17 نوفمبر، 2024 2:43 ص
Search
Close this search box.

قراءات نظرية: الثورات السلمية والتغيير السلمي

قراءات نظرية: الثورات السلمية والتغيير السلمي

شكل القرن العشرين قرن الصراع بين الديمقراطية ونظم الحكم الاستبدادية؛ كما أن التطورات السياسية الكبيرة التي شهدتها الخريطة العالمية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن العشرين جاءت نتيجةً لهذا الصراع الذي حققت فيه الديمقراطية انتصاراً كبيراً جعل البعض يطلق عليه “قرن الثورة الديمقراطية العالمية”(1)، بل وجعل البعض يؤكد أنه إذا ما كان هناك من ثورة سياسية في ذلك القرن فإنما هي ما يمكن أن نطلق عليه “قنبلة المشاركة”(2). ويرمزون بذلك إلى مشاركة الأفراد العاديين في التأثير على صناعة القرار السياسي.

موجة التحول الأولى

يمكن اعتبار القرن العشرين هو قرن التحول أو قرن العبور من أنظمة الحكم الشمولية إلى النظام الديمقراطي. وهو التحول الذي تم على ثلاث موجات كبرى اجتاحت العالم على فترات زمنية متقاربة إلى حد ما. فالموجة الأولى -وهي الأطول عمراً بين الموجات الثلاث-تمتد جذورها إلى الثورتين الفرنسية والأمريكية، إذ ما فتئت تعلو وتيرتها ببطء في الفترة التي تلتهما، وخصوصاً خلال القرن التاسع عشر، لتصل إلى ذروتها في القرن العشرين عقب الحرب العالمية الأولى مباشرة. فمع بداية عشرينيات القرن العشرين أجريت انتخابات عامة وحرة في حوالي 30 دولة (3)، وهو ما اعتبره “روبرت دال” تحولاً إلى النظام السياسي الديمقراطي، على الأقل من الناحية الإجرائية والشكلية (4). إلا أن تلك الموجة تحطمت في عام 1922 مع ظهور موجة معادية ومضادة بدأت بظهور موسوليني، والتي واكبها ظهور العديد من الأنظمة السياسية الفاشية أو الديكتاتورية أو الشمولية أو العسكرية في العديد من دول أوروبا وأمريكا اللاتينية.

الموجة الثانية

وما أن انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى بدأت موجة جديدة صغيرة من التحول إلى الديمقراطية شملت بلدان ألمانيا الغربية (سابقاً) والنمسا وإيطاليا واليابان، كما شملت ستة من دول أمريكا اللاتينية(5)، والتي لم تنعم بهذا التحول طويلاً، إذ وآتت العالم موجة أخرى مضادة في منتصف الخمسينيات وامتدت لتشمل ستينيات القرن العشرين لتتحول دول أمريكا اللاتينية والكثير من دول أفريقيا وآسيا مرة ثانية إلى الأنظمة السياسية العسكرية والشمولية.

الموجة الثالثة

ومن المفارقات أن بوادر الموجة الديمقراطية الثالثة بدأت مع الانقلاب العسكري في البرتغال (6) في عام 1974، ثم شملت كلاً من اليونان وأسبانيا في أوروبا، وامتدت لتشمل أمريكا اللاتينية التي حققت في ثمانينيات القرن العشرين مزيداً من التحول إلى الديمقراطية (7). كما طالت الموجة بعضاً من بلدان آسيا وأفريقيا، إذ شهد منتصف الثمانينيات نهاية حكم فرديناند ماركوس في الفلبين، وبعدها بقليل في عام 1988 تم القضاء على الحكم العسكري في باكستان، كما قادت النخبة الحاكمة في كل من تايوان وكوريا الجنوبية بلادهما نحو التحرر والديمقراطية.

ومع نهاية الثمانينيات بدأت “قطع الدومينو” في التساقط واحدة تلو الأخرى، إذ أخذت الأنظمة الشمولية تتهاوى، وبدأت الديمقراطية تزحف وتتقدم بسرعة على وجه الخريطة العالمية، فبعد مرور 15 عاماً على ثورة القرنفل استطاعت ثلاثون دولة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تحويل البنية السياسية السلطوية الشمولية إلى بنية ديمقراطية (8).

وقد صاحب تلك الموجة الثالثة كم هائل من النظريات والمناهج والمفاهيم والتحليلات المقارنة المتعلقة بفكرة تغيير النظم السياسية. وهو ما أتاح المناخ لإعادة البناء المنهجي للجوانب النظرية في بحوث التحول والتغيير. كما واكب تلك التحليلات السياسية والاجتماعية لهذه التحولات التاريخية موجة عارمة من المفاضلة والتفريق والتمييز الدقيق والحدي بين عمليات التحول المختلفة، وهو ما أدى إلى ظهور “ترسانة المصطلحات” المتعلقة ببحوث التحول والتغيير، وقد استخدمت مجموعة كبيرة من المصطلحات – بشكل مترادف أحياناً وبمعان متباينة ومختلفة أحياناً أخرى – لوصف الوقائع التاريخية وعمليات التحول المختلفة التي واكبت تلك الموجات الكبرى الثلاثة، فظهرت مصطلحات التحول والتغيير أو الثورة والانهيار والتحلل أو السقوط والتجديد والتحديث أو الإصلاح والتحرير والتحول إلى الديمقراطية وتغيير نظم الحكم أو تغيير النظام.

ولم يقف تأثير تلك الموجة العلمية على المصطلحات المتعلقة بالتحول والتغيير فحسب، بل جاوزتها لتناقش فكرة ومصطلح الديمقراطية في محاولة للوصول إلى إجماع حول ماهية الظاهرة والثقافة الديمقراطية التي ارتبطت بالكتابة الصحفية الإعلامية والأكاديمية العلمية لدى تناول المجريات والأحداث السياسية بالشرح والتحليل. وقد اتخذت تلك التحليلات مسارين رئيسين:

الأول: المحاولات التي صبغت تعريف الديمقراطية بالقيم المعيارية المثالية كالحرية والمساواة وحق التصويت الفردي والتعددية. والثاني: التعريف بالنواحي الإجرائية كأسلوب الانتخابات وعملية اتخاذ القرار السياسي.

إن أي محاولة لتحديد تعريف عالمي جامع وعام لمصطلح وظاهرة الديمقراطية أو للثقافة الديمقراطية لابد وأن يفشل نظراً لتعدد الثقافات والأديان والأعراف، ومن ثم فإنه من الأوقع حث الشعوب من مختلف الثقافات على إيجاد الخلطة الثقافية المناسبة الوصول للتعريف المناسب لهم لمصطلح الديمقراطية، على أن تبقى فكرة التعددية والحرية هي الفكرة المركزية والمحورية الرئيسة في مختلف تلك التعريفات (9).

مراحل التغيير السلمي:

يمر تحول المجتمعات من الديكتاتورية إلى الحرية بمراحل أربع هي:

1. مرحلة ثورة العقول:

وهي المرحلة الأولى في الحراك التغييري، وتتميز بالشباب والتجديد، إذ تبدأ هذه المرحلة بثورة عقلية تتجسد في حراك فكري جديد وأطروحات ورؤى جديدة تعيد تعريف الممكن والمستحيل، والصواب والخطأ، وتعيد ترتيب الأولويات وطريقة النظر إلى العالم وإلى الذات، وتجيب على الأسئلة الملحة المطروحة على الساحة، فتحدد طبيعة المعركة التي يخوضها المجتمع، وتحدد عقدة الصراع ودرجة التغيير المطلوب والمسار الملائم لإحداث هذا التغيير، وهي الأجوبة التي تتجاوز الأطروحات والأفكار القديمة التي عجزت عن إحداث الحراك الاجتماعي المطلوب. وهذا الحراك الفكري يستهدف بالدرجة الأولى الكوادر المؤهلة لتصدر قيادة الفعل السياسي والاجتماعي. ومن خلال استهداف تلك الأفكار والأطروحات الجديدة لتلك الكوادر تختبر تلك الأفكار قوتها وملاءمتها للواقع وقدرتها على الحشد والتأثير. ويهدف هذا الحراك الفكري الجديد إلى إعادة بناء وترتيب وتشكيل منظومة الأفكار لدى المستهدفين، وتوفير علوم التغيير أدواته التي تضبط فهم الواقع وكيفية التعامل معه.

2. مرحلة بناء قدرة المجتمع:

وتأتي نتيجة التقاط القادة التنفيذيين لصرخة الأفكار التي انطلقت في مرحلة ثورة الأفكار حيث تنشأ حالة عامة من الحراك التنفيذي في المجتمع، يتجاوز التنظيمات والأحزاب والحركات، ويخترق جميع المساحات الاجتماعية والسياسية، خاصة مناطق الفراغ التي عجزت حركات الماضي عن ولوجها. وتعتمد هذه المرحلة على:

رسم خارطة البنية التحتية للحراك التغييري، وتحديد مناطق الفراغ ومناطق التكدس بالمشاريع التغييرية، وتأسيس المشاريع الضرورية للعمل التغييري كالمشاريع الفكرية والتمويلية والإعلامية التي ستدعم تيار التغيير. بالإضافة إلى وضع تصور للمشاريع التي ستؤدي إلى تقويض قوة النظام، كإضرابات العمال، وقطع الدعم الخارجي عنه.
صناعة “التيار” الذي يتحرك في اتجاه تحقيق الأهداف المشتركة التي تتفق عليها لبنات المجتمع. وعبر هاتين الرافعتين تنطلق مجموعات العمل المنفصلة والحركات والتنظيمات والأفراد المستقلين مسترشدين بهذا التيار لتأسيس هذه البنية التحتية استكمال لبناتها وإتمام بنائها.
وهذه المرحلة تسودها استراتيجية الانتشار الفعال، المعتمدة على الاقتراب غير المباشر من الخصم، وعدم مسك الثور من قرنيه، عن طريق إطلاق الكثير من المشاريع المتنوعة المستقلة، التي تفقد الخصم تركيزه، وتفكك مركزيته، وتستوعب طاقات المجتمع وإبداعاته لتحقيق الأهداف المشتركة.

3. مرحلة الصراع:

وينتقل إليها المجتمع عقب بناء قدرته عبر تأسيس البنية التحتية ونشأة التيار، وفي هذه المرحلة تتحدد أداة الحسم والاستراتيجيات الرئيسة للوصول للقوة التنفيذية. وتتحدد في ضوء عدة أنماط قد يتعرض الحراك التغييري لإحداها:

التحول: وهو موقف نادر الحدوث، إذ تتحول فيه قناعات الخصم ويقدم على تقديم تنازلات طواعية لاقتناعه بصوابيه هذا الفعل وبعدالة القضية التي يتبناها الحراك التغييري، وهو ما نسميه “التحول”.
التأقلم: حيث يؤدي الفعل المباشر للمجتمع كسحب التعاون الاقتصادي أو السياسي إلى إجبار الخصم على تقديم تنازلات، وهو ما نسميه “التأقلم”.
الاستسلام: حيث يكون التمرد واللاتعاون من القوة والبراعة إلى درجة تضعف مصادر قوة الخصم بحيث لا يبقى أمامه من خيار سوى الاستسلام بشروط معينة، وهو ما نسميه “الإجبار اللاعنف”.
التفكك: في حيث يؤدي التمرد واللاتعاون الشامل والواسع النطاق إلى التدمير الكامل لمصادر قوة الخصم مما يؤدي إلى سقوط النظام، وهو ما نسميه “التفكك”.
وهكذا تتحدد أداة الحسم الرئيسة في ضوء هذه المواقف الأربعة التي قد تتعرض لها أو تختارها الحركة التغييرية. وتسود هذه المرحلة “استراتيجية التحالفات” حين تصل حركة المقاومة إلى نقطة التعادل الاستراتيجي مع الخصم وتكتسب بسياسة “التجمع السليم”، قدرة على بلوغ رتبة التفوق الاستراتيجي على الخصم، إذ تتجمع هذه المشاريع وتقام التحالفات، وتنسق فيما بينها عندما تحين لحظة الحسم التاريخية نظراً لاتفاقها على الأهداف المشتركة. ويبدأ تصاعد حملات المقاومة تدريجياً بحسب درجة الاستجابة للمطالب وتفاعل الجماهير، حتى تصل إلى استخدام أدوات اللاتعاون الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأدوات التدخل مثل احتلال البرلمان بلا عنف.

4. مرحلة الفعل الحضاري:

وتأتي بعد عودة الأداة التنفيذية إلى المجتمع بمؤسساته وهيئاته وأحزابه وأفراده، ليبدأ المجتمع في تطبيق البرنامج الذي يؤهله للانطلاق إلى المستقبل، وللمساهمة في البناء الحضاري عبر التنافس الحر بين البرامج المختلفة التي تتبناها الأحزاب والحركات والتنظيمات المختلفة. ولا تبدأ المشاريع النهضوية والتغييرية العملاقة والقوية إلا بعد عودة الأداة التنفيذية للمجتمع لأن هذه المشاريع الضخمة لا يمكن أن تنفذها الجماهير أو قواعد المؤسسات، وإنما هي مشاريع تحتاج إلى قرارات وميزانيات وتوجهات وسياسات دول.

وتحقيق النهضة يعتمد على الاستجابة الصحيحة للتحديات، من خلال تجاوز ثلاثة مراحل فرعية:

مرحلة الوجود: فكل كائن حي أو نظام قائم يحرص أولاً على بقائه أو وجوده.
مرحلة الاستقرار: فهذا الكيان الذي ضمن وجوده وبقاءه في المرحلة الأولى يسعى إلى الاستقرار. فتأمين الوجود والبقاء قد لا يعني استقرار النظام. لذا فهو يسعى إلى تعديل أوضاعه لإيجاد حالة من الاستقرار.
مرحلة النمو. وفيها يهدف الكيان النمو وتطوير ذاته والبناء. وهكذا فإن أي نظام يسعى إلى الوجود، ثم إلى الاستقرار، ثم إلى التنمية.
ووفق هذه الرؤية الكلية المرحلية يجب التمييز بين معركة الحريات، ومرحلة تنافس البرامج على الإدارة الأفضل للدولة، ففي معركة الحريات يكون الهدف تحرير إرادة المجتمع، واستعادته قوته كرقيب على الحكومة قادر على دعمها أو معارضتها أو تغييريها إن أراد. أما بعد انتهاء المعركة واكتساب المجتمع أدوات التعبير عن رأيه والدفاع عنه، تبدأ المرحلة الثانية، وهي المنافسة على البرامج، وهي المرحلة التي تتناوب فيها البرامج، ويختار فيها المجتمع أفضل الكفاءات لإدارة الدولة (10).

مراحل التغيير عند مارتن لوثر كينج

قاد مارتن لوثر كينج، الزعيم الأمريكي المشهور سلسلة من الحملات الناجحة مطالباً بحقوق السود -فقد حصر مراحل التغيير الاجتماعي اللاعنف في ستة مراحل هي:

الخطوة الأولى: جمع المعلومات: فأول خطوة ينبغي على الحركة التغييرية عملها هي البحث، فلابد من تقصي الحقائق وجمع كل المعلومات المهمة والأساسية حول القضية محور الصراع، ليزداد وعي الحركة بالقضية، فلابد أن تصبح الحركة التغييرية في عمومها خبيرة بوضع وموقف خصومها.

الخطوة الثانية: التعلم: إذ أنه من المهم تعليم أبناء الحركة والمؤيدين لها بأبعاد القضية، وإعلام الخصوم أيضاً بأبعاد القضية لتقليل هوة الفهم الخاطئ بين الطرفين ولاكتساب الدعم والتأييد والتعاطف.

الخطوة الثالثة: مراجعة الذات: إذ لابد أن تراجع الحركة فلسفة ووسائل الفعل اللاعنف الذي تمارسه، مع التخلص من الدوافع الخفية والشخصية وإعداد الذات لتحمل الصعاب في مسار كفاحها اللاعنف.

الخطوة الرابعة: المفاوضات: وفيها يتم مواجهة الخصوم -باستخدام الكياسة والدعابة -بقائمة من المطالب وخطة لجدولة وتنفيذ هذه المطالب.

الخطوة الخامسة: الفعل المباشر: وهي مجموعة الأنشطة التي تمارسها الحركة التغييرية لتدفع الخصم ليتعاون معها في تنفيذ هذه المطالب.

الخطوة السادسة: مرحلة التوافق: حيث يوافق طرفي الصراع على حل ما للقضية محل الاهتمام (11).

وهنا قصر مارتن لوثر كينج مراحل التغيير على توصل طرفي الصراع إلى صيغة ما لحل عادل للقضية محل الصراع.

إلا أن الحديث عن هذه المراحل بهذه الكيفية خلط بين خطوات التخطيط من جهة وبين تحديد أهم المحطات التي تمر بها العملية التغييرية من جهة أخرى، فكل مرحلة تتطلب تحليلاً وجمعاً للمعلومات حتى يمكن الانتقال إلى المرحلة التي تليها، لذلك نرى أن الحديث عن بعض الجوانب التخطيطية مثل المراجعة والتقييم لا نعتبرهما مرحلة بذاتها، فمع كل مرحلة بل مع كل نشاط تحتاج الحركة التغييرية إلى المراجعة والتقييم.

مراحل التغيير عند جين شارب

تتمثل في خمسة مراحل أساسية هي (12):

الأولى: التوقع والتحليل الابتدائي: وفيها يتم فحص القضايا الموضوعة على المحك من وجهة نظر طرفي الصراع، وإعداد تحليل للأنظمة الثقافية والسياسية والاقتصادية الاجتماعية الموجودة في المجتمع بالإضافة إلى التوزيع السكاني، ثم إعداد تقدير استراتيجي (13).

الثانية: تطوير الاستراتيجية: حيث يعاد تطوير الاستراتيجية العليا للصراع ككل، ويشمل هذا التطوير تحديد الهدف من الكفاح بشكل واضح ودقيق، وإجراء الحسابات العامة المتعلقة بكيفية إدارة الكفاح اللاعنف لتحقيق هذا الهدف، وتنسيق وتوجيه جميع المصادر المتاحة والملائمة التي تمتلكها حركة المقاومة، والتأكد من التناغم والتناسق بين مكونات الخطة الاستراتيجية: الأهداف وأنواع الضغوط المفروضة على الخصم والتكتيكات المختارة والوسائل.

الثالثة: بناء القدرة: وفيها يتم التأكد من ملاءمة الاستراتيجية لقدرة المجتمع، حيث تبذل الجهود من أجل بناء قدرة الجماهير أو من أجل تعديل الاستراتيجيات. كما تشمل هذه المرحلة تقوية وتعزيز المنظمات والمؤسسات التي تقع خارج نطاق سيطرة الخصم، خاصةً إذا ما كانت الاستراتيجية العليا ترمي إلى استخدام هذه الكيانات المستقلة خلال مراحل الكفاح لتفعيل عدم التعاون والتمرد.

الرابعة: الكفاح المفتوح: وفيها يتم تركيز قوة المقاومين على نقاط ضعف الخصم لتحقيق الأهداف المختارة وفق الاستراتيجية العليا والوسائل المنتقاة؛ خاصةً المتعلقة بقطع مصادر القوة عن الخصم، والتأكد من تغلغل المقاومين إلى المصادر الحساسة والحرجة والحاسمة، مع محاولة خلق حالة من عدم التوازن لدى الخصم مع المحافظة على استمرار هذه الحالة، واللجوء إلى الفعل بدلاً من ردود الأفعال. ومن ثم فإدارة المقاومة لابد أن تكون وفق شروط حركة المجتمع وليس وفق شروط الخصم.

الخامسة: نهاية الصراع: وفيها يتم تقييم ما بعد الصراع (النجاح أو الفشل أو خليط منهما) والتخطيط للمستقبل.

وقد اعتمد جين شارب هذا التقسيم في إطار التخطيط الاستراتيجي، لتمكين المجتمع من التحكم في السلطة التنفيذية (14).

خلاصة:

الثورة فعل شعبي عفوي تلقائي غير منظم يهدف إلى إحداث تغيير جذري شامل في بنية النظام السائد في المجتمع، وتختلف الثورة عن الانقلاب الذي يمكن تعريفه بأنه فعل منظم تنفذه مجموعة منظمة هدفه السيطرة على السلطة من خلال إزاحة الممسكين بها عنها والحلول محلهم في الإمساك بزمامها. ووفقا لهذا المفهوم، فإن الأصل ألا يكون للثورة قيادة معينة ترسم وتخطط وتوزع الأدوار وتحدد الهدف، بل إن هدف الثورة يتحدد بشكل تلقائي، وهو يؤكد نضج الشعب الثائر في تحديد هذا الهدف والعمل على تحقيقه، وهنا قد تتولى فئات من الشعب زمام المبادرة لا لتقود الثورة ولكن لتكون في مقدمة صفوفها سعيا مع غيرها لتحقيق غاية الثورة فتبرز هذه الفئة بحكم جرأتها وإقدامها في حال نجاح الثورة لقيادة مرحلة الانتقال التاليةلها، وقد تواجه هذه الفئة عنف السلطة الذي قد يصل إلى حد الفتك بها، ومن ثم تصبح هذه الفئة قيادة مثالية للثورة يترتب على تضحياتها التعجيل بوصول الثورة إلى تحقيق هدفها المنشود، وتكون هذه القيادة بتضحياتها قد رسمت الخطوط العريضة للثورة، ولا يتطلب الأمر من الآخرين سوى السير على هداها، واستكمال ما يتعلق بها من تفاصيل.

وإذا كانت الثورة فعل شعبي عفوي غير منظم، فإن هذا الوصف، يعني أن فئات الثورة لا تتفق آراءها وتوجهاتها، لكن يوحدها هدف عام تتفق على ضرورته تحقيقه لمصلحة المجموع، فجوهر الثورة هو ذلك الاختلاف في التفاصيل وهو ذلك التصارع السلمي للأفكار، وهو ذلك الاحترام المتبادل بين الفئات على اختلافها لخصوصيات بعضها وهو ذلك الاتفاق على تجاوز الخصوصيات.

ووسائل حماية الثورة ذاتية تتمثل في نضج ووعي شبابها وإيمانهم بنبل أهدافها وغاياتها التي يرخص في سبيل تحقيقها كل غال ونفيس باعتبار أن الثورة ما انطلقت إلا لتحمي قيمة أو قيما سامية تعرضت للانتهاك والانتقاص، فالثورة إنما انطلقت لتحَمِي لا لتُحمَى بغض النظر عن الثمن الذي تدفعه سدادا لفاتورة أهدافها وغاياتها النبيلة.

——————————————–

الهامش

(1)Kriele, Martin (1987): Die demokratische Weltrevolution. Warum sich die Freiheit durchsetzen wird, München/Zürich, Piper, S.147.

(2)Almond, Gabriel/ Verba, Sidney (1963): „An Approach to political culture“, in Almond, Gabriel/ Verba, Sidney, the civic culture, Princeton University Press, New Jersey, S.4.

(3) هذا العدد وفقاً للإحصائية التي ذكرها صمويل هنتينجتون في كتابه “الموجة الثالثة. التحول إلى الديمقراطية في القرن العشرين”

Huntington, Samuel P. (1991): The Third Wave. Democratization in the Late Twentieth Century, Oklahoma, P.17.

(4)Dahl, Robert (1971): Polyarchy, New Haven, P. 2

(5)الأرجنتين: 1946-1951، البرازيل: 1945-1964، إكوادور: 1948-1961، بيرو: 1939-1948، أورجواي: 1942-1973، فنزويلا: 1945-1948.

Rueschemeyer, Dietrich/Huber-Stevens, Evelyne/Stephens, John (1992): Capitalist Development and Democracy, Cambridge, P. 160.

(6) انطلقت ثورة القرنفل في البرتغال، حيث قام رتل من عشر مدرعات خفيفة و12 شاحنة وبضع مئات من جنود المشاة بإحتلال ساحة الوزارات في لشبونة في فجر يوم 25 أبريل 1974. وبعدها بساعات انضمت القوات التي أُرسلت لوأد الانقلاب إلى الثوار دون إطلاق نار، وقد استقبلهم السكان بالمواكب رغم النداءات الداعية إلى المكوث في المنازل. وفي النهاية استسلم مارسيلو كايتانو رئيس الحكومة المحاصر في هيئة أركان الدرك، ونقل سلطاته إلى الجنرال سبينولا الذي ترك الحشود تفرج عن مئات السجناء السياسيين بالليل، وهكذا انهار النظام الديكتاتوري في البرتغال. أنظر:

Barker, Collin (2002): Revolutionary Rehearsals, First Edition, USA, Haymarket Books.

(7)إكوادور: 1978، بوليفيا: 1980، الأرجنتين: 1983، أورجواي: 1984، البرازيل: 1985، شيلي: 1980.

Rueschemeyer, Dietrich/Huber-Stevens, Evelyne/Stephens, John (1992): Capitalist Development and Democracy, Cambridge, P. 162.

(8) Huntington, Samuel P., The Third Wave: Democratization in the Late Twentieth Century, (Oklahoma, 1991). P. 21.

(9)أحمد عبد الحكيم، سلسلة تغيير النظم السياسية، الحـلقة الأولى: موجات التغيير الثلاث، أكاديمية التغيير، 2/11/2008، الرابط

(10) مراحل التغيير، 10/6/2008. النص متاح على الرابط

(11) The Six Steps for Nonviolent Social Change are based on Dr. King’s nonviolent campaigns and teachings which emphasize love in action. Dr. King’s philosophy of nonviolence works hand in hand with these steps for social and interpersonal change. See: Derived from the essay “Letter from Birmingham Jail” in Why We Can’t Wait, New York: Penguin Books, 1963.

(12) Gene Sharp, There Are Realistic Alternatives, (The Albert Einstein Institution, Electronic version, P. 26.

(13) يقصد بالتقدير الاستراتيجي تحديد نقاط القوة والضعف لكل من طرفي الصراع، وتحديد مصادر قوة الخصم التي يمكن استهدافها لإضعافها أو تدميرها، وتحديد واختبار الأدوار والمواقف الممكنة التي قد تتبناها الأطراف الثالثة في الصراع، ويتسع هذا المفهوم ليشمل السكان الذين لا يلزمون أنفسهم بأدوار محددة في الكفاح، ثم تحديد العوامل الخارجية التي قد تؤثر على مسارات الفعل مثل العوامل الجغرافية والجوية والمناخية والبنية التحتية، وغيرها، وتحديد أنواع الضغط الأخرى التي قد تؤدي إلى تحقيق أهداف المقاومة. وقد أدخل هذا المصطلح وهذا المفهوم في مجال استراتيجية الكفاح اللاعنف روبرت هيلفي.

(14) للإطلاع على كيفية رسم الاستراتيجيات للصراعات اللاعنيفة بمكنك الإطلاع على كتاب:
المصدر/ المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة