خاص : بقلم – د. مالك خوري :
مثلت صداقة الأستاذ “مصطفى الزعتري” وعائلته وصداقته الشخصية والمهنية مع والدي وعائلتنا؛ إحدى أهم المحطات التي طبعت حياتي الشخصية والمهنية. فقد تعرف والدي المرحوم؛ “منير الخوري”، على الأستاذ “مصطفى” خلال فترة عمله كأمين عام مساعد للمركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في الدول العربية التابع لـ (اليونيسكو) في بيروت. وكان الأستاذ “مصطفى” وقتها جزء من دورة تدريبية نظمها المركز لمجموعة من كبار التربويين من العديد من الدول العربية.
منذ ذلك اللقاء أصبح والدي والأستاذ “مصطفى” صديقين حميّمين، وكان واقع كون عائلتينا من “صيدا” دافعًا لأن تُصبح صداقتهما الشخصية أساسًا متينًا لصداقة العائلتين.
وحين تسّلم الأستاذ “مصطفى الزعتري”؛ إدارة ثانوية صيدا الرسمية للبنين، لم يتردد والدي في سّحبي وشقيقي الأكبر “عيسى” من المدرسة التي كُنا فيها في حينه (مدرسة الجيرارد الإنجيلية المعروفة في حينه بمدرسة الأميركان)، وتسّجيلنا في الثانوية الرسمية. كانت الخطط الكبيرة للأستاذ “مصطفى” لتلك المدرسة معروفة لكل المهتمين بتطوير التعليم الرسمي في لبنان. وكان هؤلاء كلهم بانتظار لحظة تسّلم الأستاذ “مصطفى” لإدارة هذه المدرسة وتطويرها الجذري. فكان قرار والدي بنقلنا إلى الثانوية، قرار طبيعي.
وتفوق الأستاذ “مصطفى” على كل التوقعات، حيث تحولت “الثانوية” إلى ملاذ ومركز معروف لتواجد مجموعة من أهم وأنجح الأساتذة المتخصصين في كافة المجالات، والأتون ليس فقط من “صيدا” بل من كافة أنحاء لبنان. أسماء لمعت فيما بعد في مجالات تخصصها وعملها، من العلوم، والرياضيات، والآداب العربية والإنكليزية والفرنسية، إلى الفلسفة العربية وعلم النفس، إلى الفن التشكيلي والموسيقى والرياضة.
كانت تجربة المدرسة تجربة طليعية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. وتحولت “الثانوية” إلى مركز للثقافة المتنورة والحداثية على كافة المستويات والتوجهات الفكرية والسياسية والثقافية في المدينة.
سنوات تعليمي في “ثانوية” مصطفى الزعتري وتحت إدارته المباشرة كانت من أهم فترات حياتي الدراسية وأكثرها صعوبة وغنى في آنٍ معًا.
وفي فترة حُبّلى بالتغيرات السياسية، والتي شهدت انخراطي وشقيقي في النشاطات اليسارية والوطنية في المدينة، كُنت كثيرًا ما أقع في إحراج قيادة والمشاركة في التحركات المطلبية والوطنية المتفجرة في حينه. فكيف ليّ أن أدعو الطلاب للتظاهر والإضراب، وماذا أفعل لدى اضطراري لمواجهة مديري وصديق عائلتي الذي أجّله واحترمه وأحبه كثيرًا، وهو يدعو الطلاب للعودة إلى صفوفهم ؟! هذه كانت بالفعل لحظات صعبة، لكنها كانت أيضًا لحظات تعلمت منها الكثير عن معنى المهنية والاحتراف والجدية في العمل.
فالأستاذ “مصطفى” كان مثالاً في القدرة على ضبط إيقاع الأوضاع والمشاعر بما كان يغني حتى تجربة الطلاب “النضالية” وتوجيهها في أطر أكثر واقعية، ومن دون افقادها الكُنّه الوطني والتقدمي الذي كان هو أيضًا أساسيًا وطبيعيًا في التركيبة الفكرية للأستاذ “مصطفى”؛ وإن لم يكن هو نفسه مُلتزمًا بأي من التنظيمات السياسية في حينه. لكنه كان بالنهاية ابن “صيدا” الوطنية الناصرية المنفتحة والمظللة لكل ما هو جديد ومتنور وأصيل ووطني.
تركت لبنان في منتصف السبعينيات إلى كندا. والدي ووالدتي غادرا لبنان نهائيًا في آخر السبعينيات. وكُنت أعلم أن صلتهما بعائلة الأستاذ “مصطفى” لم تنقطع حتى مغادرة لبنان.
ثم انقطع الاتصال بين العائلتين لعقود، وإلى أن كان الأستاذ “مصطفى” في زيارة إلى كندا كرئيس لمؤسسة الحريري التربوية. وقتها دعى شقيقي “عيسى”؛ الأستاذ “مصطفى”، إلى بيته في أوتاوا حيث التقى الأخير بعد سنين بوالدي ووالدتي. كُنت في حينه قد تسّلمت مركزي في إدارة قسم السينما في جامعة كالجاري، فلم يتح ليّ ذلك في المجال للقاء أستاذي ومديري العزيز.
بالأمس، بكيت حين سمعت بوفاة الأستاذ “مصطفى” بالرغم من عدم رؤيتي له من السبعينيات.
كيف لا، وزياراته العائلية في بيتنا في “صيدا” وابتسامته وضحكاته المجلجلة من حين لآخر ما تزال في مخيلتي وذاكرتي.
كيف لا، وأنا أدين للأستاذ “مصطفي” بالكثير الكثير مما أنا عليه اليوم: فهو كان ليّ مثالاً في الثقافة والعلم والرصانة والمهنية، وفي أهم مرحلة مكونة من حياتي..
الله يرحمك يا أستاذي ومديري وصديق عائلتي. وتعازي الحارة لعائلتك الكريمة.
وتعازي لمدينة “صيدا” لفقدانها أحد أهم ايقوناتها العلمية والتربوية.