خاص: كتبت- سماح عادل
فيلم “One Flew Over the Cuckoo’s Nest” فيلم هادئ يبدأ بموسيقى هادئة، سمعت كثيرا عنه وكنت أتشوق لرؤيته، ربما لأنه من بطولة الممثل الأمريكي “جاك نيكلسون” ذلك الممثل صاحب الأدوار المميزة والأداء المختلف في السينما الأمريكية.
البداية..
يبدأ الفيلم بموسيقى هادئة ومنظر للطبيعة، ثم تدخل ممرضة في منتصف العمر، ترتدي زيا أسودا، تفتح باب من حديد بمفتاح في يديها، تلقي التحية على العمال الملونين بتعجرف، ثم تنتقل الكاميرا داخل مستشفى للأمراض العقلية، لا توجد أية إشارة لتعريف المشاهد بذلك، وإنما مرضي يرتدون ملابس بيضاء ويجلسون بهدوء أو يحملقون في الجدران، ثم ممرضة أصغر في السن تضع الأدوية في أوعية صغيرة، وتنادي على المرضي من وراء حاجز زجاجي يفصل غرفة الممرضات عن عنبر المرضى، وتعطى كل واحد من المتواجدين كوبا صغيرا للدواء وكوبا صغيرا آخر به عصير لابتلاع الدواء، يأخذ المرضى دواءهم في سكينة وطاعة.
ثم يأتي “جاك نيكلسون” من الخارج، يرتدي زيا بسيطا وابتسامة تعلو وجهه يفك العامل قيده والذي ينتمي للسجن، ويسلمه للعمال في المستشفى، أول ما تنفك قيود “جاك نيكلسون” يضحك بصخب وينظر للمرضى ويطلق صيحات صاخبة، وكأنه فرح بالتحاقه بمستشفى للأمراض العقلية بدلا من السجن.
إدعاء الجنون..
ثم يذهب لمقابلة الطبيب ويتصرف بطبيعية شديدة، ونعرف أن اسمه “راندل باتريك ماكمفرى”، وحين يسأله الطبيب عن سبب تحويله من السجن إلى المستشفى لا يجيب بشكل صريح وإنما يراوغ ويقول له الطبيب أنه سجن بسبب خمسة جرائم وأعمال شغب قام بها، وأولها اغتصابه لفتاة في عمر15، ويقول “ماكمفرى” أنها ذهبت معه بإرادتها وأخفت عنه سنها، كما أن هناك رجل أعمال شهير قام هو أيضا بعمل أربعة أفعال استوجب عليها السجن، ويضحك، في إشارة إلى أن الذين يحاسبهم المجتمع ويقتص منهم هم الفقراء.
ويقول الطبيب أن الأوراق التي أمامه تقول أنه يدعي الجنون حتى يتهرب من أشغاله في السجن، ولا يجيب “ماكمفرى” ويقرر الطبيب أنهم سيتركونه بعض الأيام ليتحققوا من حالته.
ويبدأ “ماكمفرى” في التعرف على المحيط من حوله حاملا في يديه أوراق لعب بها صور لنساء عارية، يحاول التقرب من بعض المرضى، يلفت نظره رجل طويل وضخم الجسد من الهنود الحمر، ويعرف أنه لا يسمع أو يتكلم لكن رغم ذلك يحاول تعليمه كره السلة، ويظل يتقرب منه بطريقة أو بأخرى، ويطلق عليه لقب “الزعيم” ويقوم بدوره الممثل “ويل سامبسون”.
ويتقرب “ماكمفرى” من باقي المرضى، يلعب معهم الورق ويأخذ سجائرهم ويجعلهم يدينون له بالمال، رغم أنه يبدو مسجونا بلا ضمير ويستغل المرضى، إلا انه يحاول عمل علاقة إنسانية معهم، ويشاغب مع الممرضة “ميس رايتشد” وتقوم بدورها الممثلة “لويز فيلتشر” والتي يبدو من الأحداث أنها هي المتحكمة في المرضى في العنبر.
ليسوا مجانين وإنما تم إخضاعهم..
يكتشف “ماكمفرى” أن المرضى يتفاعلون معه، ورغم أنهم في البداية كانوا يبدون كضائعين وتائهين إلا أنهم بدأوا ينتبهون له ويتجاوبون معه، ورغم أن حالة “ماكمفرى” لم تشخص طبيا إلا أن الممرضة أعطته دواء مثل الآخرين، وحين رفض تناوله هددته “ميس رايتشد” بأنه سيتناوله بالإجبار، فتناوله أمامها لكنه لم يتناوله فعليا حيث وضعه في فمه وشاهده بعض المرضى وعرفوا أنه تلاعب في تناوله للدواء.
محاولة “ماكمفرى” للتمرد على القواعد الصارمة التي تضعها “ميس رايتشد” انتقلت مثل العدوى إلى بعض المرضى، في حين قاوم بعض آخرون، وقد حرصت “ميس رايتشد” على عمل جلسة جماعية بشكل يومي تجمع فيها بعض المرضى الواعين بشكل جزئي، وتناقشهم في مشاكلهم الحياتية، لكنها فعليا لا تقدم الحل، أو تحاول دعمهم نفسيا بأية طريقة، وإنما يبدو من طريقة نقاشها وإدارتها للجلسة أنها ترسخ في نفوس مرضاها عقدهم وأمراضهم، وتشعرهم أنهم دائما في ورطة وأن مشاكلهم صعبة الحل، وتتركهم يسخرون من بعضهم البعض دون أن ترفض ذلك الفعل.
عدوى التمرد..
أصبح “ماكمفري” رافضا للأوضاع في مستشفى الأمراض العقلية، فقد شعر أنه أسوأ من السجن الذي حاول الهروب منه، حيث تسلط “ميس رايتشد”، لدرجة أنها رفضت أن تسمح للمرضى بمشاهدة بطولة العالم في لعب الكرة، رغم أن السجن يسمح بذلك للمساجين، وحين حاول “ماكمفري” إجبارها على السماح لهم بمشاهدة بطولة العالم تلاعبت هي، وطالبته بالتصويت فصوت قليل من المرضى بقلق وريبة، مما أشعرها بالانتصار على “ماكمفري”، ثم حاول “ماكمفري” الهروب بعد شعوره الشديد بالسخط وأخذ يؤنب المرضى لأنهم لم يدعموه ويرفعوا أيديهم في التصويت، وحاول أن يزحزح حوض رخامي من الحمام ليكسر به أحد النوافذ ويفر من المستشفى ليشاهد بطولة العالم.
لكنه لم يستطع رفع الحوض الرخامي وأخذ المرضى يشاهدونه، لكنه قال لهم أنه على الأقل قد حاول، وشعر المرضى بالتضامن معه، وبدأوا يتجاوبون مع محاولته للتمرد على واقع المستشفى، وفي اليوم التالي صوتوا معه على طلب مشاهدة بطولة العالم، لكن كانت النتيجة التعادل حيث أخبرته “ميس رايتشد” أن جميع من في العنبر لابد أن يصوتوا، وأن تكون الأصوات بالأغلبية، وكان هناك صوت واحد متبقي فحاول “ماكمفري” أن يجعل الزعيم يرفع يديه، وقد فعل لكن “ميس رايتشد” أصرت على موقفها معلنة أن جلسة الجماعية قد انتهت.
وفهم “ماكمفري” أن “ميس رايتشد” سوف تحاول إخضاعه ليصبح مثل باقي المرضى خاضعين تماما لها ولقواعدها الصارمة، وأنها ربما تستمع بكونها تتحكم في مجموعة من المرضى الخاضعين، وأن أي محاولة للتمرد أو الاستفاقة تقابل من “ميس رايتشد” وباقي إدارة المستشفى بعنف شديد.
عزل الإنسان عن الجماعة..
في الصباح في وقت الذهاب إلى الحديقة هرب “ماكمفري” من السور بمساعدة الزعيم الذي حمله ليصعد على السور الحديدي، ودخل إلى العربة التي تنقل المرضى للعودة إلى المستشفى وانتظر بعد أن ركبوا جميعا وقاد السيارة إلى الشارع، جلب صديقة له وذهب إلى البحر واستولوا على سفينة، وعلمهم “ماكمفري” أن يصطادوا السمك ويمسكوا بصنارة الصيد وأحدهم قاد السفينة، ثم تشجع آخر ليقودها هو أيضا، وانشغل “ماكمفري” بصحبة صديقته، ثم رجع وساعد أحدهم في سحب سمكة كبيرة اصطادها بصنارته، عاد المرضى وحدهم واستطاعوا أن يقودوا السفينة في طريق العودة، وأن يصطادوا سمكة كبيرة مما يوحي بأنهم طبيعيين وأنهم ليسوا مجانين كما تحاول المستشفى إقناعهم بذلك. وساد نوع من التعاون الجماعي بينهم، في السفينة، مما أعطى شعورا بأن عزل الإنسان عن جماعته أو قمعه بطريقة أو بأخرى يفقده طبيعته ويجعله ضائعا.
لكن إدارة المستشفى أعادت الجميع إلى العنبر وقواعده الصارمة، وحاولت إبعاد “ماكمفري” وإعادته إلى السجن لأنهم بالإجماع قرروا أنه لا يعاني من مرض عقلي وإنما هو خطر، لكن “ميس رايتشد” هي الوحيدة التي قررت إعادته للمستشفى ومحاولة التعامل معه، ما يثبت إصرارها على إخضاع الجميع ورغبتها الشديدة في ذلك.
ويتعذب “ماكمفري” مرة أخرى، من قساوة وتسلط “ميس رايتشد” والذي شعر إنها أصبحت تتعمد إخضاعه، وعرف من أحد العمال أن خروجه من المستشفى ليس سهلا مثل السجن، الذي تنتهي مدة إقامته فيه بانتهاء مدة عقوبته، وإنما الأمر بيد من يدير المستشفى، وعرف أنه ربما يظل طوال حياته في تلك المستشفى اللعينة.
الهروب..
ويفكر “ماكمفري” بشكل جدي في الهروب، خاصة بعد أن انتابت أحد المرضى نوبة غضب، وحاول “ماكمفري” تهدئته وكسر الزجاج الذي يفصل غرفة التمريض عن عنبر المرضى، ليعطيه سجائره حين غضب المريض من تحكم “ميس رايتشد” وأخذها سجائره وإعطائه عدد قليل منها يوميا.
وتعرض “ماكمفري” للصعق بالكهرباء، هو والمريض الذي انتابته نوبة الغضب، والزعيم الذي تشاجر مع العامل لأنه ضرب “ماكمفري” بعنف، ليكتشف “ماكمفري” أن الزعيم يسمع ويتكلم وأنه فقط كان يحاول الهروب من واقعه بالتخفي وراء الصمم.
ويقرر “ماكمفري” الهرب لكن الزعيم لم يكن مستعدا نفسيا لذلك الفعل، من طول الخضوع أصبح فعل التمرد صعبا عليه، استعان “ماكمفري” بصديقتين له، وجلبتا شرابا كثيرا، ورشا ” ماكمفري” العامل المناوب في الليل، وقضى المرضى جميعا ليلة من المرح حيث الشراب الوفير والتصرف بحرية وطبيعية، وانقلب العنبر إلى الفوضى حيث أخذ بعض المرضى يفتشون في غرفة التمريض، ويقلبون في الأوراق ويبعثرون الأدوية التي تجعلهم هادئين ومستكينين.
وساعد “ماكمفري” شابا يعاني من التلعثم، ويعاني من تسلط والدته مما أفقده القدرة على عمل علاقة طبيعية بأية فتاة، ساعده “ماكمفري” وجره إلى غرفة صغيرة وطلب من صديقته ممارسة الحب معه.
وللأسف الإسراف في الشراب جعل “ماكمفري” ينام هو وباقي المرضى ولا يهرب كما كان قد خطط، لتفاجئهم “ميس رايتشد” في الصباح، وتعرف أن الشاب قد مارس الحب من فتاة، وتعامله بقسوة شديدة مخبرة إياه أنها ستخبر أمه بما فعله، فينتحر الشاب بعد أن يقتله الهلع من أخبار أمه المتسلطة بما فعله.
ذروة الأحداث..
وموت الشاب يمثل ذروة الأحداث في الفيلم، حيث يهاجم “ماكمفري” “ميس رايتشد” محاولا خنقها ويكاد يقتلها لولا تدخل العمال لإنقاذها، ويقبضون على “ماكمفري” ويذهبون به إلى الطابق الأعلى، ويعود المرضى لاستكانتهم وهدوئهم وخضوعهم. وتعود “ميس رايتشد” لموقعها القديم وكأن لا شيء حدث، فقط تعلق في رقبتها دعامة بسبب تضررها.
أحدهم قد تحرر..
يتمنى المرضى أن يكون “ماكمفري” قد تمكن من الهرب، لكنه يعود في إحدى الليالي يضعه العمال في سريره، يقوم الزعيم ليخبره أنه أخيرا حسم أمره وأنه سيهرب، ليجد أنهم قد انتزعوا من مخه بعد الأجزاء، حيث تشير العلامات أن هناك جراحا في رأس “ماكمفري” تدل على عملية جراحية، ويكون “ماكمفري” غير واع بما يحدث حوله. لكن الزعيم قد تخلص من خوفه وخضوعه، يقتل “ماكمفري” لكي يحرره من العذاب القادم الذي سيلاقيه في المستشفى، ويرفع الحوض الرخامي، الذي عجز “ماكمفري” عن رفعه، ويكسر الشباك ويهرب إلى الحرية، يمشي بخطوات واثقة ويتحرر. لتكون نهاية الفيلم إيجابية ومبشرة.
الفيلم يحكي عن المؤسسات التي تصنعها المجتمعات المتسلطة، لكي تحجز فيها من لا يتماشي وفق قواعد المجتمع وقيمه المتلسطة، تبعدهم وتنفيهم وتضيع حياتهم، إما السجون أو مستشفيات الأمراض العقلية أو أية مؤسسات أخرى، والقائمين على تلك المؤسسات هم أدوات المجتمع في إخضاع هؤلاء، والذين يعتبرونهم خطرا على المجتمع وقواعده وقيمه. لكن تلك الأدوات تتحول مع الوقت لتكون أشد صرامة من القائمين على النظام نفسه، ف” ميس راتشيد” تبدو أكثر صرامة من الأطباء أنفسهم في محاولتها لإخضاع المرضى.
الخضوع هو مصير الجميع..
الخضوع هو مصير الجميع، سواء أفراد المجتمع أو الخارجين عليها. من يبحث عن الاختلاف أو يتمرد يقابل بعنف شديد يصل إلى حد تعجيزه. وربما يرمز الفيلم إلى معني آخر، إذا تخيلنا أن المستشفى هي المجتمع الأمريكي، وأن القائمين على إدارتها هم القائمين على إدارة المجتمع والمرضى هم الناس الذي يستوجب عليهم الخضوع للقواعد الصارمة، لابد من الهدوء والاستكانة والطاعة الشديدة، ومن يتمرد يلاقى أشد عقوبة، أو يحرم من عقله الذي يجعله يتمرد.
الفيلم متميز على كل المستويات، الديكور الذي يعكس بؤس حياة المرضى، الصورة وحركات الكاميرا الهادئة، الموسيقى التصويرية، أداء الممثلين والذي حصلوا على الجوائز بسبب روعته، جاء أداء “جاك نيكلسون” بارع، وكذلك أداء الممثلة التي قامت بدور” ميس راتشيد” حيث أظهرت ثابتا انفعاليا طوال الفيلم، وجه جامد لا تؤثر فيه أية أحداث، وكأنها تحولت إلى آلة لتطبيق القواعد والحرص على تنفيذها. كما برع بعض الممثلين الذي قاموا بدور المرضى في أداء أدوارهم. والممرضات والعمال أصحاب الوجوه الجامدة وكأنهم آلات.
الفيلم..
أحدهم “طار فوق عش الوقواق” One Flew Over the Cuckoo’s Nest ، فيلم كوميدي درامي أمريكي صدر عام 1975، مأخوذ من رواية الكاتب “كين كيزي” التي صدرت عام 1962، حصد الفيلم 109 مليون دولار في مقابل ميزانية 4.4 مليون دولار، واعتبر واحدا من أعظم الأفلام في تاريخ السينما العالمية، وأصبح في المركز الـ 33 في قائمة مائة عام مائة فيلم التي وضعها المعهد السينما الأمريكي، وحصل الفيلم على خمس جوائز أوسكار (أفضل فيلم، أفضل ممثل، أفضل ممثلة، أفضل مخرج، أفضل سيناريو). وجائزتي “جولدن جلوب وبافتا”. وهو من إخراج: ميلوس فورمان، وسيناريو: لورانس هاوبين، بو جولدمان. وبطولة: “جاك نيكلسون، لويس فليتشر، ويليام ريدفيلد”، ومدة الفيلم: 133 دقيقة.