14 نوفمبر، 2024 8:28 ص
Search
Close this search box.

فلسفة العدالة .. “ماعت” في مصر القديمة و”حمورابي” في بلاد الرافدين

فلسفة العدالة .. “ماعت” في مصر القديمة و”حمورابي” في بلاد الرافدين

كتب – هاني رياض :

تدل آثار الحضارة المصرية القديمة بكل وضوح على اهتمام المصري القديم بالعدالة أكثر من اهتمامه بالقانون، كما هو الحال في حضارة بلاد الرافدين.. فلم يتركوا لنا تراثاً من النصوص القانونية مثلما فعل “حمورابي” الذي وضع أول دستور، أو تشريع قانوني في حضارة بلاد الرافدين.. فجميع نصوص الحكمة التي تركها المصري القديم ترشدنا إلى الإلتزام بتعاليم الماعت “العدل والحقيقة”.

العدالة في مصر القديمة تختلف بشكل كبير عن العدالة في عالمنا التقليدي سواء كان الحديث أو القديم التي كانت العدالة بالنسبة له تقوم على تقسيم أو توزيع الممتلكات والثروات، والقصاص من الأشخاص بتقييد حريتهم بالسجن، أو عقابهم بالقتل، أو أي من العقوبات البدنية كما هي قوانين وتشريعات “حمورابي” مثلاً.. فإن العدالة المصرية تهدف إلى تطوير الحياة ونموها، والعمل على زيادة الوفرة والسعادة.

مفهوم “الماعت”..

صور المصري القديم “ماعت” على مثل هيئة سيدة تعلو رأسها ريشة النعام رمز العدالة، وممسكة مفتاح الحياة “عنخ” في أحد يديها وتمسك في يدها الأخرى صولجان الحكم، وارتبطت بالعديد من الأرباب والمعبودات، ويأتي في مقدمتها الأرباب الكونية.. فهي ابنة للمعبود “رع”، وكان لها دور بارز في رحلة الشمس والأناشيد الشمسية، يعد قرباناً لـ(ماعت) من أهم وأكثر أنواع القرابين التي حرص الملوك على تصويرها في المعابد مثل معبد “آمون-رع” بالكرنك، ومعبد “آتون” في “الكرنك”، ومعبد “ستي الأول” بأبيدوس، ومعبد “الأقصر” لما له من دلالة وأهمية كبيرة، فقد ارتبطت بالملك الذي كان مسؤولاً عن إقرار النظام والعدالة في مصر القديمة، وفي نصوص “متون الأهرام”.. كان الملك عندما يمـثل أمام المحكمة بعد موته في العالم الآخر يقدم كشف حساب بأعماله بقوله: “لقد كنت أحكُم وفق الماعت، ولم أخالفها قط”.

كما ارتبطت بالمعبود “چحوتي” رب الحكمة والمعرفة.. وعرفت كزوجة له، وقد ظهرت معه في مشهد وزن قلب المتوفي في العالم السفلي، فقد كان يوضع قلب الميت على الميزان في كفة وريشة الإلهة “ماعت” في الكفة الآخرى، فاذا رجحت كفة قلب المتوفي فإنه يدخل حقول “ايارو”، وهى تماثل الجنة أو الفردوس اليوم، وأما إذا رجحت كفة الريشة فإنه يدخل “الجحيم” والذي كانت المعتقدات المصرية القديمة تمثله على هيئة وحش مفترس تخيلي اسمه “عمعموت” رأسه رأس التمساح، وجسمه جسم الأسد، والجزء الخلفي له من جسم فرس النهر.. وكانت هيئة المحكمة في العالم السفلي تتكون من 42 قاضي بعدد أقاليم مصر، ويرأسهم “أوزيريس”، وكما تنص بردية “آنى” الموجودة في المتحف البريطاني، والتي دوّنت أبان الأسرة التاسعة عشر “1350” ق. م، يقوم الميت بالدفاع عن نفسه أمام المحكمة ويقوم بإقرار مبادئ الماعت.

مبادئ “الماعت” الـ42..

1- أنا لم أقتل، ولا أحرض أي احد على القتل.

2- أنا لم ارتكب الزنا أو الاغتصاب.

3- أنا لم انتقم لنفسي، ولا أحرق مع الغضب على سبيل الانتقام.

4- أنا لم اتسبب في الإرهاب.

5- أنا لم اعتدي على اي احد، ولا اسبب الألم لأحد.

6- أنا لم اسبب البؤس.

7- أنا لم افعل أي ضرر للإنسان أو الحيوانات.

8- أنا لم اتسبب في ذرف الدموع.

9- أنا لم اظلم الشعب، ولا اضمر لهم أي نية في الشر.

10- أنا لم اسرق، ولا آخذ تلك الآشياء التي لا تنتمي لي.

11- أنا لم آخذ من بلادي أكثر من حصتي العادلة من المواد الغذائية.

12- أنا لم اتلف المحاصيل والحقول، أو الأشجار.

13- أنا لم احرم أحداً بما هو حق له.

14- أنا لم استدعى شاهد زور، ولا اعتمد ادعاءات كاذبة.

15- أنا لم أكذب، ولا اتحدث بخطأ لجرح شخص آخر.

16- أنا لم استخدم الكلمات الحماسية، أو آثير أي صراع.

17- لم أتحدث ولا تصرفت بشكل مخادع ليؤذي الآخرين.

18- لم اتحدث بازدراء ضد الآخرين.

19 – أنا لم اتنصت على اي احد.

20- أنا لم اتجاهل الحقيقة أو الصواب من الكلمات.

21 – أنا لم احكم على أي شخص على عجل أو بقسوة.

22 – أنا لم أهين الأماكن المقدسة.

23 – انا لم اتسبب في أي خطأ يتعين القيام به لعمال أو أي سجين.

24 – لم أكن غاضباً من دون سبب وجيه.

25 – أنا لم اعرقل تدفق المياه الجارية.

26 – أنا لم اهدر المياه الجارية.

27 – أنا لم ألوث المياه أو الأرض.

28 – أنا لم اتخذ اسم الإله عبثاً.

29 – أنا لم احتقر أو اغضب الآلهة.

30 – أنا لم اسرق من الإله.

31 – أنا لم امنح عطايا مفرطة، ولا اقل عن ما هو مستحق.

32 – أنا لم اسع إلى مطمعاً خاصة الجيران.

33 – أنا لم اسرق من الموتى ولا ازدريهم.

34 – لقد تذكرت ولاحظت ما هو مشار إليه فى الأيام المقدسة.

35 – أنا لم أحجم القرابين الموجهة إلى الآلهة.

36 – أنا لم اتدخل في الشعائر المقدسة.

37 – أنا لم أذبح بقصد الشر أي حيوان مقدس.

38- أنا لم أتصرف بمكر أو وقاحة.

39 – لم أكن فخوراً على نحو غير ملائم ولا تصرفت بغطرسة.

40 – أنا لم أضخم حالتي وتجاوزت ما هو مناسب.

41 – لم أفعل ما لا يقل عن إلتزاماتي اليومية تتطلب.

42 – لقد أطعت القانون ولم ارتكب الخيانة.

“ماعت” والنظام الكوني والاجتماعي..

يقول “بليكر” في كتابه عن “الماعت” أنها: “نظام اجتماعي ونظام كوني سواء في الإنسان بوصفه صورة مصغرة عن العالم أو العالم الكبير الذي يشمل الكون”. كما يشير ان امان سيني “أستاذ القانون” في كتابه “فلسفة العدالة في مصر القديمة” إلى ان “الحياة المصرية بالكامل كانت تديرها “الماعت”، فلا يوجد خلاف بين العدالة الإلهية والبشرية، فالإنسان العادل فى الحياة الدنيا هو الإنسان العادل فى الحياة الأخرى”. فقد كانت الماعت بالنسبة للمصري القديم ناموس الحياة، ومنهجها السليم الذي وضع من قبل الإله الأكبر “رع” ليكون فيه الخير للبشر والكون.

يرجع “ان امان سيني” تماسك وتشابك المصريين القدماء كالبنيان الواحد إجتماعياً، وسياسياً، وعلمياً، وكونياً، لأن الكل كان يرى من زاوية دورة الطاقة الكونية الغير مقطوعة، والتي تراعي النظام على المستويين الكوني والسياسي، وأن الملك من خلال طقوس القرابين التي تقدم لماعت يضع نطاقاً على دائرة الدورة الكونية هذه، فقد قامت الحضارة المصرية على معرفة دورة الطاقة الكونية، وعلى البحث على رفاهية الإنسان المصري سواء داخلياً بمعنى السعادة والصحة والحيوية أو خارجياً بمعنى الرخاء المادي.

وعن كيفية عمل المصريون على تقريب المسافة بين العالم المادي والعالم غيرالمادي للأشياء، وأن الماعت هو التكامل بين النظام الكوني والنظام الإجتماعي، يقول “هنري فرانكفورت” في كتابه “تفسير الديانة المصرية”، أن “المصريون القدماء إذا وصفوا بتصرفات سيئة، فإنه ما لا يعتبرون أن السلوك النسبي خطايا يندم عليها الإنسان، بل كانت الأعمال المشينة تعتبر ضلالاً وانحرافاً عن السلوك البشري، بحيث تمنع الإنسان من الشعور بالسعادة، لأنها تؤدي إلى عدم التناسق والتوافق مع نظام الماعت”. فقد نصح الملك الإهناسي إبنه قائلاً: “أفعل الحق “ماعت” لكي تخلد في الأرض”. وقد كان المصري القديم يقول: “غذّيت قلبي بماعت الحق والعدل والإستقامة والنظام، لقد وضعـْته أي الإله الذي هو الحق والعدل والإستقامة والنظام في قلبى”، وأيضاً “إن قلب الإنسان إلهه، وقلبي كان راضياً على أعمالي”.

ولماعت عند العالم “يان أسمن” جانب اجتماعي، بالإضافة إلى الجانب الكوني، عند تحليل نصوص الحكمة والرثاء التي تركها المصريون القدماء تشير إلى أن فكرة التضامن الاجتماعي مصدرها أفكار الماعت، وقد صاغت العالمة “بيكل” في كتابها “علم نشأة الكون قبل الدولة الحديثة” تعريفها للماعت بأنه “بمثابة الحياة والنفس التي تبعث على الحيوية، فهو مبدأ يجب تناوله على عدة مستويات بين الخالق وابنته ماعت، وبين الخالق والالهة، والعالم ككل من ناحية آخرى”.

إن نقيض ماعت هو “إسفت” المصرية ومعناها الفوضى، أو عدم العدالة، أو الظلام، أو عدم الصدق. يقول جان يويوت “أن الشخص الذي يتسم بالمثالية وملتزم بالأعراف السياسية والاجتماعية، والاخلاق والاداب المصرية يجب ان بتفق مع مفاهيم ماعت، فالعادل والرجل الخير في الحياة الاخرى سيكون “ماعتياً”، أي منتمي إلى ماعت، اما الظالم والمتآمر على الملك والمنتهك للحرمات والمخل بالنظام، والذي يتهجم على النظام الأساسي للاشياء هو إسفتي، أي منتمي إلى إسفت”.

ومن الصفات التي تعرقل عمل الماعت هو “الكذب”، فعندما يكذب المصري القديم فأنه يخل بدوره بماعت، مما يسبب له اضطراباً وعدم توازن نفسي، لذا أول من يتعذب هو الكاذب، وفقاً لتعاليم الماعت في محكمة الآخرة، وأيضاً تعد شراهة القلب انحرافاً للمصري القديم، وتعطل عمل الماعت داخله، لأن القلب الجشع غير قادر على التبادل، وفي إحدى النصوص الأدبية “قصة الفلاح الفصيح” تقول: “لا يوجد أمس للإنسان الفارغ والمتعطل، وليس له صديق لأنه أصم عن العدالة، ولا يوجد يوم سعيد للإنسان الشره”.

شريعة الملك “حمورابي”..

تعتبر شريعة “حمورابي” ذات الـ282 مادة، أقدم الشرائع المكتوبة في بلاد الرافدين، وتعود إلى عام 1790 ق. م، وهي منحوتة على عمود من حجر الديوريت الأسود طوله 2.5 متر، نموذجاً مثالياً، وتجسيداً حياً لفلسفة العدالة الأرضية والبشرية التي حكمت العالم القديم، وقد اعتبر “حمورابي” من المشرعين العظماء الذين حفرت اسمائهم على لوح من الرخام موجود في المحكمة الأميركية العليا تكريماً له ولقوانينه، ولفهم طبيعة وفلسفة شريعة “حمورابي” يجب معرفة السياق السياسي والاجتماعي لبابل في تلك الحقبة التاريخية، بالإضافة إلى معرفة طبيعة شخصية “الملك حمورابي”،  فقد حكم الملك حمورابي بابل بين عامي 1728 – 1686 ق. م، وهو سادس ملوك بابل، ورث الحكم من ابيه “سينموباليت”, قبل حكم حمورابي كانت بلاد الرافدين دويلات منقسمة تتنازع السلطة، فوحدها مكون إمبراطورية ضمت كل العراق والمدن القريبة من بلاد الشام حتى سواحل البحرالمتوسط و”بلاد عيلام”، فقد كان “حمورابي” شخصية عسكرية لها القدرة الإدارية والتنظيمية والعسكرية، وقد قام حمورابي بإتباع سياسة مركزية تعتمد على سلطته دون أي تدخل من قبل الكهنة، وكانت الإمبراطورية تدار من قبل الحكام الذين يعينهم في المدن والأقاليم المختلفة.

قام “حمورابي” بنحت الشريعة الجديدة على عمود يصوره وهو يستمع إلى إله الشمس الذي يسمى “شمش” الجالس على عرشه، وقد تم وضع العمود في مكان عام وسط مدينة “بابل” لفتح المجال أمام الجميع لرؤية هذه التشريعات الجديدة كي لا يتم التذرع  بجهل القوانين كعذر.. تتكون “شريعة حمورابي”، شأنها شأن القوانين الأخرى، من مقدمة ونصوص قانونية وخاتمة، ففي المقدمة أشار حمورابي إلى تكليفه من قبل الآلهة بإصدار هذا القانون معدداً فضائله وخيراته على سكان بلاد النهرين، وأوضح أن الهدف من القانون هو نشر العدل في البلاد والقضاء على الفساد والشر.

على الرغم أن هناك العديد من الشرائع المشابهة لمثل شريعة حمورابي، والتي وصلت من بلاد “آشور” مثل مخطوطة “أورنامو”، ومخطوطة “إشنونا”، ومخطوطة “لبت إشتار”، إلا أن تشريعات حمورابي هي الأولى في التاريخ التي تعتبر متكاملة وشمولية لكل نواحي الحياة في بابل فقد اشتملت النصوص القانونية على المسائل القانونية المختلفة المتعلقة بفروع القانون المتعددة منها ما يتصل بـ”الزواج والميراث والتبني – الملكية والعقود – الجرائم والعقوبات – أجورالحيوانات والأشخاص – الطب والطب البيطري – شراء العبيد وعلاقتهم بأسيادهم – القضاء والشهود”، أما الخاتمة فهي طويلة كتبت بنفس الأسلوب الذي كتبت به المقدمة، وفيها يعود حمورابي إلى الإشارة بفضائله، وتعداد نعمائه، ويدعو خلفائه من بعده ألا يبدلوا أو يغيروا في القانون الذي أصدره، ويطلب من جميع آلهة البلاد إفناء كل من يحاول تشويه هذه النصوص، أو يغيرها.

ضمت شريعة حمورابي 282 مادة تعالج مختلف شؤون الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وهي على جانب كبيرمن الدقة لواجبات الافراد، وحقوقهم في المجتمع كل حسب وظيفته، ومسؤوليته. المواد “1 – 5” تتعلق بالقضاء وتنظيمه وشهادة الشهود، المواد “6 – 25” تناولت جريمة السرقة وعقوبتها، وجريمة النهب، المواد “26 – 42” تتعلق بمسائل خاصة بالشؤون العسكرية، المواد “42 – 65” تتعلق بالأراضي الزراعية، المواد “66 – 99” مفقود، المواد “107 – 109” تتناول موضوع القروض والتعامل مع التجار، المواد “108 – 111” تتعلق ببائعي الخمر، المواد “112 – 126” تتعلق بالائتمان والديون والأحكام الخاصة بالوديعة، المواد “127 – 194” تتعلق بمسائل الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والإرث والتبني، المواد “195 – 214” تتعلق بعقوبات القصاص والغرامة، المواد “215 – 227” تتعلق بمهنة الطب ومسؤولية الطبيب، المواد “228 – 240” تتعلق بأجور الحرفيين كالبناء، وصانع القوارب، والرعاة، المواد “241 – 277” تتعلق باستئجار الحيوانات وتعيين الأجرة، المواد “278 – 282” تتعلق بالعبيد من حيث شرائهم وعلاقتهم باسيادهم.

قامت شريعة حمورابي على “فلسفة العدالة الانتقامية” المرتبطة بمقولة “العين بالعين”، فكانت شريعته تنص على قطع أذن العبد إذا قال لسيّده أنت لست سيدي، الحكم بالموت على سيّد البيت إن قام بإيواء أحد الهاربين ولم يقم بإظهاره أمام المحكمة، ويخلع سنّ الرجل إذا تسبّب بخلع سن رجل آخر يكون مساوياً له، وكانت العقوبات تختلف على حسب الطبقة الاجتماعية التي ينحدر منها المنتهك لإحدى القوانين والضحية، ففي احدى مواد التشريع تنص على “إذا كسر رجل أسنان نظيره ستكسر أسنانه”، أما إذا ارتكبت نفس الجريمة ضد فرد من طبقة أقل يكون جزاؤه غرامة فقط.

على الرغم من هذه العقوبات الوحشية أو الإنتقامية، إلا أن قانون حمورابي من أقدم الأمثلة على افتراض البراءة، فقد أسست مبدأ “المتهم برئ حتى تثبت إدانته”، كما وضع القانون حداً أدنى لأجور العمال، بالإضافة إلى وضع قوانين مرتبطة بالطلاق، حقوق الملكية ومنعه لسفاح القربى، وهي قوانين عملت على استقرار بابل السياسي والاجتماعي في تلك الحقبة الزمنية بعد أن سادها التمزق والفوضى، وقد استمرت في احداث تأثيراً كبيراً على المستوى التشريعي، ليس فقط على بابل، وإنما على المنطقة بأكملها حتى بعد وفاة “حمورابي” لقرون عديدة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة