فلسفتي في المطالعة !

فلسفتي في المطالعة !

خاص : بقلم – عدة بن عطية الحاج (ابن الريف) :

دُرجنا منذ طفولتنا على حبّ القراءة والتّجوال بين الكتب، لأنّ القراءة هي مفتاح العلوم منها يمتح الإنسان الفكر والثقافة والمعرفة وبها يُساهم في رقيّه الحضاري الذي يدفعه إلى التّطلّع إلى عالم أفضل تسوده العقلانية والحداثة والتّنوير، فالقراءة المكثّفة هي التي تجعل الإنسان يفتح عيونه على ثقافات وحضارات وعادات وتقاليد الأمم الأخرى، من عرف القراءة عرف التّماهي مع المطلق والدّخول إلى حضرة الإمكان والتّمكين، جاء الإنسان إلى هذا الوجود وهو صفحة بيضاء لا يعرف شيئًا؛ ولكنّه استطاع بفضل اكتشاف الكتابة أن يكتسب ملكة تُساعده على التّواصل مع الآخر عن طريق لغة متعارف عليها، فالإنسان هو الذي اخترع الكتابة التي تُساعده على ضبط الأشياء ورسمها من خلال الكلمات المتواضع عليها، فرصف الحروف مع بعضها البعض لا يأتي اعتباطًا إنّما يأتي ليدلّ على أشياء معيّنة سمّاها “أبوحامد الغزالي” و”ابن سينا” بالأعيان وهي الأشياء.

أمّا المطالعة في اللغة فتأتي من الفعل: طالع ومعناه: أدام النّظر إلى الشيء وتفرّسه، ومعناه أيضًا: إدمان النّظر إلى الشيء، والمطالعة كما عرّفها “بديع الزّمان الهمذاني” في مقاماته هي: إدمان النظر في الكتب (كثرة النظر) وبالتالي ينطبع رسمها في ذهن القاريء ولا يستطيع نسيانها، وإدمان النظر في الكتب كما يُقال في الحكم المأثورة والأمثال السّائرة هي كالنّقش على الحجر، ومؤخرًا ثبت علميًّا بأنّ إدمان القراءة يُقلّل من أعراض مرض الزهايمر، فمن أراد شباب العقل وقوّته ونضارته فعليه بالمطالعة الجادّة والقراءة المثمرة التي تساعده على اكتساب ثقافة موسوعية بل تجعله مكتبة متنقلة تمشي على قدمين.

تنقسم القراءة من حيث الأداء إلى ثلاثة أقسام تواضع عليها خبراء التّربية وجعلوها من أهمّ أنواع القراءة التي تساهم في البناء الفكري للإنسان وتجعله يُحصّل أهمّ العلوم وأدقّها، وبالتّالي يتسنى له الحصول على ملكة تُساعده على تحصيل الفهم وهضم العلوم العسيرة، وبالتّالي يُسهل له الوصول إلى مقام العلوم السّامي الذي لا يُدركه إلاّ القاريء الجهبيذ.

وكما ذكرنا آنفًا تنقسم القراءة من حيث الأداء إلى ثلاثة أقسام أساسية؛ وهي: أ ـ القراءة الصّامتة: وتكون بالعين فقط دون تحريك الشّفتين وتُسمّى القراءة البصرية أو القراءة التّصويرية؛ وهي تعتمد أساسًا على العينين فقط، وهي التي تُرسل رسائل إلى الدماغ لكي يُفكّك رموزها ويُحلّل شيفراتها، وبالتالي يتسنى له الحصول على المعاني الكامنة في تلك الرموز اللّغوية، وهذه القراءة تطّرد على الجرائد والمجلاّت والقصص والروايات والدراسات الأدبية والنقدية والفلسفية.

ب ـ القراءة الجهرية: وتكون بالعين وبالصوت معًا، وهي تدلّ على قوّة شخصية القاريء من خلال طريقة النّبر وطريقة الأداء، ويقوم أساس هذه القراءة على تمثيل المعاني بالإشارات وبالحركات الدّالة على المعاني، وهذا من أجل التّأثير على السّامع (المتلقي)، وبالتالي يسهل عليه الإندماج مع عوالم النّصّ المقروء وتطّرد هذه القراءة على الشّعر، لأنّه يقوم على أساس فنّ الإلقاء، فالشّعر يكمن سرّه وألقه في طريقة الإلقاء، وهي تعتمد أساسًا على تمثيل المعنى وتصويره تصويرًا مسرحيًّا وهذا ما يُعرف بمسرحة الشّعر وهي طريقة ابتكرها الشّاعر “هشام الجخّ”، وتطّرد أيضًا على القرآن الكريم وعلى الحديث النّبوي الشّريف وعلى الخطب الرّنّانة التي يُلقيها الخطباء في المواسم الدّينية وفي الأعياد الوطنية.

ج ـ القراءة السّمعية أو المسموعة: وتكون بالأذن فقط، لأنّ السّمع كما يقول “ابن خلدون”؛ هو: أبو الملكات اللّسانية، وهو الذي يُساهم في تحصيل الملكة اللّغوية لدى المتعلّم؛ وخاصة الذي يُريد أن يتعلّم اللّغات الأجنبية، وتطّرد هذه القراءة على قراءة المقاطع والجمل الصّوتية عند تعلّم لغة أجنبية ما وعلى استماع المحاضرات والدّروس من المنصّات التعليمية المتواجدة على المواقع الإلكترونية وعلى مواقع التّواصل الإجتماعي، وهذه الطّريقة كانت شائعة في قديم الزّمان، خاصة في العصر الجاهلي، فالشّعر الجاهلي وصلنا عن طريق التّواتر (الرّواية الشّفهية)، كان لكلّ شاعر راوية ينقل له شعره مشافهة من جيل إلى جيل، والقرآن الكريم كذلك وصلنا عن طريق التّواتر (الرّواية الشّفهية) التّي كانت تختلف من قبيلة إلى أخرى لذلك ظهرت القراءات السّبع المعروفة في القرآن الكريم، وكذلك وصلنا الحديث النّبوي الشّريف عن طريق التّواتر (الرّواية الشّفهية) التّي تختلف من جيل إلى جيل، وتمّ تدوين الحديث النّبوي في العصر العبّاسي اعتمادًا على الرّواية الشّفهية وقد مضى قرنان على وفاة الرّسول، فالحديث لم يُدوّن في حياته والقرآن لم يُجمع إلاّ في عهد “عثمان بن عفّان”؛ وهذا اعتمادًا على الرّواية الشّفهية فقط، وهنا مكمن الخطورة لأنّ الذّاكرة كما يُقال هي صديق خؤون، والنّسيان قد يُصيب ذاكرة الإنسان في أي لحظة من لحظات حياته.

فلسفتي في المطالعة تقوم في الأساس على ما يلي: أخلو مع كتابي وأفتح معه حوارًا ونقاشًا فكريًّا، وأطرح عليه مجموعة من الأسئلة التّي كانت تدور في خلدي، أستمع إليه عندما يُريد أن يقول لي أشياء غامضة، فالكتاب صديق حميم يؤنسك في وحدتك ويجعلك لا تشعر بالكآبة والملل، وعلماء النّفس اقترحوا طريقة فعّالة لعلاج مرض الإكتئاب تتمثل في المعالجة عن طريق القراءة، فالقراءة المستمرة والنّافعة تجعلك تخرج من دائرة الإكتئاب وتقبل على الحياة بكلّ تفاؤل وبكلّ أريحية، فالقراءات الكثيفة تخلّصنا من الوسواس القهري ومن الرّهاب الإجتماعي، إنّها تجعلنا نتطهّر نفسيًّا من عقدنا التي تطوّقنا من كلّ جانب وخاصة في هذا المجتمع المتخلّف الكئيب.

من أراد الرقي الحضاري فعليه بالمطالعة لأنّها هي السّلاح الفعّال خاصة في وقتنا هذا، أصبحت كلّ المعارف متاحة أمامنا وما علينا إلاّ المطالعة والقراءة فقط، هناك الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني والكتاب المسموع، فاختر منهم ما تشاء وأقبل على العلم بكلّ روح معرفية سامية وطالع آناء اللّيل وأطراف النّهار واسهر وثابر واجتهد وناقش وحاور واعترض وواجه بالحجّة والدّليل ولا تلوي على شيء، فمن أراد أن يكتب كثيرًا فعليه أن يقرأ كثيرًا، فالشّاعر الذي يتمكّن من ناصية ملكة الشّعر يكون قد حفظ شعرًا كثيرًا ونسيه، وبالتالي صار شاعرًا، أمّا الكاتب فعليه أن يقرأ كثيرًا ولا ينسى لأنّه سيكتب كثيرًا ويستحضر ما قرأ من معلومات عندما يُريد أن يعالج موضوعًا ما، فالقراءة هي سرّ الحياة وزهرتها وألقها وإكسيرها، من عاش من أجل الكتاب مات عظيمًا بين عالم الكتب ونتمني ألاّ تقتلنا كتبنا كما قتلت “الجاحظ”.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة