13 أبريل، 2024 6:18 ص
Search
Close this search box.

في الحيثيات الإيديولوجية “لمكافحة الإرهاب الأصولي” في الثقافة الشعبية : مسلسل “القاهرة: كابول” نموذجَا

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : بقلم: د. مالك خوري*

مقدمة عامة وتمهيد نظري ومنهجي للدراسة

تصاعد نفوذ الخطاب الديني بشكل عام، والوهابي بشكل خاص، ساهم تدريجيًا برسم الخطوط العامة لما هو “مقبول”، “فطريًا”، اجتماعيًا واقتصاديًا وفكريًا في العديد من الدول العربية. أي أن تنامي هذا النفوذ ساهم بتحديد معالم محددة لما وصفه أنتونيو غرامشي: “بالمنطق الفطري” الشعبي السائد، (Common Sense)، لدى تطبيق هذا الوصف على شرائح واسعة من أبناء الطبقات العاملة والمتوسطة في هذه المنطقة ككل. بشكل أدق، فإن الإطار العام للمرجعيات التي تطبع التعاطي مع القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية أو الثقافية في بلادنا، أصبح لا بد له أن يبقى تحت المظلة العامة للخطاب أو: “الترشيد” الديني.

هذه الدراسة لمسلسل (القاهرة: كابول) ترصد بعض أشكال تجسيد وإعادة تدوير الخطاب الديني؛ كأحد أهم مكونات البنية الإيديولوجية التي تطبع اليوم الثقافة الشعبية في بلادنا، ومنها في السينما والدراما السائدة. وفي هذا السياق أناقش كيف يعكس المسلسل ويتفاعل في نفس الوقت مع الخطاب الذي يتم من خلاله تعريف وتحديد طبيعة وتاريخ تطور الإرهاب الأصولي في بلادنا. فـ (القاهرة: كابول) يمثل مخزنًا غنيًا هامًا لرصد إعادة إنتاج مكونات مروحة: “الترشيد الديني”، كمظلة عامة للتعامل، حتى مع الفكر المتطرف والسلفي ومع الممارسات الإرهابية في العالم العربي، وكذلك لتحديد كيف يتم ذلك على حساب التحليل والفهم التاريخي العلمي لتطور هذه الظواهر في تاريخنا المعاصر.

المسلسل نفسه هو واحد من أكثر الأعمال الدرامية التي جرى التعليق عليها، والتي دارت نقاشات حولها خلال الموسم الرمضاني لعام 2021. على السطح، يقدم المسلسل قصة بسيطة عن أربع أصدقاء تمتد جذور صداقتهم إلى سنين نشأتهم في بناية في حي السيدة زينب في القاهرة. يُعاصر هؤلاء أحداث تبدأ مع حرب عام 1967، مرورًا بموت أم كلثوم، ثم اغتيال الرئيس أنور السادات، وانتهاء بنهاية الحقبة الأولى من الألفية واندلاع انتفاضة يناير 2011. شخصيات القصة الرئيسية تضم “خالد”، وهو مخرج تسجيلي يُركز في عمله على قضايا تتعلق بالحركات الإسلامية المتطرفة والإرهابية، والإعلامى الناجح، “طارق كساب”، الذي توصل عبر انتهازيته إلى ما يبغتيه في الحياة، وهو المال والشهرة، وهناك “عادل”، الضابط وخبير الأمن الوطني، والذي يعمل ضمن منظومة لمكافحة نشاطات الجماعات الإرهابية. الشخصية الأخيرة والتي تُمثل بطل القصة الفعلي وقطبها المحرك، هي شخصية: “رمزي”، الإسلامي المتطرف الذي يرتقي عبر تعامله مع أجهزة استخبارات غربية إلى مرتبة: “خليفة” للجماعات الأصولية، ثم ينتقل لتبوأ مركز قيادة تنظيمات إرهابية في أفغانستان. هذه القصة الرئيسية تتناول بشكل مباشر وغير مباشر التطورات والتغيرات التي تطرأ على حياة كل من هذه الشخصيات، فيما عدا شخصية المخرج “خالد” الذي يتركنا مباشرة بعد اغتياله في الحلقة الثانية من المسلسل. وعلى هامش القصة الرئيسية، هناك عدد من الحواديت الموازية التي تتفاعل في سياق المسلسل. فهناك مثلاً خلفية العلاقة الطويلة التي كانت تجمع “رمزي” بالمدرسة “منال”، ابنة خاله، العم “حسن”؛ وهناك علاقة “منال” المستجدة بـ”أحمد”، وهو يُدرس في المدرسة التي تعمل فيها. كما أن هناك قصة العلاقة بين والدة أحمد، “ريم” مع العم “حسن”؛ والتي تنتهي بزواجهما.

دراميًا، وبالإضافة لشخصية “رمزي”، يعتمد المسلسل أيضًا، وبشكل كبير، على الشخصية الأبوية للعم “حسن”. كما سنرى فيما بعد، فإن شخصية العم “حسن” تستقي أهميتها بشكل خاص من تجسيدها للصنو المضاد لما تُمثله شخصية “رمزي” بكل أبعادها الفكرية الدينية “المتطرفة” وتبنيها للإرهاب. في هذا السياق، تلعب الأحداث الفرعية والتي يكون العم “حسن” جزءًا منها دور الساحة التي يجابه الأخير على ملعبها غريمه، “رمزي”. وأركز في هذه الدراسة على “حواديت” العم “حسن” خلال جلساته مع “الشباب” في المقهى الشعبي في السيدة زينب، لما تُمثله هذه من تكميل للعناصر الأساسية التي يبني عليها المسلسل في تجسيده لثيمة “الصراع بين الخير والشر”.

عبر رصد الملامح التي تضبط إيقاع التوجهات القصصية والنصية والمرجعيات الحاضرة ضمن المسلسل، بالإضافة إلى تلك الغائبة عنه، تناقش الدراسة كيف يتحول “المنطق الفطري الشعبي”، الذي تميل وسائل التعبير الفني السائدة إلى استعماله، إلى مدخل لتعميم اتجاه خطاب “الترشيد” الديني. وبالتالي، تناقش الدراسة كيف يرسم (القاهرة: كابول) قصة عن ظواهر التطرف الديني والإرهاب، لكن بشكل منفصل تمامًا عن السياق التاريخي والسياسي لتطور هذه الظواهر وتفاعلها في المجتمعات العربية المعاصرة. بالمقابل، يُعيد المسلسل صياغة موضوع محاربة الأصولية الدينية والإرهاب كتجسيد لفكرة الصراع “بين الخير والشر”، متمثلاً بالصراع بين التدين: “الطيب والمنفتح”، من ناحية، والتدين: “المتطرف والإرهابي”، من ناحية أخرى.

تركيزي في هذه الدراسة هو على بحث بعض الديناميات الفكرية التي يفرزها المسلسل ويتفاعل معها. فالهدف هنا ليس “تفسير” أو محاولة تحليل المكونات النصية للمسلسل متمثلة بحواضره القصصية والسردية والشكلية. فنحن لا نتناول المسلسل على الطريقة التقليدية ككل عضوي متكامل، (Organic Whole)، جاهز للتقييم الفني، بل كبنية ترتسم معالمها عبر مشاهدة العمل وعبر قراءته من خلال تأثره وتأثيره في عمل الإيديولوجيا السائدة. وبالتالي فإن التركيز هنا هو على رصد ثلاث حيثيات: أولاً تلك “الحاضرة” في المكونات السردية والنصية، وثانيًا تلك التي هي من ضمن مكونات “غير حاضرة”، أي غائبة عن المسلسل نفسه، وأخيرًا عبر محاولة قراءة بعض الفجوات والتشويشات التي يفرزها المسلسل ويتفاعل من خلالها مع الموقع الإيديولوجي الذي يمثله.

ضمن هذا السياق المنهجي أقوم إذاً برصد بعض المفاصل القصصية والمرجعيات التاريخية المحددة التي يستعملها المسلسل، والتي تُشكل أساس تفاعله مع الجمهور. هذه المفاصل والمرجعيات “الحاضرة” في العمل تُمثل الحاضنة “المشوِشة” على مكونات ومرجعيات تاريخية “غير حاضرة” أو غائبة (سواء بشكل كامل أو جزئي) عن المسلسل. ضمن تحليل جدلية العلاقة في ما بين “الحاضر” و”الغائب” تتحدد بالنهاية الكثير من ملامح موقع وهوية المسلسل كجزء من بنية إيديولوجية سائدة دائمة التكون والتحول والتفاعل مع اللحظة التاريخية التي جرى ويجري تلقيه فيها.

ضمن هذه المروحة العامة، أتناول تباعًا أربع مفاصل تدخل كلها ضمن “حياكة” المسلسل لقصة “تاريخية/خيالية” عن الإرهاب، مغلفة بثيمة حول: “الصراع بين الخير والشر”. أستهل الدراسة أولاً بمسح عام للإطار الذي تم من خلاله تسويق المسلسل، وكذلك الخطاب الذي كان أكثر حضورًا في الإعلام المحلي؛ خصوصًا في الأيام الأولى لبدء عرضه. ثانيًا، أستعرض الشكل العام الذي يقوم من خلاله المسلسل بتقديم المشاهد إلى “تاريخ” تطور الفكر الديني المتطرف والممارسات الإرهابية في المنطقة. في القسم الثالث، أتناول موضوع المرجعيات التاريخية “الغائبة” عن المسلسل، كمكونات عضوية متفاعلة ومتناغمة مع الإطار العام للتأريخ “الشعبوي” لفكرة نشوء الفكر الأصولي المعاصر والممارسات الإرهابية في المنطقة. في القسم الرابع، أبحث كيف يسهم رسم المسلسل لشخصية الإرهابي كشخصية “أسطورية” في تعزيز النظرة القدرية للمسلسل تجاه مسألة الصراع بين الخير والشر، وكيفية تعاطيه مع القدرية “الأسطورية” كثيمة تصف حياة ومصير “بطل” المسلسل. في القسم الخامس، أستعرض نماذج عن تعاطي المسلسل مع الصراع ضد الإرهاب والفكر المتطرف كصراع  قدر بين التدين “الحقيقي” والتدين “المزيف” وتقديمه ذلك كمروحة لفكرة الصراع بين الخير والشر. في القسم السادس والأخير أقوم بطرح بعض الاستنتاجات عن معالم الخطاب الاستشراقي التي يحاكيها المسلسل وتطبع بدورها بنيته الإيديولوجية العامة.

التقديم والتلقي الإعلامي “للقاهرة: كابول”

كما هي الحال مع أي منتج ثقافي متداول في عالمنا الرأسمالي، تعتمد فعالية تلقي هذا المنتج، وإلى حد كبير، على الشكل العام الذي يُسوق من خلاله إلى الجمهور كجزء من حزمة ترويج متكاملة. وضمن المكونات الأساسية لحملة تسويق مسلسل (القاهرة: كابول)، لعب “البرومو” الرسمي؛ والذي أعيد تقديمه بعدة تنويعات على محطات تلفزيونية مصرية وعربية ووسائل تواصل اجتماعي دورًا هامًا في لفت النظر إلى هذا المنتج الرمضاني الجديد. ويفسح البرومو بالمجال لتقديم المسلسل كقصة خيالية، لكنها في نفس الوقت من الممكن أن تكون مستوحاة من واقع “تاريخي”. فمن ناحية يركز البرومو بشكل أساسي على تناول القصة لحياة زعيم إرهابي أصولي سافر من مصر إلى أفغانستان ليتبوأ السدة “الافتراضية” للخلافة الإسلامية. وهنا، من الواضح أن البرومو يُحاول الإيحاء بإمكانية أن يكون المسلسل، على الأقل، مستوحى من حياة شخصية زعيم تنظيم “القاعدة” الإرهابي المعروف: “أسامة بن لادن”. وما ساهم في ترسيخ هذا الإنطباع، هو التصدر الواضح لشخصية الإرهابي، “رمزي”، للمجال الحيوي لمقاطع الفيديو الترويجي، وبشكل يركز على التشابه بين صورة “رمزي” وصور معروفة لـ”بن لادن”، جرى تداولها بغزارة في الإعلام ولمدة طويلة.

من ناحية ثانية يستعمل البرومو كلام لشخصية “رمزي” من الحلقة الثانية للمسلسل ليقدم لنا ملخصًا واضحًا ومحددًا للقصة ولهويات شخصيات مركزية فيها. هذه المقدمة تحاول توضح أن القصة هي من وحي المخيلة وتتناول مجموعة من الأصدقاء المصريين وتطور علاقتهم بإشكاليات الإرهاب والفكر الأصولي. البرومو يستعمل صوت “رمزي” كخلفية لتقديمنا إلى المجموعة: “اللي ربه الفلوس، واللي ربه الفن، واللي ربه الطاغوت، واللي ربه ربنا”، في إشارة تصف كل من شخصيات “طارق” (الإعلامي)، و”خالد” (السينمائي)، و”عادل” (رجل الأمن)، و”رمزي” (“الخليفة”).

وبالرغم من تشديد المروجين للمسلسل على أنه صياغة قصصية لشخصية متخيلة لا علاقة مباشرة لها بـ”بن لادن”، إلا أن تصميم البرومو للملبس والماكياج وزوايا التصوير والمواقع التي يظهر فيها الممثل “طارق لطفي” بدور “الخليفة”، يبقي المشاهد، وبالحد الأدنى، منفتحًا على احتمال أن يكون “بن لادن” هو المرجعية التاريخية الحقيقية لهوية بطل المسلسل، “رمزي”. البوستر الرئيسي للمسلسل (كان هناك أيضًا بوسترات ملحقة ضمت شخصيات أخرى في المسلسل قدمتهم بشكل منفرد أو جماعي) استعمل نفس الأسلوب في “تسويق” رمزي/بن لادن كمحور محرك لقصة المسلسل: إستراتيجية تسويقية يبدو أنها كانت ناجحة في لفت النظر للمسلسل؛ حتى قبل عرض الحلقة الأولى منه. فمما لا شك فيه أن التقديم “الملتبس” لشخصية “رمزي”، شكل بحد ذاته أحد مصادر اللغط التي ساهمت بالنهاية بالتسويق الناجح للمسلسل. فمن خلال نشر الريبة والشك حول الموضوع، استطاع المسلسل أن يسوق لنفسه، كحكاية من الممكن أن تتناول بشكل قابل للتبديل كل من “بن لادن” أو “رمزي”، أو ضمن حيثيات جزئية تخص أي منهما على حدة.

التقديم المبهم للأطر التاريخية المفترضة للمسلسل ضمن قصة “خيالية” و”حقيقية” في آن واحد، لعب دورًا هامًا في التأطير الإيديولوجي للمسلسل. وكذلك كانت مساهمة “النقاد” المحليين في قراءة المسلسل، والتي أعادت تدوير عملية خلط وتشويش وقائع التاريخ كأساس لشكل التفاعل الإيديولوجي للمسلسل. ويبدو أن القدرة على تسويق مثل هذا التقديم المشوش للتاريخ للمشاهد العربي أقترن بعدة أسباب، منها السياسي ومنها التعليمي ومنها النابع من تعود المشاهد بشكل عام، في العقدين الأخيرين، على تلقي معلوماته عن العالم عبر وجبات إنترنيت سريعة و”مبسترة”. وهذا ساهم بوضوح في إضعاف القدرة لدى أوساط شعبية واسعة على القراءة النقدية للأعمال الفنية ومنها الدرامية، والتمييز فيما بين التاريخي والأسطوري في ما يتابعه.

وسائل الإعلام والصحافة الرئيسية تكفلت بتغطية واسعة للمسلسل خصوصًا في الأيام الأولى لبدء عرضه. حيث شددت معظم التعليقات على وصف (القاهرة: كابول) بالدراما التي ترصد معالم تساعدنا في استيعاب أهمية المعركة المستمرة ضد الإرهاب. ولعل في تقديم محمد زكريا للمسلسل في جريدة “اليوم السابع”، في 18 آذار/مارس 2021، مثلاً نموذجيًا لما تناقلته معظم وسائل الإعلام في حينه لدى وصفها للعمل: “تناول المسلسل ثلاث قصص مثيرة، حول المؤامرات التي تُحاك ضد المنطقة العربية، وخاصة مصر بالفترة الأخيرة، مسلطًا الضوء على الأعمال الإرهابية التي تقع في هذه المنطقة…”؛ وبالتالي وعلى الرغم من أن المسلسل قدم نفسه كتجسيد روائي متخيل لقصة عن شخصية إرهابية متطرفة، فإن الإعلام بأكثريته كان واضحًا في تلقفه للعمل كأداة تُسهم في فهم واستيعاب “متنور” لحقيقة تطور وتفاقم الإرهاب في المنطقة. موقع “تحيا مصر المستقبل”، في 6 نيسان/أبريل جعل موضوع الخلط بين التاريخي والمتخيل أكثر وضوحًا، حين قدم المسلسل بمقال تحت عنوان: “القاهرة: كابول.. بن لادن والظواهري على شاشة التلفزيون في رمضان”.

فمنذ الأيام الأولى لعرض (القاهرة: كابول)، مهدت العديد من القراءات النقدية المحلية لتناول المسلسل كحاضنة “موضوعية” لشرح واقع الفكر والإرهاب الأصولي، مما يساهم في الدفع “للاستمرار في بلورة خطاب الوعي والمعرفة” كإطار أساسي لمجابهة هذا الفكر في خضم “هذا الكم الهائل من الشقاء والعتمة الذي يحاصرنا…”. (الناقدة ناهد صلاح “القاهرة: كابول ..الخط الفاصل بين الحلم والمتاهة”، اليوم السابع، 21 نيسان/أبريل 2021). من ناحيتها، قالت علا الشافعي أن المسلسل نجح في تقديم “غير نمطي” لتاريخ الإرهاب كآفة اجتماعية تجد أصولها في نكسة 1967، والتي تمخض عنها إزدياد النفوذ الأصولي والإرهابي في مصر، والذي عبر عنه اغتيال الرئيس أنور السادات (“بعيدًا عن الصخب الدرامي.. “القاهرة: كابول” تجربة حرفية مهمة وممتعة”، الوطن، 16 نيسان/أبريل 2021). وتضيف الشافعي أن المسلسل نجح في رصد هذا التطور عبر تجسيده “للتغيرات الحادة التي طرأت على شخصيات المسلسل وأدت بأحدهم في النهاية إلى الوقوع في حبائل الإرهاب”.

وتحتفي الشافعي بقدرة المسلسل على التجسيد الرمزي لتاريخ وأسلوب انتشار الإرهاب منذ اغتيال الرئيس السادات، فتقول: “مزج صناع العمل المشاهد الأرشيفية مثل جنازة أم كلثوم في الحلقة الأولى ومشهد اغتيال السادات في الحلقة الثانية مع الدراما، وتم استخدام تلك المشاهد للتعبير عن حالة المصريين، آنذاك، ولتوضيح نشأة أحد الأبطال رمزي أو طارق لطفي، فبعد مشهد اغتيال السادات يدور حوار بين رمزي الطفل وجاره ليكتشف رمزي أن جاره يحمد الله على اغتيال السادات ومن ثم يبدأ الجار في الحديث مع الطفل وتشكيل فكره.” التجنيد للتطرف والإرهاب هو بالنهاية موضوع شخصي كما تقترح الشافعي. وهو بدأ من خلال بعض الأشخاص الذين يسيؤون تفسير الدين بين أصحاب عقول غير ناضجة (الأطفال كمثال)، في فترة تم فيها التخلص من زعيم كان يقود الحرب ضدهم.

في سياق موازٍ، تركز نادين يوسف على العامل الفردي الذي يسهم في تكوين الشخصية الإرهابية، وقدرة المسلسل على مساعدتنا في فهم مدى فعالية الفكر الأصولي في تدمير المسار “الطبيعي” لفهم الدين لدى الناس العاديين. تقول يوسف: “تعرفنا على شخصية الإرهابي التي قدمها طارق لطفي وكيف تحول من مهندس وشاعر إلى قائد أكبر تنظيم إرهابي في العالم، وذلك بسبب أحد جيرانه القدامى والذي فسر له الدين بشكل خاطيء.” (“من العائلة إلى القاهرة: كابول.. كيف جسد طارق لطفي شخصية الإرهابي قبل 27 عامًا ؟”، في الفن 23 نيسان/أبريل 2021). طارق الشناوي، من ناحيته لا يجد غضاضة في اعتبار التوجه الفكري والقصصي لكاتب المسلسل، “عبدالرحيم كمال”: “محايدًا”، بدليل رفض المسلسل “أصدار أحكامًا على أحد”. ويلاحظ الشناوي كيف أن الشخصيات الأساسية (الأطفال/الشباب الأربعة) الذين “كانوا يحلمون تحت نفس البطانية” ثم كبرت أحلامهم، و”بعضها صار كوابيس”، قد تفرقت الآن سبلهم، الى درجة أن “طارق لطفي” جرى “غسل مخه وهو طفل” عبر إقناعه بأن “دوره فى الحياة أن يُصبح خليفة المؤمنين”. (“القاهرة: كابول.. سحر الكلمة”، المصري اليوم، 17 نيسان/أبريل 2021).

بغض النظر عن بعض التمايزات الثانوية، فإن التوجه العام لمعظم النقاد المحليين؛ خصوصًا في بدايات أيام عرض المسلسل، اتسم بالتركيز على كونه عمل يُعمق من فهمنا الموضوعي لتطور ظاهرة التطرف الديني ورديفها الإرهابي في هذه المرحلة من تاريخ بلادنا. في هذا السياق، شدد معظم هؤلاء على المساهمة الإيجابية لـ (القاهرة: كابول) في فهم ومحاربة التطرف. وبالتالي فمما لا شك فيه أن تقديم النقاد للمسلسل على هذا الشكل ساهم بالتمهيد للمشاهد لتلقي العمل على أنه، وبأقل الحالات، يُمثل طرحًا “محايدًا” لتلك الظاهرة.

النص الدرامي كإعادة كتابة للتاريخ

في هذا الجزء من البحث أناقش الإطار الذي يقوم المسلسل من خلاله بتقديم المشاهد لأجزاء من “تاريخ” تطور الفكر الديني المتطرف والممارسات الإرهابية في المنطقة. فالمسلسل يختار استعمال مرجعيات تاريخية محددة، ومنها مقاطع وثائقية، ضمن السياق الدرامي للقصة. هذه الاختيارات بالذات، والتي ينتقيها المسلسل ويقدمها بمعزل عن اختيارات أخرى، تُسهم بالنهاية في تفعيل توجه فكري وسياسي يستبعد الرجوع إلى التاريخ كخلفية علمية واسعة من الممكن أن تُساعد في استخلاص العبر حول طبيعة نشوء وتطور الفكر الأصولي والإرهابي، وبالتالي تجعل المسلسل يقارب التاريخ كمرجعية هامشية يمكن التهاون باستعماله وذلك عبر إنتقاء ما يهمنا منه، وبالشكل الذي يناسبنا.

ومما لا شك فيه، أن هكذا تعامل مع التاريخ أصبح يُمثل نمطًا شائعًا في عدة أوساط في بلادنا، ليس فقط الشعبية منها، بل أيضًا بين الكثير من “المثقفين” ومنهم العاملين في السينما والدراما التي يجري إنتاجها في العالم العربي حاليًا. والدليل على تزايد نفوذ هذا النمط من الممارسة الثقافية، هو أن الهفوات التاريخية الواضحة لمسلسل هام مثل (القاهرة: كابول) مرت مرور الكرام على الأكثرية الساحقة من المتابعين للمسلسل، وحتى على معظم النقاد، كشيء “متوقع” أو “طبيعي” لا يستحق التعليق عليه. في هذا المجال مثلاً، أنا لم أجد في بحثي سوى مقالة واحدة تناولت هذا الموضوع بوضوح وبشكل يُحذر من خطورته. المقال كتبته نيفين مسعد تحت عنوان “التلاعب بالتاريخ في القاهرة: كابول” في 20 آيار/مايو 2021 ونشرته في صحيفة الشروق.

تقول مسعد أن المسلسل ينطوي على العديد من المغالطات التاريخية التي تخلط فيما بين فترات زمنية محتلفة في تاريخ المنطقة المعاصر. وتُشير مسعد إلى أنه في إحدى حلقات المسلسل نرى “الخليفة” رمزي، والذي من المفترض أننا نتابع قصته في أواسط الحقبة الأولى من هذا القرن، ينتقل من مقره في كابول إلى مدينة الموصل في العراق، وذلك في خضم سيطرة (داعش) عليها عام 2014. ومما يزيد من الخلط الفاضح للخلفيات التاريخية لأحداث المسلسل، تصف مسعد أنه في سياق مشاهدتنا لانتقال “الخليفة” إلى الموصل، يجري عرض لمقاطع وثائقية حقيقية لدخول (داعش) إلى المدينة ورفعها لأعلامها السوداء فوق أبنيتها وجوامعها. فيما بعد، تضيف مسعد، يختار كاتب المسلسل أن يرينا “الخليفة” رمزي “وقد أعتلى منبر المسجد ليعلن عن قيام دولة الخلافة الإسلامية، وهذا أيضًا ما حدث على أرض الواقع من جانب أبوبكر البغدادي، فتحوّل بذلك رمزي القيادي الكبير في تنظيم القاعدة إلى زعيم تنظيم داعش”.

من الواضح أن هذا التقديم الذي يخلط الحابل بالنابل في تاريخ الحركات الأصولية والإرهابية ولشخصياتها ومسار تطورها، يُعمق من ضعف الذاكرة الجمعية للمشاهد العادي تجاه المتغيرات الضخمة التي تحدث حوله، والتي أثرت وما زالت تؤثر يوميًا على حياة الملايين من شعوب المنطقة. والاستخفاف باستعراض هكذا وقائع، يعبر عن انعدام المسؤولية التي أصبحت تطبع كتابة العديد من الأعمال الدرامية. لكن الأهم من وجهة نظري، (على الأقل من زاوية دراسة تناغم هذا التقديم مع شكل التفاعل الإيديولوجي للمسلسل) يكمن في مساهمة هذا التشويش على التاريخ في إبقاء قصة المسلسل مفتوحة بشكل خاص على التأويل “الأخلاقي” السائد لفكرة “الصراع بين الخير الشر” متجسدًا بصراع “التدين المتطرف” مع “التدين المعتدل”، وكبديل لفتح الطريق للمشاهد أمام محاولة التقصي الأكثر علمية لحقيقة السياق التاريخي لتطور نفوذ الفكر الأصولي والممارسات الإرهابية في المنطقة.

منذ الحلقة الأولى، يرسم (القاهرة: كابول) معالم محددة لزمان أحداثه يربطها بالفترة الأخيرة لحكم الرئيس حسني مبارك، وتحديدًا عام 2009. بيد أن السياق السردي العام يبقي الإنطباع السائد لدى المشاهد غير المكترث بالتفصيلات أو غير الملم بمعاني وعلاقات إشارات إيقونية ومؤشرات خاصة بمفاصل تاريخية محددة، يبقي هذا التاريخ مبهمًا أو مفتوحًا في أحسن الحالات. ولعل الحلقة 23 من المسلسل هي أكثر الحلقات تحديدًا لسياق زمني أوضح للأحداث. فنرى في أحد مشاهدها صورة واضحة وغير مموهة في مكتب الخبير الأمني عادل للرئيس حسني مبارك (قبل ذلك تبدو معظم صور الرئيس غير واضحة المعالم). في نفس الحلقة، وفي إطار التهديد الواضح لأحد عملاء الاستخبارات الأميركيين لرمزي في حال تجاوز حدود ما هو مسموح له به، تجري أيضًا إشارة سريعة إلى اغتيال “أبومصعب الزرقاوي” على يد الأميركيين خلال منتصف العقد الأول من الألفية.

فيما عدا ذلك فإن المسلسل لا يعطي أي تفصيلات تاريخية واضحة، إلا في الحلقات الأخيرة التي تشهد القاء القبض على رمزي من قبل الأمن المصري بعد استدراجه إلى مصر بالتنسيق مع منال، ابنة العم حسن وحبيبة رمزي الأقرب إليه. يتم هذا ضمن إشارة واضحة لخلفية فترة أحداث عام 2011 وما تلاها من هروب  ثم إطلاق سراح ناشطين من تنظيمات أصولية. وبالتالي، فعبر تهميش الاهتمام بالتاريخ، يكرس المسلسل وضع المشاهد خارج نطاق القراءة النقدية العلمية لأحداث المسلسل ومرجعياتها السياسية والفكرية، ويبقي بالنهاية هذه القراءة منحصرة ضمن التقييم “الأخلاقي” للشخصيات، وخصوصًا فيما يتعلق بشخصية رمزي كقطب محرك في رسم المسلسل لمعادلة: “الصراع بين الخير والشر”.

لكن على الرغم من أن (القاهرة: كابول) ينتقي بعض مرجعياته من خارج الزمن “التاريخي” للدراما نفسها، فهو من ناحية أخرى يستعمل مرجعيات ذات دلالات تاريخية سياسية محددة. فحين يقدم المسلسل مسار “تاريخي” معين لإزدياد ثم تفاقم نفوذ المنظمات الأصولية والإرهابية، فهو ينتقي مرجعيات محددة لا لبس فيها. وهذه ترتبط بشكل خاص بمرجعيتين: أولاً، المرجعية المرتبطة بتواطؤ مخابرات غربية مع التنظيمات الإرهابية: فضمن الحلقة الأولى نشاهد رمزي يتجه ليقابل ما يبدو أنه أحد عملاء الاستخبارات الأجانب، حيث يتم ترتيب اللقاء داخل قلعة أثرية قديمة في أوروبا. نتيجة اللقاء هو وعد لرمزي من قبل ضابط استخبارات غربي يتحدث الإنكليزية بأن يمهد له تبوأ منصب الخلافة في حال أثبت ولاءه لهذه الاستخبارات. مرجعية تنسيق رمزي مع استخبارات غربية تستعاد في نقاط سردية متعددة تبدأ في هذه الحلقة وتستمر في عدة مفاصل طوال حلقات المسلسل الأخرى.

المرجعية الثانية تتمثل بإيران. فمنذ الحلقة الأولى للمسلسل، يمهد العرض القصير لجزء من “الفيلم التسجيلي” للمخرج خالد لتقديمنا إلى جزئية تُعيد ترتيب السياق السياسي لتاريخ التطرف الديني والإرهاب في المنطقة. فالمشهد من المفترض أن يتناول إرهاب الإسلام الأصولي، لكن الملفت في ما نشاهده في الفيلم هو استعماله الوحيد الجانب لشرائط إخبارية من الثورة الإيرانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي ولصور “الخميني”. في الحلقة 27 يعبر “الخليفة” رمزي أمام أحد “مساعديه” عن أنه بالرغم من “اختلافه العقائدي” مع الشيعة، فهو يطمح لكي يكون مثل الإمام “الخميني”، حيث يعود مثله إلى بلاده، لتستقبله الملايين مطالبة بتبوئه لمركز الخلافة الحقيقي في مصر. ضمن هذه المرجعية السياسية الواضحة يترك المسلسل المشاهد غير المطلع جديًا على التاريخ للتعامل وحيدًا مع إرث طويل من التشوش السياسي والتاريخي، في الوقت الذي يفتح أمامه من ناحية أخرى الباب واسعًا للخلوص إلى استنتاجات لا لبس فيها بالنسبة للدور الإيراني في معادلة الصراع بين الخير والشر في المنطقة. وفي هذه السياق يفتح المسلسل الباب أمام إعادة تدوير استنتاجات هي في الأقل مجتزأة حول تجربتين مختلفتين في خلفيتيهما التاريخية وطبيعة تطور أدوارهما السياسية في المنطقة: السلفية والإخوان والقاعدة والداعشية من جهة، وإسلام “الجمهورية الإسلامية” في إيران، من جهة أخرى.

بالإضافة لهذا، يرسم المسلسل خيطًا آخر في تحديد المسار التاريخي لتطور الأصولية الدينية والإرهاب في المنطقة. في ظل غياب مرجعيات تاريخية أخرى عن السرد القصصي للمسلسل، يلجأ (القاهرة: كابول) إلى مراكمة مزيد من التشويش على قدرة المشاهد على استنباط مسار واقعي وعلمي لفهم التاريخ السياسي المعاصر لمصر. فبعد تحديد الزمن الحاضر للقصة، (2009)، في إطار اجتماع لضباط من الأمن الوطني المصري والذي يوازيه لقطة للإعلامي طارق الكساب يُعد فيها جمهوره بمقابلة مع أحد قادة القاعدة، ننتنقل في “فلاش باك” إلى عام 1967 وتنحي الرئيس “جمال عبدالناصر” عن منصبه بعد حرب حزيران. نستدل على هذا أيضًا عبر سماع صوت “أم كلثوم” في الخلفية تغني “أبق، فأنت حبيب الشعب” … بعد ذلك نرى مشهدًا لضابط أمني يشرح لمرؤوس له ضرورة عدم استعمال كلمة: “هزيمة” في وصف نتيجة الحرب، واستبدالها بكلمة: “نكسة”؛ لأن وقع الثانية هو: “أقل سلبية”. في نفس السياق يقدمنا المسلسل إلى ولادة رمزي، والتي تحدث في نفس اللحظة التاريخية “للهزيمة”.

لا تغيب عن أحد هنا رمزية الربط المباشر بين “الهزيمة” وولادة “الإرهابي” رمزي، وبالتالي التأطير المسيس للحقبة الناصرية ككل، و”هزائمها” بشكل خاص، كمسؤول “أصلي” عن خلق الظروف المؤسسة لإزدياد نفوذ التطرف الديني والإرهاب في المنطقة. المشهد الذي يلي ذلك مباشرة مشهد جنازة “أم كلثوم” والتي يجري تقديمها كخلفية للقاء الأول الذي يجمع رمزي مع “الشيخ غريب”، الجار الأصولي في بناية حي السيدة زينب. هنا يُحذر الشيخ غريب الطفل رمزي من المشاركة في الجنازة لأن الموسيقى التي ترمز إليها “أم كلثوم” هي: “حرام”. نقطع هنا فورًا إلى لقطة موازية لرمزي في الحاضر، وهو في المطار متجهًا إلى أوروبا. يلاحظ رمزي طفلاً  يقف قربه في الطابور وهو يستمع إلى الموسيقى واضعًا سماعات على أذنيه. يقوم رمزي بنزع السماعة برفق عن إحدى أذني الطفل محذرًا إياه بصوت يشابه صوت “غريب”، ومكررًا ما قاله الأخير لرمزي من أن سماع الموسيقى هو “حرام”. ثم يمضي رمزي في طريقه، في إيحاء واضح لمحاولته إعادة زرع بذرة إرث الفكر المتطرف التي تلقفها هو نفسه كأحد مواليد “هزيمة” 1967.

بعد الربط الرمزي في الحلقة الأولى فيما بين “هزيمة” 1967 و”ولادة” الفكر الأصولي والإرهاب كمؤشر على المسؤولية المباشرة لنكسات وأخطاء الحقبة الناصرية في هذا المجال، وفي لفتة واضحة الدلالة، تأتي الحلقة الثانية لتربط في ما بين اغتيال المخرج “خالد” كرمز لمحاربة التطرف والإرهاب بالتوازي مع “فلاش باك” عن اغتيال الرئيس أنور السادات في 6 تشرين أول/أكتوبر 1981.. بيد أن اغتيال الرئيس المصري الذي حدث بالفعل على أيدي جماعات إرهابية أصولية، يجري تقديمه هنا بالتوازي مع حادثة اغتيال خالد في نهاية الحلقة نفسها ضمن إشارة واضحة بأن الشخصين جرى اغتيالهما بسبب محاربتهم للإرهاب. في هذا السياق، يقدم المسلسل ما يشبه التقييم السياسي الذي يُثمن دور الرئيس “السادات” كخصم للفكر الأصولي والإرهابي، ويربط مباشرة بين اغتياله والدور الذي اضطلع به في هذا المجال. عند الأخذ بالاعتبار ما أشرنا إليه سابقا لناحية الربط المجازي بين: “هزيمة الرئيس عبدالناصر” عام 1967 و”ولادة” الإرهاب، يُصبح التوجه السياسي: “غير المحايد” في إعادة رسم المسلسل لدور بعض الرموز السياسية في التاريخ المصري المعاصر في نشأة وفي محاربة الفكر المتطرف والإرهاب أكثر وضوحًا.

يُقدم المسلسل إذًا “مسارًا” (Trajectory) محددًا، وأن يكن رمزيًا، للحظة الحاسمة في بدء تكون البذور الأولى لنشوء الفكر الأصولي وبذور الإرهاب في مصر وتفاقمها وصولاً إلى 2011. فتبدأ القصة في عمومها مع “هزيمة” 1967، التي يجري تقديمها كمؤشر على لحظة تاريخية فاصلة في “ولادة” الإرهاب والتطرف كنتاج مباشر لأخطاء الحقبة الناصرية و”هزائمها”. من ناحية ثانية، وعبر ربطه لاغتيال المخرج “خالد” كرمز لمحاربة التطرف والإرهاب بالتوازي مع اغتيال الرئيس “أنور السادات”، في 6 تشرين أول/أكتوبر 1981، يستنتج المسلسل بأن الإثنين قضوا بسبب محاربتهم للإرهاب.

إن الاختيار الإنتقائي للمسلسل: “لمرجعيات تاريخية” محددة، ثم استعمالها بتخريج سردي رمزي محدد المعالم سياسيًا، يسحب الورقة التي قدم المسلسل نفسه أو قدمه البعض من خلالها، كمسلسل: “محايد” سياسيًا. فالتشويش والإجتزاء للتاريخ الذي يطبع التعاطي العام لـ (القاهرة: كابول) يعمل على السطح كأساس يمكن من ضمنه التقليل من أهمية “التاريخي” والرفع من أهمية “المتخيل” في تعاطي المسلسل مع السياسة المصرية المعاصرة. لكنه من ناحية ثانية يعزز “تحيزه” إلى رؤية سياسية محددة تجاه تاريخ هذه السياسة. في هذا الإطار، يتحول اللعب السردي بين “التاريخي” و”المتخيل” إلى نوع من “الشرعنة” لتهميش دور البحث التاريخي الجدي، ولتكريس التكهن الميتافيزيقي للوقائع المادية للتاريخ.

التغييب كمكون سياسي في المسلسل 

البنية الإيديولوجية التي يدفع (القاهرة: كابول) باتجاه التفاعل معها، تجد أساسًا ومركز إنطلاق لها في إطار ما هو أيضًا غائب عن مضمون وشكل الدراما نفسه. فما يتعامل معه المتلقي كتجسيد “تاريخي متخيل” لقصة عن إرهابي أصولي، لا يتفاعل إيديولوجيًا فقط من خلال ما يختار المسلسل أن يقدمه من معلومات تاريخية وسياسية محددة عن الإرهاب وتطوره في مصر والعالم. فالتفاعل السياسي المباشر وغير المباشر للمسلسل، وبالتالي تكون الهوية الإيديولوجية لتعاطيه مع موضوع بأهمية موضوع تطور الإرهاب المعاصر في المنطقة، يرتبط كذلك بما هو غائب جزئيًا أو بشكل مطلق عن ما نشاهده أمامنا في المسلسل.

في هذا القسم سأستعرض بعض المرجعيات المفصلية في تاريخ تطور الفكر الأصولي الديني ورديفه الإرهابي والتي غابت عن مسلسل (القاهرة: كابول)، وكيف أن هذه المرجعيات، حتى في غيابها، تُمثل جزءًا عضويًا من البنية الإيديولوجية للمسلسل. فالتشديد هنا إذًا هو على أن أحد الأولويات المنهجية في عملية رصد التفاعل الإيديولوجي لأي عمل الفني، لا بد له أن يتناول العلاقة العضوية في ما بين ما هو حاضر في العمل وما هو مغيب عنه.

ومن الضروري التأكيد في هذا السياق أن المقصود في هذا العرض ليس أن على الأعمال الفنية التي تتعاطى مع التاريخ أن ترتب “قائمة تدقيق” لما يتوجب عليها ضمه، وأن يكن هكذا تدقيق يبقى مُرحبًا به في ظل حالة تشتت الذاكرة التاريخية الجماعية التي تُعاني منها شعوبنا كنتاج لتهميش التمعن العلمي الممنهج في قراءة التاريخ. إذ ليس مطلوبًا من العمل الدرامي أن يكون تفصيليًا وشاملاً في تعاطيه مع تاريخ كل الرموز والمرجعيات المعروفة والمحددة التي يقدمها. بالمقابل، فنحن في (القاهرة: كابول) أمام عمل قدم نفسه منذ البداية (من خلال شكل البوستر الدعائي وإبراز المرجعية الرمزية التاريخية لشخصية المسلسل الرئيسية، “الخليفة” المقيم في أفغانستان)، كما جرى تدويره إعلاميًا من قِبل الكثير من الإعلام المحلي والعربي، كنوع من المقاربة “الخيالية” التي تستوحي أيضًا شخصيات تاريخية معينة في محاولة للتعاطي مع موضوع تطور وأسباب إزدياد نفوذ الإرهاب الأصولي في مصر والمنطقة.

إن الحجم الضخم لمكونات المراجع التاريخية المغيبة عن (القاهرة: كابول) من ناحية، ولجوء المسلسل بالمقابل إلى التركيز على مرجعيات محدودة جدًا لا تزيد عن الخمسة، ثم الباس الأخيرة معانٍ ذات دلالات سياسية محددة، أضفى على (القاهرة: كابول) طابع إعادة الصياغة لحيثيات شديدة الأهمية. وهذا النوع من إعادة الصياغة يؤدي إلى الكثير من التشويش على قدرة المشاهد على فهم تاريخ الموضوع المطروح. بالتالي، فالتغييبات في هذه الحالة تُسهم عمليًا في إعادة كتابة للتاريخ، وباتجاه الدفع إلى تبني استنتاجات سياسية محددة.

فما هي المكامن والمرجعيات الأساسية التي تغيب كليًا عن خلفيات الحبكة القصصية للمسلسل ونصه ؟

إن الواقع التاريخي والعلمي لنشأة الإرهاب الأصولي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي هو بالتأكيد موضوع معقد ومتعدد الجوانب والتفاصيل. بيد أنه ليس أحجية بلا مصادر تُساعد في توثيق أو القاء الضوء على مسارات تطور هذا الإرهاب… هذا على الأقل إذا ما ركزنا على فترة العقود الخمس الماضية التي تُشكل الخلفية العامة لأحداث قصة المسلسل.

ما يغيب كليًا عن المسلسل هو الأخذ في الاعتبار النقلة السياسية النوعية التي حدثت في مصر والمنطقة في تلك الفترة. فمع انتهاء “الحقبة الناصرية” ومع استلام الرئيس “السادات” للسلطة في مصر، عام 1970، بدأت تتراكم آثار تحولات مفصلية في العالم العربي. هذه التحولات طالت معظم الواقع السياسي في هذه المنطقة، ورسمت معالم تطوره الأساسية في الحقبات التالية، وهي ما زالت تتحكم بالكثير من دينامياته السياسية، حتى يومنا هذا. في صلب هذه التحولات كان استعادة دول الغرب لزمام المبادرة والهيمنة في معظم أنحاء المنطقة العربية. وتبلور هذا بشكل خاص في إطار ما عبر عنه، آنذاك، الرئيس “السادات”، من أن: “99 بالمئة من أوراق اللعبة السياسية في المنطقة تكمن في يد الولايات المتحدة الأميركية”. ومن المظاهر التي جسدت هذه النقلة المفصلية على الصعيد الإقليمي، كان التنامي غير المسبوق في أوائل السبعينيات للدور الاقتصادي والسياسي والثقافي لدول الخليج العربي بشكل عام وللملكة العربية السعودية بشكل خاص؛ كحليف تقليدي لدول الغرب في المنطقة العربية. وحصل هذا كنقيض واضح لما جسدته التوجهات الاقتصادية والسياسية والفكرية خلال “الحقبة الناصرية” السابقة؛ والتي كانت قائمة على أسس تشجيع مبدأ عدم الانحياز، والذي كانت تقوده مصر عالميًا في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

والتوجه المصري نحو الانفتاح الشامل باتجاه الرياض؛ كان من مظاهره أيضًا التنامي الضخم في نسب الهجرة المؤقتة للعاملين المصريين إلى المملكة ودول الخليج الأخرى. وتمخض هذا الواقع الجديد، وعلى مدى عقود عن تأثر الكثير من هؤلاء وعائلاتهم بالخطاب والتوجهات الدينية والسياسية السائدة هناك، وانفتاح بعضهم على المناحي الفكرية المتنوعة للفكر الديني بتوجهاته الأصولية، بما فيه تلك المرتبطة بالحركات الوهابية والإخوانية على اختلاف تنوعاتها ومرجعياتها. هذا التأثر سرعان ما تحول إلى تراكم للمكونات التي بدأت تطبع الواقع الثقافي والسياسي في مصر والمنطقة.

ومما لا شك فيه، أن النقلة السياسية النوعية التي بدأت منذ أوائل السبعينيات، أدت بشكل شبه مباشر إلى تمكين الخطاب “الديني” من توسيع نفوذه بشكل غير مسبوق في مصر. وأقترنت هذه التحولات في الواقع مع حملات منظمة ومباشرة لتصفية القوى التي كانت في الواقع مهيمنة في الخمسينيات والستينيات، خلال فترة حكم الرئيس “جمال عبدالناصر”، والتي كانت على تناقض وجودي مع القوى والتيارات الدينية والأصولية.

ففترة السبعينيات شهدت تمكينًا ممنهجًا لنفوذ ونشاط التيارات الأصولية الدينية على أنواعها؛ وذلك بدءًا من الجامعات، إلى النقابات، إلى وسائل الإعلام، ووصولاً إلى البنى الاقتصادية واتجاهات السياسة الخارجية للبلاد. وخلال هذه الفترة كان هناك أيضًا ضربًا ممنهجًا للقوى المنظمة لليسار المصري بكل تياراته، بما فيها الناصرية والقومية والماركسية، والتي تمتعت بالنفوذ السياسي الأقوى في مصر خلال عقدي الخمسينيات والستينيات وحتى فترة السبعينيات من القرن الماضي.

على المستوى الإقليمي، جاءت الحرب “الجهادية” في أفغانستان ضد الحكومة التي كان يساندها الاتحاد السوفياتي في أواخر السبعينيات لترسم معالم جديدة في إزدياد نفوذ التنظيمات الأصولية في المنطقة. في هذا السياق، فإن جزءًا هامًا من الدعم الذي كان يتلقاه “المجاهدون الأفغان”، كان مصدره بعض دول الخليج، خصوصًا لجهة الدعم المالي والتوجيهي الضخم لبعض هذه الدول لكافة نشاطات هذه المجموعات. وبالطبع لا يمكن هنا تجاهل الدور اللوجيستي والمخابراتي والتنظيمي الكبيرالذي تبوأ به نظام حكم “محمد ضياء الحق” في باكستان، من 1977 إلى 1988، والذي كان مدعومًا من المخابرات الأميركية، ومدعوم ماليًا من العربية السعودية.

كما كان هناك تأييد متعدد الجوانب، ومنه الرسمي، لهذه الحرب في مصر في حينه، بما في ذلك تجنيد، وتدريب، وتسليح، ودعم لوجيستي، وسياسي على المستوى الرسمي: “للمجاهدين” في أفغانستان. وبالتأكيد، فقد أضاف هذا الدعم عنصرًا جديدًا في توسع وتنظيم القدرات العسكرية للمجموعات الأصولية في المنطقة وأجزاء عديدة من العالم الإسلامي، خصوصًا بعد بدء رجوع العديد من المشاركين في هذه الحرب إلى العالم العربي في أواسط ونهايات العقد الثامن من القرن الماضي. بالنهاية، أقترنت فترة الثمانينيات والتسعينيات بإزدياد غير مسبوق في تاريخ مصر والمنطقة لنفوذ المجموعات الأصولية، وكذلك لنفوذهم ضمن الجاليات العربية والإسلامية في العالم بشكل عام. كل هذا ساهم بتجذير ما أشرنا إليه من متغيرات سياسية وفكرية أساسية في المنطقة.

عالميًا، لعبت الولايات المتحدة وحلف الناتو دورًا أساسيًا في تجهيز وتدريب وتوفير السلاح لهذه المجموعات، وذلك بدءًا من دعم: “المجاهدين الأفغان”، في أواخر السبعينيات، إلى فتح الطريق أمام الحرب الأهلية في الجزائر، بين 1992 و2000. واستمر هذا وصولاً إلى مرحلة تكوين (داعش) و(جبهة النصرة) في أعقاب ما أطلق عليه في الغرب توصيف: “الربيع العربي” وإطلاقهما خصوصًا عبر الحدود التركية والأردنية والعراقية باتجاه سورية، وفيما بعد باتجاه أنحاء متعددة من العالم العربي، ومنها أيضًا من ليبيا باتجاه مصر.

نحن هنا إذن أمام تحولات سياسية ساهمت بشكل مباشر في فرز بيئة حاضنة للفكر والتنظيمات الأصولية على اختلافها وعلى مدى العقود الخمسة الأخيرة من تاريخ المنطقة. بمعنى أن المتغيرات السياسية لعبت الدور الأكثر حسمًا في رسم خطوط تشكيل الوعي الشعبي الجمعي في المنطقة خلال هذه الفترة. فالطاقات والإمكانيات المادية الهائلة التي جرى توفيرها لهذه المجموعات لعبت الدور المركزي في نشر نفوذ الفكر الأصولي بين قطاعات شعبية واسعة في العالم العربي والإسلامي. ومما لا شك فيه التهميش القسري والذاتي على السواء لدور التيارات اليسارية المنظمة؛ وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر الثمانينيات، كان له دور حاسم في تفريغ الساحة الفكرية والسياسة من القوى ذات التوجهات العلمانية. حيث ساهم هذا بالمقابل بفتح الساحة على مصراعيها أمام القوى الأصولية الدينية والوهابية؛ والتي كانت منذ عقدين فقط تفتقد أي مقومات جدية لبناء نفوذها في مصر والعالم العربي. ولا ننسى أيضًا، أن المؤسسات الدينية “الرسمية” المحلية، وبشكل خاص “الأزهر”، لعبت كذلك دورًا هامًا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في توفير غطاء معنوي، وأحيانًا فكري، للاتجاهات الأصولية المتنامية مما ساهم في توسيع نفوذها وتأطير الفهم الشعبي لقراءة وممارسة الدين.

(القاهرة: كابول)، من ناحيته، يختزل مرجعياته التاريخية بالنسبة لموضوع دعم الإرهاب على مدار العقود الخمس الماضية بتدخل سياسي ولوجيستي خارجي أول ترفده الإشارات المباشرة إلى استخبارات غربية وغير المباشرة للاستخبارات الأميركية، وكذلك تلميح ثانٍ بإمكانية وجود دور أو تدخل إيراني في تشجيع الحركات الأصولية والإرهابية وترفده الإشارات بهذا الاتجاه والتي تكلمنا عنها سابقًا. ويغيب بشكل مطلق أي مرجع آخر. في خضم غياب عناصر أساسية عن تكون وتطور الفكر الإرهابي في المنطقة في المسلسل، خصوصًا في إطار التغييب التام لأي مرجعية تطال دور الحركة الوهابية التاريخي والمساهمات المفصلية لتلك الحركة وللمملكة السعودية على مر العقود الماضية في نشر هذا الفكر.

ويُركز المسلسل على “تمصير” الإرهاب بشكل يُعيد التفكير الفطري الجمعي الذي جرت إعادة تدويره في الإعلام المهيمن على الصعيد المحلي، والذي يُقلل من شأن العوامل الأخرى، داخلية كانت أو خارجية. وأخذًا بالاعتبار أن المسلسل يقوم من وقت لوقت بإعطاء إشارات عابرة وغير واضحة عن أشخاص يذهبون إلى سورية أو تركيا (بالرغم من أن المسلسل من المفترض أن يتناول مرحلة ما قبل أحداث 2011)، فإن التغييبات الكبيرة التي أشرنا إليها وما تُحدثه من تشويش على فهم المشاهد لطبيعة النشاط الإرهابي وحروبه في المنطقة، تفقده بالتالي قدرته على استيعاب جدية وخطورة ما يحدث حوله.

إذًا، ضمن تغييب مرجعيات أساسية في تاريخ نمو نفوذ الفكر الأصولي والفكر الإرهابي في المنطقة، يتحول هذا النمو عمليًا بنظر المشاهد إلى ما هو أشبه “بالطاقة” الهلامية المنفصلة عن الواقع المادي للتاريخ والسياسة. وبالتالي نكون قد أفرغنا هذا الفكر وممارسات الإرهابيين من هويتها كتعبير عن منظومة تكاملت معالمها، وعلى مدى عقود، ضمن تناغم وتقاطع مصالح لقوى سياسية طبقية محلية وإقليمية وعالمية استفادت وعلى كافة الأصعدة من نشر الأفكار المتطرفة والتأويلات الضيقة للدين.

إن إعادة كتابة التاريخ (وإن كان المسلسل يتملص “رسميًا” من هذا الحِمل عبر الإشارة المعتادة إلى أن شخصيات العمل وأحداثه ليست إلا “من محض الخيال”)، يُعيد تدوير اتجاهات فنية أضحت شيئًا عاديًا؛ خصوصًا خلال العقود القليلة الماضية. تلك الاتجاهات إرتبطت بأسلوب “التشبيك” الفني ما بعد الحداثي للسرد، وذلك في إطار تقديم تقاطعات سردية وشكلية تعود لأزمنة وأمكنة ومرجعيات تاريخية متباينة وقد لا تمت لبعضها بأي صلة. وما هو مشترك بين الكثير من هذه الممارسات الفنية (وليس بالضرورة جميعها) أنها تميل إلى الخلط والتلاعب العبثي بالمرجعيات الزمانية والمكانية والاجتماعية وغيرها كتعبير عن عدم إكتراث أو كتهميش متعمد للتاريخ أو للتفكير بمنهجية تاريخية. وعلى الرغم من أن شكل السرد في (القاهرة: كابول) هو أبعد ما يكون عن الأسلوب ما بعد الحداثي، فإنه لناحية “تأريخه” المشوش لموضوع الإرهاب والتطرف الديني، فهو يأتي في نفس السياق العبثي الذي يطبع ذلك الأسلوب.

فما هي المظاهر الإيديولوجية للتوجه السياسي المعادي للتاريخ وللقراءة العلمية لإزدياد نفوذ الفكر الأصولي على اختلاف تجسداته، بما فيها أشكاله المتطرفة والإرهابية، والتي يُعاد تدويرها من خلال المنتجات الفنية التي تحتل الصدارة اليوم في المشاهدات على المستوى الشعبي في بلادنا، مثل مسلسل (القاهرة: كابول) هذا العام ؟

الإرهاب والتطرف الديني وصراع الخير والشر: رمزي كشخصية “أسطورية”

تُمثل شخصية “رمزي” الخلفية الأساسية التي يرسم المسلسل من خلالها خطوط رصده لتاريخ ولطبيعة الفكر الديني المتطرف؛ ودوره في تشجيع الممارسات الإرهابية. فغياب عناصر ومرجعيات تاريخية عديدة عن البنية السردية للمسلسل كما رأينا سابقًا، وبالذات تلك التي يُسهم غيابها في إبقاء شخصية “رمزي” مبهمة تاريخيًا، يُمهد أيضًا لإبراز دلالات هامة لتلك الشخصية. فالتصوير المبهم لشخصية “رمزي” يُعيد تأسيس أو تدوير بعض التوجهات الثيمية ذات الأبعاد الإيديولوجية للمسلسل.

فالإرهابي هنا هو أيضًا بطل المسلسل ومحركه الدرامي. وهو بالتالي الشخص الذي يُمثل الركن الأهم في تركيب القصة ودفع أحداثها إلى الأمام. طبعًا هذا بغض النظر عن بعض الضعف بكتابة السيناريو لجهة ربط يوميات وأحداث الشخصيات المتفرقة مع تفاصيل مجريات الدراما الأساسية التي تطبع بعض تفصيلات حياة “رمزي” في مصر أو في أفغانستان. فـ”رمزي” يبقى المحور المهيمن افتراضيًا على القصة. أما الأحداث الأخرى والشخصيات التي نتابع حياتها في القاهرة، فتبدو جانبية ولو أنها تُمثل في مجموعها الاستقطاب العام الجامع (حتى في إطار التفصيلات والتناقضات الجانبية فيما بينها) لقطب “الخير” الذي يقابل قطب “الشر” الذي يُمثله “رمزي” المتواجد غالبًا في أفغانستان. في هذا السياق، تعمل الأحداث الموازية في القاهرة كعنصر “مكمل” لرسم المسلسل لمعالمه الدرامية والثيمية، وخصوصًا تلك التي توفر البُعد الملحمي لتجسيده لثيمة الصراع بين الخير والشر.

والتقديم البصري لشخصية “رمزي” في أفغانستان مركب بشكل يوحي بأن بعض جذورها مرتبطة في بعض ما توحي به المنطقة إنطباعيًا كساحة صراعات لا تحصى اتخذت أبعادًا شبه أسطورية منذ أواخر القرن الماضي. وهذا يُمثل عاملاً هامًا في إضفاء بعض الهالة الأسطورية على تركيب ودور تلك الشخصية. لكن هذا التركيب يحتوي أيضًا على عدة تناقضات. على سبيل المثال، فإن جزءًا أساسيًا من رسم شخصية “الخليفة” يُعبر عنه الرجوع المتكرر لمرجعية سنوات طفولته وشبابه مع شخصيات أخرى.

بيد أن جزئية تقديم طفولة “البطل” تُمهد أيضًا لما سيُصبح عليه “رمزي” فيما بعد. فالمسلسل يقدم عدة شخصيات منها خاله وابنة خاله وأمه وأصدقاؤه الثلاثة كعوامل تكاملت مع القدر المحتم للطفل والمراهق “رمزي”. فقدر هذا “البطل” الإرهابي الأسطوري بالمفهوم الإيديولوجي لمحاكاة ملحمة صراع الخير والشر والذي يُحاكي ما يعتبر “طبيعيًا” في الإيديولوجيا المهيمنة، هو معروف سلفًا، وهو غير خاضع لعوامل سياسية أو شخصية أو أحداث غير متوقعة من الممكن أن تُعيقه أو تُوقفه. فحتى علاقته مع ابنة خاله “منال” التي تبقى في مخيلته بعد انتقاله إلى أفغانستان وبعد “استعادته” إلى مصر من قبل المخابرات المصرية، فهي مرسومة في سياق توقعنا المسبق “لاستحالة” تحققها. زد على ذلك أن علاقة “منال” المستجدة مع ابن الزوجة العتيدة لوالدها تجعل من إمكانية عودتها إلى “رمزي” محكومة دراميًا بالفشل شبه المؤكد. شخصية “رمزي” إذًا مبنية ضمن المنطق “القدري” للإيديولوجية السائدة والذي يربط ملحمة الصراع بين الخير والشر بالنهاية بحتميات ميتافيزيقية تتجاوز قدرات البشر على تغييرها أو تطويعها.

ومن اللافت أن إكتمال بناء الشخصية “الأسطورية” لرمزي يتم أيضًا في خضم إبراز مكامن ضعفه الداخلية والتناقضات التي تشحذ شخصيته ومشاعره. فاهتمام رمزي بعلاقته مع ابنيه، خصوصًا بعد اغتيال خال أحدهما وواحدة من أميهما، ثم تسببه بموت أحد الأخوين؛ واستمرار حب “رمزي” لابنة خاله “منال”؛ على الرغم من “زيجاته” المتعددة كخليفة؛ وحبه الواضح لوالدته وتألمه العميق لوفاتها؛ وحتى علاقات الصداقة الملتبسة بينه وبين رفاق طفولته، كل هذه المحطات الدرامية تُسهم في إبراز جوانب تضفي تعقيدًا لم نعتاد على رؤيته في الكثير من الدراما العربية لدى تجسيدها لشخصيات من المفترض أن ترمز للشر. ويتكرر هذا ضمن لحظات فارقة داخل الدراما تساهم بمجموعها في تعميق تلمسنا للبُعد الإنساني في شخصية “رمزي”. ففي أحد المشاهد يُعبر “رمزي” عن حنينه للقاهرة؛ حيث يكمن “السر الأكبر” لحياته. ويبوح في مشهد آخر عن الآلام التي تعتصر قلبه في بُعده عن من يحبهم. يجري المشهد على وقع “التمشية” الأخيرة لوالدته قبل موتها، ويجمعه بعازف موسيقى بالوشستاني يُصر أن يكون أنيسًا له في سهراته الخاصة على الرغم من اعتراض مساعده الأكبر على ذلك. في المشهد يغني الموسيقي بيتًا شعريًا يقول فيه: “إذا لم تعرف كيف تحب، فلماذا أيقظت قلبي النائم”، في إشارة إلى صعوبة تعامل “رمزي” مع التناقضات الداخلية التي يعاني منها كإرهابي.

هذه التناقضات هي بالنهاية تعبير طبيعي عن “عدم الحصانة” الفكرية والعاطفية لـ”رمزي”، لكنها لا تلغي جوهر شخصيته كقطب أساسي محرك ضمن دائرة الصراع الدرامي للمسلسل. وبالتالي، فالمشاهد يُدرك مسبقًا أنه لا يمكن للحيثيات الإنسانية “الخيرة” في شخصية “رمزي” أن تهزم جوهر “الشر” الذي يُهيمن عليها. وحتى تردده في اتخاذ بعض القرارات السياسية والعسكرية والشخصية، يجري تقديمه في المسلسل كإثبات للسياق القدري التي يتحكم بشكل قرارات “رمزي”. إذ أن التردد في اتخاذه لبعض القرارات لا يجعلنا نتوقع أن يؤدي إلى تغيير ما هو حتمي ومقدر مسبقًا. في هذا السياق يأتي قتل “رمزي” لصهره، وقتله لزوجته، وحتى تسببه غير المباشر في مقتل أحد أبنائه، وخيبة الأمل الكبيرة التي تؤدي إلى اعتقاله كنتاج مباشر لفشل محاولته ترميم علاقته العاطفية مع “منال”. فقدر هذا البطل “محسوم” في إطار “العقد الإيديولوجي” القائم مع المشاهد سواء ضمن البنية السردية للقصة أو خارجها. بالنهاية فإن “رمزي” هو إرهابي أصولي: “كامل الأوصاف”، وبالتالي غير قادر، ولا مجال له لأن يحيد عن ما هو مرسوم لمصيره في إطار صراع الخير مع الشر.

على مستوى آخر، وكما أن الإطار العام للخطاب الفلسفي: “المثالي” يبقي موضوع الأولوية في الحسم متأرجحة في ما بين ما هو مُقدر وما هو رهن بالإرادة الفردية، فالسياق الدرامي للمسلسل يبقي نفسه وبقوة منفتحًا تجاه تقدير الأهمية الكبيرة لإرادة الفرد في رسم مسار حياته. فمسلسل (القاهرة: كابول) يُعيد تدوير “الحكمة” الشعبية السائدة إيديولوجيًا، بأن ما يحدث في حياتنا هو أيضًا نتاج لخيارات فردية. هذه الخيارات تبقى محركًا أساسيًا لمسارات التاريخ، بما فيها تلك التي تجعلنا نختار في ما بين الوقوف إلى جانب الخير أو إلى جانب الشر.

في إحدى الحلقات الأخيرة للمسلسل يُعيد الإعلامي “طارق كساب” تأكيد المقولة إياها عبر تركيزه في مقدمة لبرنامجه التلفزيوني بأن الحقيقة هي دائمًا حقيقة نسبية يتم تحديدها ضمن قرارات يجري تحديدها من قبلنا نحن. وبالتالي، فهكذا قرارات ليس من الضروري “عقلنتها” أو تبريرها بأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية محددة. وفيما يُشبه الخلاصة: “للحكمة العامة” العامة للمسلسل يقول طارق: “أحنا اللي حنبقى الحقيقة، مش التلفزيون والجرايد. أنتوا عندكو الحقيقة. وطنك هو أنت” مستوحيًا قول فيلسوف الاتصالات الكندي، “مارشال ماكلوان”: “الوسيلة هي الرسالة”. ضمن هذه الدينامية يحسم المسلسل عمليًا إنحيازه لتوجه إيديولوجي يرسم شكلاً محددًا ليس فقط للمنهجية: “الأكثر واقعية” للتعاطي مع قضايا إشكالية مثل التطرف الأصولي والإرهاب، بل أيضًا للتعامل مع كل ما له علاقة بفهم وإيجاد حلول للقضايا السياسية والاجتماعية والأخلاقية، وكل قضايا الحياة بشكل عام. فما نتخذه من قرارات أو ننتقيه من خيارات حيال كل هذه المسائل محكوم، أولاً بمشيئة القدر التي تحسم نتائج الصراع السرمدي بين الخير والشر، وثانيًا عبر ما نقوم باختياره إراديًا كتعبير ذاتي عن موقعنا ضمن هذا الصراع.

لكن المسلسل لا يكتفي بهذا التحديد الفلسفي العام لمروحته الفكرية. فـ (القاهرة: كابول) يرسم خطوطًا أخرى أكثر تحديدًا في تعامله مع “ملحمة الصراع بين الخير والشر”، وخاصة بالنسبة لخياراتنا الفردية في هذا المجال. ففي سياق “المعركة” ضد الفكر والإرهاب الديني المتطرف، فإن الصراع لا يمكن له أن يخرج بالنهاية عن السياق العام للخطاب “الديني”. هذا ما نبحثه في القسم التالي.

الصراع ضد الإرهاب كمرآة للصراع بين التدين “الحقيقي” والتدين “المزيف”

يُعاد تركيب ثيمة الصراع الملحمي الدائم التجدد بين الخير والشر ضمن عدة مفاصل غير مركزية لأحداث المسلسل. في هذا السياق لا يستبعد المسلسل تصويب الوضع في إطار تدخل قوامه معالجة داخلية أمنية قوية (وترمز إليها في المسلسل شخصية ضابط الأمن عادل)، و/أو عبر تدخل من ضمن منظومة الخطاب المتدين “المعتدل” و”المتنور” (والذي ترمز اليه شخصية العم حسن). بيد أنه حتى ضمن تجسيد الصراع الأمني مع الإرهاب، يبقي السيناريو الإطار العام لخطابه محصورًا إلى حد كبير في منطق الدفاع عن التأويل “الصحيح” للقيم الدينية. في الحلقة الثانية يخاطب الخبير الأمني “عادل”، الإرهابي “رمزي”: “اللي يخدع الناس مش ممكن يكون هو المؤتمن على العقيدة”، في إشارة تعكس المحتوى المهيمن على شكل تقديم المسلسل للصراع مع الإرهاب، كواحد يتمحور حول من هو جدير “بالإئتمان على العقيدة”. ولعل أكثر محاور المسلسل الدرامية أهمية في التشديد على هذا الطرح هو المحور المتعلق باللقاءات التي تجري في مقهى شعبي في السيدة زينب.

هنا نجد خطين متوازيين؛ لكن متفاعلين دراميًا وثيميًا بين قصة شلة الأصدقاء الشباب من أيام الأمس: (خالد، طارق، عادل، ورمزي)، وقصة/قصص شلة شباب “اليوم” الذين يلتقون بشكل دائم في أحد المقاهي الشعبية ويتناقشون خلال جلساتهم حول قضايا ومشاكل حياتهم اليومية. والمسلسل يبني على التماثل العام  في طبيعة القضايا التي فرضت وتفرض نفسها على حياة كل من المجموعتين، سواء على صعيد الحياة الشخصية، أو في ما يتعلق بخياراتهم إزاء موضوعة “التطرف” الديني والإرهاب. ومن خلال الطرح المتوازي لأحداث ترسم ملامح من الصراعات الدائرة في حياة هاتين المجموعتين، يُعاد تدوير فكرة القدرية التي تحكم بالنهاية مصائر هاتين المجموعتين في إطار كونهما جزءًا من الصراع القائم بين الخير والشر. لكن في حين أن “رمزي”، كقطب للشر ضمن مجموعة الأصدقاء من الجيل الذين نشأ في القرن الماضي هو الذي يطغى بوجوده كمحرك درامي داخل تلك المجموعة، فإن مجموعة الشباب من أبناء الجيل الذي نشأ في هذا القرن تكتسب ديناميتها الدرامية من الهيمنة الأبوية لرمزية “الخير”؛ والتي تجسدها ضمن هذه المجموعة شخصية العم “حسن”.

ضمن القصص الفرعية “لشلة المقهى” يطرح المسلسل العديد من المسائل ذات العلاقة بواقع حياة الشباب في مصر. فهذه المجموعة تضم مجموعة من الشباب منهم “درش” و”علي” و”حسين” و”أنور” والعامل في المقهى، “جورج”. هؤلاء يأتون من خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة؛ لكنهم بشكل عام ينتمون إلى جزء من الطبقة الوسطى التي فقدت تدريجيًا قدرتها على مقاومة المصاعب الاقتصادية اليومية التي تجابهها والتي أصبحت تسدل بستارها الداكن على طموحات وآمال هؤلاء الشباب بحياة أفضل. وحالة اليأس التي يعاني هؤلاء الشباب وبأشكال مختلفة منها، تجعل بعضهم بطبيعة الحال أقل “تحصينًا” ضد مغريات الفكر الأصولي والإرهابي، وأقل قوة في مقاومة أفكار الانتحار أو “الإلحاد”.

في نفس السياق، يأتي وجود شخصية العم “حسن” كحيثية أساسية لجلسات المقهى، ومشاركاته ضمن طروحات هؤلاء الشباب لقضايا الحياة والسياسة، ليلعب دورًا هامًا في رسم المعالم التي يتعاطي المسلسل من خلالها إيديولوجيا مع موضوعة التطرف الديني والإرهاب. فمداخلات العم “حسن” الطويلة بشأن التعاطي “الأخلاقي” مع هذه القضايا، تكرس أيضًا تقديمها كقضايا تُدار ضمن أطر تدخل “فردية” أو “شخصية”. ويأتي ضمن هذا، التشديد الدائم للعم “حسن” على أن مجابهة التطرف بالسلوك المنفتح والبعيد عن التزمت أو الإنهزامية يبقى الأمل الوحيد لدحرها، باعتباره الخيار الأكثر واقعية في هذا المجال.

هذا التوجه العام؛ والذي يجري تقديمه كإطار لمجابهة التحديات التي تجابهها مجتمعاتنا، يرسم إذًا أحد الخيوط الإيديولوجية الأكثر وضوحًا في تعريف المسلسل لطبيعة وديناميات المشاكل الاجتماعية والسياسية والفكرية التي يعاني منها شباب اليوم. وجلسات “النقاش” في المقهى التي تهيمن عليها الطروحات الأبوية للعم “حسن”، تنطوي بالنهاية عن رسم لمعالم محددة للديناميات المساعدة لمحور “الخير” في صراعه مع محور “الشر”.

التقديم المعقد وغير النمطي لشخصيات وطروحات شباب المقهى، كما تقديم التناقضات الحادة التي تظهر من حين لآخر ضمن نقاشات المجموعة، دفع بعض المتابعين للمسلسل إلى الاستنتاج أنه يقدم قصة منفتحة على كل الخيارات في تعاطيها مع قضايا أساسية راهنة… ما يغفل عنه هؤلاء، أن التقديم النمطي أو غير النمطي للشخصيات لا يحسم بالضرورة هوية التوجه الإيديولوجي لشكل تعاطي المسلسل مع القضايا المطروحة. فهذه الهوية ترتسم معالمها الأساسية ضمن المسار الذي يتم من خلاله تصوير هذه الشخصيات وقضاياها داخل سياق الصراعات التاريخية للمجتمع.

إن تعاطي المسلسل مع قضاياه الأساسية يتم في الواقع من خلال “نماذج وسيطة” تجسد الأطراف القادرة على حسم الحصيلة النهائية للصراعات ضمن أطر مقبولة إيديولوجيًا. في هذا الإطار يرسم السيناريو مرجعية حاسمة للحوار حول القضايا الوطنية والاجتماعية و”الدينية” و”الشبابية” التي يطرحها. والمسلسل يقدم النقاشات الأساسية “لمجموعة المقهى” في ظل الهيمنة الأبوية والدينية “المعتدلة” للعم “حسن”. ومن ضمن هذا التقديم، والذي يتسم في معظم الأحيان بطابع الخطابية المباشرة و”التبشيرية”، يُعيد المسلسل تدوير بعض مسلمات “الثقافة الفطرية” الشعبوية السائدة. ونذكر في هذا السياق إثنين من هذه المسلمات: أولاً، أن معالجة أي قضية اجتماعية أو سياسية أو فكرية يتم عبر تغيير وترشيد القناعات الفردية داخل المجتمع. ثانيًا، أن هذه القناعات يجب أن تبقى ضمن حدود ما هو “مقبول” في مجتمعاتنا و”تراثنا”. وضمن هذه الحدود، يبقى الإطار العام للخطاب الديني (الشعائر، والعقائد، والنصوص، وآراء المؤسسات الدينية) أساسًا لما هو غير مسموح بتخطيه.

إن دور القناعة الفردية المستقلة وامتدادها في الإرادة الفردية كأساس للتعاطي مع الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي ننمو ونعيش ضمنه، تستمد “منطقه” من الكنف الإيديولوجي الأكثر هيمنة في المجتمعات الرأسمالية، (المتطورة منها وغير المتطورة)، وهذا الكنف يفترض “استقلالية” مزعومة للفرد في رسم توجهاته واختياراته الفكرية، أي بمعزل عن الإيديولوجيا المهيمنة. هذا الافتراض يرتبط بشكل مباشر بالافتراض الآخر بأن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية هي في جوهرها قضايا يلعب الفرد الدور الأساسي في حلها. ضمن هذا المنطق، فإن محاولات التدخل المجتمعي في إطار الواقع المادي لعلاقات الإنتاج القائمة وانعكاساتها البنيوية على كافة الأصعدة يُصبح على هامش خيارات فهم تلك القضايا والتعاطي معها… بالنهاية، فإن التعامل مع التحديات التي نجابهها لا يستوجب بالضرورة تدخلاً مجتمعيًا مشتركًا ولا علاقة له بالصراع حول الهوية البنية الطبقية المهيمنة على وسائل الإنتاج، والاقتصاد، والسياسة، والقانون، والإعلام، وكل ما يرتبط بها.

ضمن هذه الحيز الإيديولوجي، يقدم المسلسل فهمًا خاصًا لهوية شكل التعاطي الفردي مع موضوع الفكر الأصولي والممارسات الإرهابية. إذ يبقي النقاشات ووجهات النظر التي يجري تداولها ضمن مساحة الاختيار في ما بين التأويل الديني “المقبول” أو”المعتدل” من جهة، وبين التأويل المتطرف للدين، وبالتالي “غير المقبول” له، من جهة أخرى. في الحلقة 18 يجري حوار بين العم “حسن” وأحد الشباب في المقهى حول الأديبين: “طه حسين” و”نجيب محفوظ”. التركيز هنا حول تهمة الشاب لهما “بالكفر” بدليل كتابة الأول لـ”في الشعر الجاهلي”، ولكتابة الثاني لـ”أولاد حارتنا”. النقاش هنا يُركز على صحة أو عدم صحة الاتهامات حول “إلحاد” الكاتبين. وبالتالي فإن عدائية الشاب تجاه الكتابين يتم ليس إنطلاقًا من موقف مبدئي بالنسبة لموضوع حرية الفكرية وحرية التعبير، أو حتى ضمن علمية ما طرحه الكتاب الأول، أو “فنية” الكتاب الثاني. بدلاً عن ذلك يتمحور النقاش حول مدى التزام أو عدم التزام “طه حسين” و”نجيب محفوظ” بما هو مسموح به دينيًا. ضمن هذه المروحة يبقي المسلسل النقاش ضمن ما هو مقبول ضمن “الثقافة الفطرية الشعبوية”، (“نحن شعب متدين بطبيعته”)، وهو ما يجسده العم “حسن” ضمن إشارته ضمن النقاش “لرضى” المؤسسات الدينية وموافقتها بالنهاية على نشر الكتابين.

وتأتي قصة محاولة الانتحار الفاشلة لواحد من شباب حلقة المقهى لتصب ضمن سياق عدم الخروج من بوتقة ما هو مقبول، أي إعادة تدوير الخطاب الديني: “المعتدل” أو “المتنور”. أن حادثة الانتحار نفسها مركبة بما يُشبه قصة “القيامة” من الموت. فمحاولة الانتحار من قبل الشاب تتم ضمن دراما الصراع الذي يعيشه كل من شبان “الشلة”، ويحاولون من خلاله تجاوز مشاكلهم الحياتية التي يعانون منها. وبالتالي فإن الانتحار الفاشل لأحد الشباب يأتي غير متناقضًا، بل في الواقع متناغمًا مع التأطير العام للشلة ضمن “معسكر الخير”؛ والذي يجنح سيناريو المسلسل لإبقائها ضمنه. بالنهاية، يتحول فشل الانتحار و”قيامة” الشاب من الموت، إلى خلفية تحول ضد أي تأويل أو تصوير للشاب وكأنه شخص مخالف للدين. فيخلق السيناريو مخرجًا لنفسه عبر نجاة الشاب بما يُشبه المعجزة. في المقابل، يرسم المسلسل نقيضًا رمزيًا لما يحصل في “معسكر” الخير؛ وذلك في إطار مشهد مقابل يضم مجموعة من الأطفال/”الشباب” في “معسكر الشر” الذي يشرف عليه “الخليفة” الإرهابي في أفغانستان. ضمن هذا المعسكر، يؤكد “الخليفة” رمزي على أن أتباعه من الأطفال “الشباب” يتلقون ما يجتاجونه من تدريب كافٍ و”إيمان” قوي لكي يصبحوا انتحاريين محترفين وبإمتياز، قادرين ليس فقط على “انتحار” أنفسهم، بل أيضًا على قتل غيرهم في نفس السياق.

توجه مماثل يقابل أحد النقاشات حول “إلحاد” أحد شباب شلة المقهى. فتدخل العم “حسن” هنا يتم ليس باتجاه التداول بما يطرحه الشاب نفسه من أفكار، بل يتمركز حول الطرف الذي يحق له المحاسبة في حالات “الكفر”. فيخلص العم “حسن” إلى أنه: “حسب أصول الدين” فإن من يُحاسب في هكذا موضوع، ليس بني البشر، بل الله نفسه. هذا المنطق المطروح يأتي مكملاً “طبيعيًا” في إطار ما هو مسموح به إيديولوجيا في بلادنا بالذات. فكلمة “ملحد” بالعربية ليست ببساطة إشارة لغوية تصف وجهة نظر فلسفية، بل هي علامة ترمز إلى فعل مستهجن وتوازي في ما تعنيه كلمات أخرى مثل: “كافر” أو”زنديق”. بالتالي فإن الكلمة يستوجب تناولها ضمن تقييم “أخلاقي” كفعل من “الكبائر” بحسب التفكير الديني المؤسساتي المهيمن. طبعًا هذا يختلف جذريًا عن الوقع الذي تشحذه كلمة “ملحد”، (aetheist)، في اللغة الإنكليزية أو الفرنسية مثلاً، كإشارة ترمز لغويًا إلى اتجاه فلسفي محدد له نظرته الخاصة في موضوع التعاطي مع فكرة “الإله” بمعناها الواسع. وبالتالي فإن النقاش الذي يفتحه المسلسل في هذا الإطار يُعاد من خلاله تدوير الموضوع المطروح كموضوع “تطرف”، لكن هذه المرة ليس “كتطرف ديني”، بل “كتطرف” هويته الإلحاد.

ضمن إدارة العم “حسن” لأحاديث ونقاشات المقهى الشعبي، يكمن بيت القصيد في رسم المسلسل لحيثية الصراع بين الخير والشر. فشخصية “رمزي” كعلامة “للشر”، الذي يُمثله الفكر الأصولي والإرهابي، تقابلها ثيميًا شخصية العم “حسن”، كتجسيد لفكرة “الخير” في المسلسل. ويُسهم هذا بالنهاية وبطريقة غير مباشرة بتهميش تداول المسلسل لأي أفكار تأتي من خارج نطاق طروحات وتفسيرات العم “حسن”، بحيث لا يبقى لمثل هكذا أفكار مكانًا ذا أهمية في الحيز الثيمي والدرامي لتعريف “محور الخير” في المسلسل. بيد أن ما يجعل هذا التعريف أقرب إلى الواقع الحياتي الملموس بالنسبة لشخصيات المسلسل، (وبالتالي بالنسبة للمشاهد المهيمن عليه، بمعنى “hegemonized”)، هو ربطه الواضح بفكرة “التدين الحقيقي”، بما يرمز إليه هذا التعبير من “تدين معتدل” أو “متنور”، وما شابه من توصيفات.

بعض الاستنتاجات

يُعيد المسلسل تدوير شخصية الإرهابي والمنظمات الإرهابية وأفكار الأصولية الدينية بالاستناد إلى خلفية درامية وثيمية تفرغها عن امتداداتها التاريخية والسياسية.

لكن ماذا يعني أن يصبح البيكار الفكري لفهم واستيعاب أصول الفكر الأصولي وتطوره في المنطقة محصورًا ضمن مفهوم الصراع بين الخير والشر، ثم تجسيده ضمن أدوات صراع فردية وجماعية منقسمة فيما بين تلك “المتدينة بحق” وتلك “المزيفة” و”المتطرفة” في تدينها ؟ وماذا يعني أن نفصل في ما بين نشوء وتطور، ومن ثم استفحال، الدور والهيمنة الفكرية للتوجهات الدينية الأصولية، وبين أصولها ضمن الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي الذي رفد ويرفد التاريخ الحقيقي للمنطقة، خلال العقود الخمس الماضية ؟ وماذا يعني التشويش على الذاكرة الجماعية والتغييب المصطنع لدور مكونات منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي لعبت دورًا رئيسيًا في هيمنة الفكر الأصولي على المنطقة العربية ؟ والسؤال الأهم برأي، كيف يتناغم فصل الفهم العلمي والتاريخي لموضوعة الإرهاب والفكر الأصولي إيديولوجيًا ليس فقط مع إعادة تدوير الفكر الاستشراقي الاستعماري التقليدي تجاه بلادنا وتجاه التطرف الديني والإرهاب، بل ومع التوسيع الممنهج لهيمنة هذا الفكر على الشكل الذى نتخيل ونرى نفسنا من خلاله ؟

تعتمد منهجية الفكر الاستشراقي الاستعماري في رصدها لأي ظاهرة سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو ثقافية تتعلق بالمنطقة العربية أو الإسلامية، (بما فيها ظاهرة الأصولية الدينية والتطرف والإرهاب)، على اختزال تلك الظاهرة إلى واقع وضعي يتفاقم من وقت لوقت نتيجة ممارسات لزعماء وفئات محلية، “مارقة”، أو إرهابية “تكره” الغرب والديمقراطية. كما يربط الغرب من وقت لآخر ظاهرة الأصولية الدينية بربطها بمحاولة بعض المجموعات العودة إلى تطبيق التراث “الحقيقي” لدينهم وثقافتهم. والمفارقة الكبرى تكمن في أن الحكومات الغربية استعملت بالظبط هذا التعريف لشرعنة تأييدها للحرب “الجهادية” ضد الحكومة الأفغانية التي كانت مؤيدة من قبل الاتحاد السوفياتي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. حيث كان تبرير هذا الدعم في حينه مركزًا حول تضامن الغرب مع “المجاهدين” في رفضهم لمحاولات الحكومة “الشيوعية” فرض قيم اجتماعية وسياسية وفكرية “متناقضة” مع التقاليد الأفغانية ومع الدين الإسلامي.

وبالتالي فإن فصل ظاهرتي الإرهاب والأصولية الدينية عن أصولها في التاريخ، يأتي أيضًا كامتداد لمنهجية تعامل الخطاب الاستشراقي للحكومات الغربية مع واقع المنطقة العربية، وتصوير هذه الظواهر كتعبير عن خاصيات ثقافية ودينية فطرية متأصلة في شعوب المنطقة. وهذا بالظبط ما يفعله المسلسل بطريقة غير مباشرة حين يختزل ظاهرة الأصولية الدينية والإرهاب بخيارات محلية مرتبطة بديناميات تكمن في جذور ثقافتنا وتأويلاتنا للدين. حتى عندما يتكلم المسلسل عن استغلال المخابرات الغربية للمنظمات الإرهابية من أجل مصالحها الخاصة، فإن “تشويشه” بالمقابل على تاريخ تلك المنظمات ودينامياتها السياسية، يبقي ظاهرة الأصولية الدينية والإرهاب أسرى التقييم التقليدي السائد والذي تُعيد وسائل الإعلام الغربي تسويقه بشكل مستمر.

ويوصِّف الفكر الاستشراقي الاستعماري الأصولية الدينية والإرهاب في منطقتنا ليس فقط كتعبير عن خصائص مزمنة في المنطقة وعابرة لتاريخها، بل أيضًا كظواهر يبقى التخلص منها دائمًا نسبي ومؤقت، مما يفرض دائمًا الاستعانة بدعم خارجي. يبقي هذا بالتالي المجال مفتوحًا أمام “شرعنة” التدخل من قبل قوى خارجية للجم “الانفجارات” الإرهابية، باعتبار أن الديناميات الذاتية للمنطقة غير قادرة لوحدها على تبوؤ القيادة للقيام بهذا الدور بشكل جدي أو مستقل.

بالنتيجة يُسهم (القاهرة: كابول)، (كما معظم الأعمال الدرامية والمسلسلات التي يتم تسويقها هذه الأيام من قبل وسائل الإنتاج والتوزيع والدعاية المهيمنة في المنطقة)، في دفع المشاهد لتبني رؤى واستنتاجات يتم رسمها كحدود شبه مقدسة، لا يمكن من غيرها “مجابهة” الفكر الأصولي وممارساته على الأرض. وهذا التوجه العام، وبالحد الأدنى، يدفع بدوره إلى تهميش الخلفية التاريخية العلمية في قراءتنا لظواهر التطرف الديني وتصاعد الإرهاب، (وبالتالي يفصل المشاهد عن إمكانية تطوير قراءة أكثر جدية للموضوع)، ويساهم في تكريس الخطاب الاستشراقي المهيمن على المساحة المنهجية للتعاطي مع الموضوع. وبالتالي فإن إعادة تصوير هذه الظواهر ضمن رؤية هلامية عن صراع بين الخير والشر، يُمثل تبسيطًا لموضوع خطير تسبب في الواقع في مآسي ضخمة وتمخض عن أوضاع اجتماعية وإنسانية تزداد سوءًا في المنطقة.

حتى لجوء المسلسل إلى إضافة فقرات عن استغلال استخبارات غربية “للتأويل المشوه للدين”، لا يقلل بالنهاية من إعادة تدويره لفكرة “الطبيعة المتأصلة” للفكر المتطرف وإرهابه في المنطقة. فاختيار المسلسل لاستخبارات غربية غير محددة لإلقاء المسؤولية عليها في: “تبني” ودعم “الخليفة”، وكذلك تلميحاته بالنسبة لدور مؤسسة إعلامية عربية معروفة والدولة التي تقف وراءها، لا يتعديا في النهاية كونهما ذرًا للرماد في العيون يشوش على مكون أكثر أهمية وقوة. وهو ما اضطلعت به تاريخيًا وعلى مدى طويل، قوى إقليمية أخرى نافذة في المنطقة، وضمن تناغم كامل ساهم في استمرار هيمنة قوى الاستعمار الجديد ومصالحه.

طبعًا نحن هنا لا نقترح أن استعمال الخطوط “الأخلاقية” لطرح موضوع الأصولية والإرهاب هي اختيارات خاطئة بالمطلق، أو أن تبنيها ينعكس بالضرورة سلبًا على مقاومة هذه الظواهر في أعمالنا الدرامية أو السينمائية. ما نشدد عليه هو أن حصر مسلسل (القاهرة: كابول) لخياراته البنيوية ضمن خطوط “أخلاقية” عريضة، وعبر إنتقاء مكونات ومعطيات سردية وتاريخية محدودة وخارج سياقها التاريخي، يُعيد تسويق ظاهرة التطرف الأصولي والإرهاب في منطقتنا كتعبير عن “طاقة” شبه أسطورية. كما أن تدوير المسلسل بطريقة غير مباشرة وعبر تركيبته السردية والفكرية، (كما عبر تغييبياته)، لتوصيف الإرهاب والفكر الأصولي كطاقة مجردة عن بُعدها السياسي والتاريخي، يرسخ من مساهمته في إعادة موضعة المشاهد أمام غشاوة في الرؤية تجاه هذه الظاهرة السياسية بإمتياز، وتجاه فهم آفاق مجابهتها. وبالطبع، كل هذا يفقد المسلسل الكثير من المصداقية والجدية في المشاركة في مجابهة ظواهر الأصولية الدينية والإرهاب.

………………………………………………………………

المراجع :

مراجع أكاديمية أساسية وإضافية للبحث حول الجذور السياسية للفكر والإرهاب الأصولي في العقود الخمسة الأخيرة :

  • Rachel Bronson. Thicker than Oil: America’s Uneasy Partnership with Saudi Arabia. Oxford: Oxford University Press, 2006.
  • Steve Coll. Ghost Wars: The Secret History of the CIA, Afghanistan, and Bin Laden, from the Soviet Invasion to September 10, 2001. Penguin Group, 2004.
  • John Cooley, Unholy Wars: Afghanistan, America and International Terrorism. Pluto Press, 2002
  • Robert Dreyfuss. Devil’s Game: How the United States Helped Unleash Fundamentalist Islam. Macmillan, 2006.
  • Nabeel Jabbour. The Rumbling Volcano: Islamic Fundamentalism in Egypt. Pasadena: Mandate Press, 1993.
  • Robert Kaplan. Soldiers of God: With Islamic Warriors in Afghanistan and Pakistan. Knopf Doubleday. 2008.
  • Gilles Kepe. Muslim Extremism in Egypt: The Prophet and Pharaoh. Berkeley: University of California Press, 1984.
  • Barry Rubin. Contemporary History of Fundamentalism in Egypt. New York: Palgrave Macmillan, 1990.
  • Mark Selden and Alvin Y. So. War and State Terrorism: The United States, Japan, and the Asia-Pacific in the Long Twentieth Century. Rowman & Littlefield Publishers, 2004.
  • Natana J DeLong-Bas. Wahhabi Islam: From Revival and Reform to Global Jihad (First ed.). New York: Oxford University Press, USA, 2004.
  • Stephen Schwartz. The Two Faces of Islam: The House of Sa’ud from Tradition to Terror. Anchor, 2003.
  • Tim Nibloc. Saudi Arabia: Power, Legitimacy and Survival. Abingdon-on-Thames: Routledge, 2006.

* الدكتور “مالك خوري” :

أستاذ الدراسات السينمائية ومدير قسم السينما في “الجامعة الأميركية” في القاهرة.

القاهرة: كابول  (2021)

El Qahera: Kabul

تاريخ العرض: 13 نيسان/أبريل 2021

تصنيف العمل: ﺗﺸﻮﻳﻖ ﻭﺇﺛﺎﺭﺓ

يتناول المسلسل ثلاث قصص مثيرة، حول المؤامرات التي تُحاك ضد المنطقة العربية، وخاصة مصر بالفترة الأخيرة، مسلطًا الضوء على الأعمال الإرهابية التي تقع في هذه المنطقة، حيث الإرهابي رمزي، الذي تولى خلافة جماعة إرهابية، ويتصدى له ضابط الشرطة عادل، وينقل الصورة المذيع طارق كساب.

ﺇﺧﺮاﺝ: حسام علي – قصة وسيناريو وحوار: عبدالرحيم كمال.

تمثيل: طارق لطفي – فتحي عبدالوهاب – خالد الصاوي – حنان مطاوع – نبيل الحلفاوي – أحلام الجريتلي.

نقلاً عن موقع (سينماتك).

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب