اختبارات (الإغواء الروائي) ومطبات (العتبات)..
كتب: صلاح محمد الحسن القويضي- السودان
كثيرًا ما اعترضت على مصطلح (العتبات) الذي يصر كثير من نقادنا الأكاديميين المبجلين على استخدامه. وكان أشد اعتراضي على وصف (عنوان الرواية) بأنه (عتبة). فقلت {إننا نترك العتبة وراءنا بمجرد الولوج للدار. أما عنوان الرواية فيتابعنا في رحلة (تجوالنا) داخل الرواية، إما كظل أو إشارة أو أثر وغالبًا ك(مؤشر) أو (تساؤل) لا نجد الإجابة عليه إلا ونحن نقرأ الجملة الأخيرة في الرواية}، وقد يظل بلا إجابة فاتحًا الباب للمزيد من الأسئلة.
ويصدق ذلك على عنوان رواية سارة الجاك الأخيرة (الأحجية _ سقوط شجرة الجميز). فقد أثار لدي العنوان تساؤلًا (مقلقًا). فهل هي (الأحجية) التي تحكيها (الجدة) فتبهج الأطفال و(تنيمهم). أم هي (الأحجية / الغلوطية / اللغز / الفزورة) التي تطلب (الحبوبة) إجابتها، والتي كثيرًا ما تظل بغير إجابة. فغالبًا ما ينام الطفل قبل أن يجد الحل ثم يصحو من غده وقد نسي السؤال.
وأغلب الظن أن ذلك التساؤل سيلاحقني لفترة طويلة خلال قراءتي للرواية، رغم تطوع الأستاذة سارة بتقديم إجابة في لقائنا الأخير بمركز نرتقي. واستدامة التساؤل المصاحب (لعتبة) العنوان واحد من بشارات (النجاح) في أول اختبارات (الإغواء الروائي).
ويستكمل (سحر العنوان) جماليته بإضافة عنوان فرعي (سقوط شجرة الجميز) الذي يحيل (إحالة عكسية) ل(الأشجار التي تموت واقفة) ويطرح مزيدًا من الأسئلة حول (حقيقة / دلالة الجميزة) نفسها وعن (معنى وأسباب ومآلات) ذلك السقوط.
فهل يمكن القول بأن قراءة رواية إنما هي رحلة للبحث عن إجابات التساؤلات التي يثيرها العنوان؟ وهل يجوز إن سلمنا بذلك القول بأن العنوان مجرد (عتبة)؟
تلج بنا سارة الجاك مسارح سرديتها عبر مدخل على شكل (اقتباس) أو (نص عالي التركيز). تقول قبل بداية الفصل الأول (الوقت كعبة ولا مناص … والمحل أسعد ولا بياض). وهو تركيز عال يتحول عند القارئ إلى (تساؤلات) أخرى تضاف إلى تساؤلات العنوان فيستحث المتلقي أن يواصل القراءة، آملًا في الحصول على إجابات من خلال تلك القراءة.
وإذا اعتبرنا السرد (نسيجًا)، فما (الوقت/ الزمان) و(المحل / المكان) سوى (لحمته) و(سداته). وما الكعبة سوى (المحج) وما اختفاء البياض إلا أثر سواد الحبر.
والجملة الاستهلالية مما يفترض النقاد أنه (عتبة) أخرى من عتبات النص. وجملة سارة الجاك الاستهلالية في سرديتها (الأحجية – سقوط شجرة الجميز) تأتي تصديقًا (مبدئيًا) لخبر (النص عالي التركيز) الذي استبقت به فصل روايتها الأول.
تقول سارة الجاك، أو راوي السردية، والأمر ليس سيان:
(أصوات لاصطكاك مكونات ضخمة تصدر جلبة كبيرة، قبل أن تتركب وتستقيم واقفة، تنتظم خطواتها المرعبة، هياكل عظمية عظيمة، لأجساد متفحمة بلهب متقد، تمشي تتهشم، يتناثر سخامها، يذر الرماد في العيون، تطفو على الذاكرة … رائحة الشواء الآدمي، طعم الدماء المتخثرة، يخرجون من قلب الروح المظلم، يخوضون ماءه، يضربونه بأقدام غاضبة، فتتطاير قطرات الدم الحمراء، خرير الماء غاضبًا كما كان في ذلك اليوم.) أ.هـ
ويا (لهول) الاستهلال.
تتميز هذه الافتتاحية بشلال من الأفعال (تصدر – تتركب – وتستقيم – تنتظم – تمشي – تتهشم، – يتناثر – يذر – تطفو – يخرجون – يخوضون – يضربونه – تتطاير). وكلها في (المضارع ـ الآن – الحاضر – المشاهد). هذه الجمل الفعلية المتتالية تحمل القارئ إلى (قلب) الحدث. إلى (المحل) و(الزمان).
ولكنه محل (غفل) رغم (حضوره) و(زمان) (مبهم) رغم (راهنيته).
ترى هل أرادت سارة الجاك أن تقول إن زمان سرديتها هو (أي زمان) وأن مكان روايتها (أي مكان)؟. ذلك على الأقل ما استشعرته في قراءتي فاعتبرته (زماني)… وذلك اختبار آخر من اختبارات (الإغواء الروائي) … أن(يقول) النص الإبداعي (متلقيه) …
أواصل في ٢-٣
عن أدوات الإغواء الروائي متناولًا (الموضوعة)
و(بناء الشخوص) و(الحبكة) و(تقنيات السرد).
إن شاء الله …