خاص : بقلم – د. عبدالجواد ياسين* :
-1-
نجح حزب العدالة والتنمية بقيادة إردوغان في تثبيت “حالة” الإسلام السياسي في تركيا من خلال تواصل حضوره في السلطة لما يقرب من عقدين. وهو الهدف الذي فشل في تحقيقه نجم الدين أربكان على الرغم من وصوله إلى الحكم بحزب الرفاه، بعد نشاط حزبي متواصل لما يزيد – أيضًا – على عقدين.
سياسيًا، يبدو هذا “التطور” لافتًا بالنظر إلى قرب المسافة الزمنية بين إسقاط حزب الرفاه بانقلاب 1979 ثم حله سنة 1989، وإنجاح حزب العدالة والتنمية، الذي تأسس سنة 2001، ووصل إلى السلطة منفردًا سنة 2002، فيما لا تظهر فوارق واضحة بين الحزبين من جهة الخلفية الفكرية، ولا على مستوى الأداء السياسي، حيث لم تخرج حكومة الرفاه عن قواعد النظام العلماني القومي القائم، ولا عن ثوابت السياسة التركية التقليدية حيال الغرب وقضية الشرق الأوسط، وأكدت سعيها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وبقاءها في حلف الأطلسي، وواصلت عملية التعاون العسكري مع إسرائيل، وقبلت اتفاقية الوحدة الجمركية.
على الرغم من التراكم النسبي الذي حققه النشاط الإسلامي على مدى عقود ثلاثة سابقة، يبدو صعود حزب العدالة والتنمية واستقراره في الحكم، “فجائيًا” بعض الشيء. أعني معاكسًا لمنطق التيار السياسي الثقافي السائد في تركيا نهاية التسعينيات من القرن الماضي. نظريًا، لم يكن مستوى السطوة التي أظهرتها القوى العلمانية، يشير إلى مثل هذا التراجع السريع سواء بالنسبة للأحزاب السياسية، والتكوينات الثقافية، وأبنية الدولة العميقة ذات التوجه القومي، أو بالنسبة للمؤسسة العسكرية التي فرضت نفسها كحارس دستوري لقيم العلمانية القومية كما أرساها أتاتورك، وعبرت عن نفسها من خلال سلسلة انقلابات عسكرية وإملاءات سياسية لم تنقطع منذ عام 1960.
في تفسير هذه الظاهرة، يمكن الحديث بالطبع عن الرصيد المتراكم للحراك الإسلامي على الساحة السياسية منذ بداية السبعينيات، والذي بلغ ذروته بوصول حزب الرفاه إلى قمة السلطة (ديسمبر/كانون أول 1995). وهو الحزب الذي يُعد حزب “العدالة والتنمية” استئنافيًا تحويريًا له، أو نسخة “معدلة قليلًا” منه على مستوى الفكر والتنظيم والأداء السياسي، وذلك على الرغم من أن هذا الحزب الأخير نشأ كانشقاق على تيار الرفاه، وتبنى بشكل صريح فكر “الرؤية القومية” مما أثار الشكوك حول “جدية” انتمائه للتيار الإسلامي لدى قواعده التقليدية.
ويمكن الحديث، بالطبع أيضًا، على تحول صريح في المزاج السياسي للناخب التركي عند نهاية التسعينيات، صب في صالح التيار الإسلامي الصاعد، والذي كان يطرح نفسه كتيار تغييري مدعم ببرامج اقتصادية واجتماعية ذات طابع سياسي عملي، وليس بخطاب أيديولوجي فقهي (وعظي أو تكليفي). ومع تصاعد نغمة الإسلام السياسي في عموم المنطقة بعد الثورة الإيرانية، وتفاقم الخطاب الليبرالي حول العالم بعد تراجع الشيوعية، ظهر التيار الإسلامي في تركيا كمعارضة “نوعية” جذابة وواعدة، في ظل تواصل الأزمات السياسية والاقتصادية، التي فشلت الأحزاب القومية التقليدية في التعامل معها، والتي أوقعت البلاد في حلقة دائرية من الانقلابات العسكرية (كل عشر سنوات تقريبًا من 1960 حتى 1997).
لكن تفسير هذا التصاعد لا يكتمل بمعزل عن تطورين سياسيين مرتبطين؛ الأول: يتعلق بالموقف الأميركي/الغربي حيال المسألة الإسلامية، الذي تحول بعد حوادث سبتمبر (أيلول) إلى سياسة الدعم المباشر للإسلام السياسي “المعتدل” بغرض استخدامه في احتواء التطرف الأصولي العنيف، الذي صار يتمدد بقوة في اتجاه الغرب. والثاني: يتمثل في تراجع الدور السياسي التقليدي للمؤسسة العسكرية التركية، أو في تحجيمه بضغط أميركي مباشر، لصالح الحزب الإسلامي الجديد، “المعتدل” والموالي للغرب.
يمكن قراءة هذا التحول في الموقف الأميركي من مسألة الإسلام السياسي بالتوازي مع تحول الموقف الأميركي من المسألة الديموقراطية في تركيا: بعد قيام الثورة الإيرانية سنة 1979، فقدت الولايات المتحدة أحد أهم حلفائها في الشرق الأوسط، وظهر “الإسلام السياسي” كخطر واضح يهدد المصالح الأميركية في المنطقة، وهو ما دفعها لتأييد الانقلاب العسكري في تركيا سنة 1980، (الانقلاب الأكثر شراسة في تاريخ الانقلابات التركية)، في تجاهل صريح للمباديء الديموقراطية. لكنها ستعود بعد سنة 2001 إلى التلويح بهذه المباديء، ضمن آليات أخرى، لكبح النوازع الانقلابية لدى الجيش التركي لصالح فصيل بعينه من الإسلام السياسي.
قدم حزب العدالة والتنمية نفسه كحزب علماني محافظ، يتبنى فكرة الرؤية القومية، وقيم التعددية والليبرالية واقتصادات السوق، ويسعى إلى الاندماج في المنظومة الأوروبية وحلف الأطلسي، وكسب ثقة المؤسسات العلمانية الداخلية خصوصًا الجيش والمحكمة الدستورية. كان المد الإسلامي يتصاعد بالتزامن مع تصاعد المد الليبرالي، وكان إردوغان – الذي زار الولايات المتحدة قبل استلام السلطة سنة 2002 – يطرح خطابًا اعتداليًا أكثر وضوحًا من الخطاب الذي كان يطرحه أربكان. في واقع الأمر، يمكن الحديث عن تقاطع مصالح مفهوم في لحظة سياسية مواتية: المصلحة الأميركية في الحصول على حليف إسلامي معتدل يستطيع أن يلعب دورًا في احتواء العنف الأصولي، ومصلحة الفصيل الإسلامي التركي في الحصول على دعم خارجي قادر على تحييد الجيش التركي، وطمأنة الهواجس الأوروبية.
لاحقًا، وفي إطار الغرض نفسه، سيتمدد الدعم الأميركي، إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس، مما سيظهر بشكل علني في أحداث ونتائج “الربيع العربي”. لكن ذلك لا يعني أن علاقات التوافق بين الإسلام السياسي والغرب بدأت بعد وبسبب أحداث سبتمبر (أيلول) 2001. ثمة علاقة قديمة لا يسهل إنكارها، بين جماعة الإخوان وبريطانيا إبان المرحلة الاستعمارية في مصر، (ظلت قائمة بأشكال مختلفة غامضة حتى الآن). بعض الدراسات المتأخرة تضع يدها على “وقائع” ثابتة تشير إلى دور بريطاني فاعل في عملية إنشاء وتثبيت الجماعة في عشرينيات القرن الماضي، من خلال الدعم المالي والإداري، والتمرير السياسي، بغرض توظيفها في مواجهة التيار الشيوعي، الذي كان ينمو في مصر مع ظهور الحزب الاشتراكي وتوسع نشاطه في أواخر العشرينيات عبر الإضرابات العمالية، وفي مواجهة المد الوطني الذي أخذ يتفاقم حول قضية الاستقلال بعد ثورة 1919 وظهور حزب الوفد، (في هذا السياق، وعن وعي سياسي مقصود، جرى تشجيع إنشاء الجمعيات الدينية في مصر على نطاق واسع).
تقليديًا، وعلى الرغم من الخطاب الإسلامي المعلن عن معاداة الغرب “الصليبي” ظل التوافق حول مواجهة الخطر الشيوعي يمثل قاعدة الالتقاء بين الغرب والإسلام السياسي “المعتدل”، قبل أن يظهر خطر “التطرف الأصولي” الذي سيتحول إلى عامل توافق إضافي بين الطرفين. فهذا التطرف لا يهدد المصالح الغربية فحسب، بل أيضًا مصالح التيارات الإسلامية المتصالحة نسبيًا مع الحداثة، والتي تحركها في الواقع دوافع تكوينية ذات طابع سياسي “دنيوي” أصيل.
………………………………………………………
- الدكتور “عبدالجواد ياسين”؛ مفكر مصري متميز من أعلام حركة إصلاح التراث الإسلامي، له عدة مؤلفات في الفكر السياسي والفقه الدستوري، من أبرزها: (السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ) – (الدين والتدين التشريع والنصّ والاجتماع) – (مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة) – (السلطة في الإسلام نقد النظرية السياسية) – (اللاهوت).