخل نفوس أبناءه، فقد كانت قسوته أمر لا ينمحي بمرور السنوات.
والعم نوح الذي قتله الأب بالحجر بعد أن صارعه هو المعارضون الذين كانوا يسعون إلى تحرير البلد من ذلك الديكتاتور، لكنه عاملهم بوحشية وقسوة، وإسماعيل هم من هاجروا هربا من قسوة وبطش الحاكم، في حين أن الأم والابن يوسف هما الشعب، الذي توزعت مصائرهم ما بين الموت كمدا أو العيش بحسرة سنوات طويلة.
رصد لطبيعة المجتمع..
لكن تمتلئ الرواية برصد لطبيعة المجتمع في وقت التسعينات، وقت ما بعد فشل الانتفاضة الشعبية ثم الحصار الاقتصادي الذي أفسد الحياة وجعلها تعود إلى عهود بدائية في مناطق عدة، فقد وجد أمجد نفسه في واقع مأساوي بعد موت أبيه ولجوء أمه إلى صنع الخبز وبيعه، ورغم عمله في إحدى الصحف إلا أنه كان مضطرا إلى البحث عن مصدر آخر للدخل لأن الفقر طال معظم الناس، وحين وجد مخطوطة هامة لكتاب اسمه الكنز، حلم بالثراء لأن سعر المخطوطة كان كبيرا، لكنه رفض أن يبيعه وقرر تسليمه إلى الدولة، كاشفا عن بيع الكتب الهامة وقت أزمة المجتمع العراقي وتسفيرها إلى الخارج، فقد نهبت كنوز العراق من كتب وتحف فنية ولوحات تشكيلية وهربت إلى الخارج بعد أن باعها أناس قهرهم الفقر والعوز، لكن أمجد البطل لم يرض بأن يبيع كنوز بلده رغم فقره وحاجته.
ومن خلال حادثة هاجر ابنة خالة أمجد كشفت الرواية مدى الانحطاط الذي وصل إليه بعض الناس، حيث يغوي الرجال النساء طمعا في استغلالهن جنسيا، كما تدور بعض الجرائم من قتل أو سرقة.
فئة الطفيليات..
كما كشفت الرواية أن هناك فئة كبيرة من الناس اغتنت ببيع الثروات، باستغلال حالة الحصار والفقر الذي أصاب نسبة كبيرة من الناس، عن طريق شراء سلع غالية الثمن والقيمة بأبخس الأثمان ثم بيعها فيما بعد لتجار بمبالغ طائلة، وهربت نسبة كبيرة من هذه التحف إلى الخارج وما ظل منها في العراق أصبحت تزين بيوت فئة الطفليلين الذين اغتنوا من الكوارث والحرب مثل يوسف بطل الرواية.
كما يقول البعض أن الرواية تنبأت بماذا سيحدث فقد صورت الرواية الأب وهو في حالة ضعف وانكسار، كما توقعت حدوث احتلال لبغداد، نتيجة لقراءة عميقة للواقع العراقي، لكن أهم ما يميز الرواية أنها كتبت وقت كان فيه القمع مازال ساريا، وكان الحاكم يطلب من الكتاب والمثقفين كتابات عن الحرب وعن الأوضاع، ورغم ذلك دفعها الكابت “أحمد خلف” للنشر وهذه جرأة تحسب له، في ظل واقع قاهر وموحش لا يعرفه سوى العراقيين.
يقول الكاتب “أحمد خلف” عن روايته “موت الأب” حوار أجريته معه منذ حوالي عامين: ” روايتي (موت الأب) عملت على كتابتها قرابة خمس سنوات بنوع من الإصرار على إدانة كل أشكال الاضطهاد والجبروت والقسوة والطغيان, أي كنت أحاول الوصول إلى كتابة ملحمة عراقية تلخص ما عاناه الإنسان العراقي على مر العصور، وخصوصاً أعوام سيادة الدكتاتورية, لقد جاءت الرواية أشبه بإعلان انهيار النظام الشمولي، لذا كتب الشاعر “عواد ناصر” مقالاً قال فيه أن رواية (موت الأب) تتنبأ بزوال النظام الدكتاتوري, والحق أردت منها أن لا تختص بفترة محددة أو نظام معين، ولكن ما كان سائداً من ظروف موضوعية حتمت تفسيرات قريبة من تحليل الشاعر “عواد ناصر”. ومن الطريف أن الرواية مازالت في مخازن المؤسسة التي أصدرتها, لذا أسعى إلى إعادة طبعها ونشرها من جديد”.
وفي ندوة عقدتها جمعية (الثقافة للجميع) يقول “أحمد خلف”: “كان يجب أن تقدم الروايات إلى دار الشؤون الثقافية، فأخذتها إلى الأستاذ باسم عبد الحميد حمودي الذي قال لي بعد أن قرأها (خليها تطبع وإذا جرجروك يجرجروني وراك)!!، لكننا قدمناها إلى أمجد توفيق الذي قال أنه سيعطيها إلى مدير عام في (المكان الفلاني)، وقرأتها السيدة ناصرة السعدون التي كتبت عنها فيما بعد كتابة رائعة، وظهرت الرواية وجاءتني العزيزة ابتسام عبد الله وقدمت لي مقترح أن أقدم مذكراتي عن الحرب إذا طلبها الحاكم وليس (موت الأب) لأنها تعنيه !!، وبالفعل أخذت المذكرات وأجريت عليها بعض التعديلات ودفعتها مع روايات الآخرين، وعزلنا (موت الأب) على جهة، هذه الرواية رافقها حسن حظ وسوء حظ، سوء الحظ أنها حسبت على مشروع الحاكم، وحسن الحظ أنها كانت شهادة براءة لي من أية علاقة بالسلطة لأنها كانت ضد أكبر رأس بالدولة”.
اعتمدت الرواية على لغة عذبة، وعلى تصوير عميق للشخصيات، وعلى سبر أغوار نفوس بعض الشخصيات ونقل انفعالاتهم ومشاعرهم تجاه واقعهم، وعلى رصد للظروف الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع في وقت كتابتها، كما احتوت على مواقف أخلاقية ومبدئية لبعض الشخصيات داخل الرواية مؤكدة بذلك على أهمية الاحتفاظ بالأخلاق والمبادئ حتى في وقت الانهيار والأزمات، كما رصدت مواقف غير أخلاقية لشخصيات أخرى موضحة بذلك مدى تحلل المجتمع.