5 مارس، 2024 3:02 م
Search
Close this search box.

فلاحو سورية وسياساتهم … والكتابة عنهم

Facebook
Twitter
LinkedIn

عرض/ د. عقيل سعيد محفوض
أدى انفجار الأوضاع في سورية إلى انفجار في الكتابة عن سورية، وأخذت الدراسات والبحوث والتقارير والخطب والمقالات والتقارير الإعلامية والوثائقيات إلى فورة غير مسبوقة في الكتابة عن سورية، بحيث تمت كتابة أو ترجمة كتب ودراسات تناولت التاريخ الحديث والمعاصر أيضاً، على اعتبار أن ذلك يمكن أن يساعد في فهم الأزمة السورية بشكل أفضل.
سوف نركز في هذه القراءة النقدية على واحدة من أهم الكتب التي أنتجت عن سورية في السنوات الأخيرة، وهو كتاب “فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم” لكاتبه المؤرخ الأميركي الفلسطيني الأصل حنا بطاطو، الذي نشره بالإنكليزية عام 1999 ضمن منشورات جامعة برنستون، وصدرت ترجمته العربية في بيروت عام 2014 ضمن سلسلة “ترجمان” التي يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. علماً أن هذه القراءة سوف تركز على القسم الأول من الكتاب، فيما تترك القسم الثاني، لقراءة أخرى مفصلة.
يقول حنا بطاطو إن كتابه هو محاولة لإبراز العناصر المهمة في “التمايز الاجتماعي” للفلاحين السوريين وتطور نمط حياتهم وظروفهم الاقتصادية وأشكال وعيهم وسلوكهم”، ويأمل الكاتب أن يساهم ذلك في “فهم أفضل للبعثية”، ولـ”الممسكين بروافع السلطة الحاسمة منذ عام 1963 الذين تعود جذورهم إلى المجتمع الريفي”، وخاصةً مرحلة الرئيس حافظ الأسد “وخصائص نظامه والخطوط الرئيسة لسلوكه”.
يعلن الكاتب منذ البداية أنه لا يسعى إلى إثبات فرضية معينة أو دحضها، بل يحاول أن يفسّر “المعطيات المتصلة بسورية في سياقات البلد التاريخية والمعاصرة”، بقدر أقل من التعميمات والتعميمات منخفضة المستوى إلى متوسطة –على حد تعبيره. ولو أن النص خرج عن ذلك مراراً، بل إنه يصل في النهاية إلى تعميمات على قدر كبير من الحساسية.
يبدأ الكتاب بإعلان الكاتب أنه زار سورية مرات عدة، والتقى عدداً كبيراً من الفلاحين والسياسيين والمثقفين من السوريين وغيرهم، ومن رجال الحكم ومن المعارضة. وإذ يعزز ذلك من صورة الكاتب الجاد والمتعمق والمتابع والمدقق إلا أنه لا يمثّل حصانة له من الوقوع في أخطاء ولا يعفيه من مهمة التدقيق في صدق أو عدم صدق من ينقل عنهم أو دوافعهم الذاتية ومواقفهم الإيديولوجية والثأرية.
لم يهتم الكاتب بتقديم تحديدات وتعيينات للمفاهيم والأطر التحليلية التي يستخدمها ويقارب من خلالها موضوعه، على الرغم من أن الحديث عن “فلاحي سورية” و”الوجهاء الريفيين” يتطلب تأطيراً مفاهيمياً نظراً لاختلاف وجهات النظر والمدارس والاجتهادات الفكرية والنظرية في هذا الباب، كما أن تعبير “الأقل شأناً” يتطلب تدقيقاً من منظور سيميائي على الأقل، إن لم يكن من منظور سوسيولوجي وأخلاقي. صحيح أن القارىء المتمرس يستطيع أن يتبين الأطر والمفاهيم والرؤى الحاكمة لعمل من هذا النوع، ذلك أن المنهجيات قد تكون مضمرة أو غير معلن عنها، وخاصة لدى كاتب مثل حنا بطاطو، وثمة من يقول إنها موجودة في أي نص.
يقول الباحث إنه “ليست هناك فئة عامة تدعى “الفلاحون”. وهذا التعبير يشير إلى تشكلية من الفئات الاجتماعية. ص41. ويميّز النص بين أنماط أو تصنيفات من الفلاحين في سورية فهم بستانيون وزراعيون، مسالمون ومحاربون، أهل سنة وأهل بدع، بلا عشائر أو مرتبطون بعشائر، مالكون للأرض أو غير مالكين. ويتناول بعد ذلك توزيع الدخل الزراعي قبل إعادة تنظيم العلاقات الزراعية وبعده، وتحولات الأعباء الضريبية، وكهربة الريف، وتوسيع الرعاية الصحية، وتطور وسائل النقل والاتصال، وتوسيع التعليم، والجهود المبذولة لتوسيع استخدام الأرض وزيادة الانتاجية.
يذهب الكاتب بعيداً في التقديم للقسم الأول من الكتاب، ويعرّج على ابن خلدون وبلزاك وتروتسكي والأب عيروط!، على اعتبار أن ذلك يمهد للحديث عن أنماط التنظيمات والتفاعلات الفلاحية والصوفية والمواجهات على هذا الصعيد، وخاصة في الفترة العثمانية والمتأخرة وصولاً إلى فترة الانتداب الفرنسي. ويميّز الكاتب بين أنماط التنظيم والفعل لدى فلاحي الجبال وفلاحي السهول والمناطق القريبة من المدن، ويفرد حيزاً للحديث عن عمل الشيوعيين والاشتراكيين في الوسط الفلاحي.
بدت الفصول العشر الأولى بمثابة مقدمات طويلة وتمهيداً مديداً للدخول في الموضوع، هنا في الفصل الحادي عشر، وبعد 261 صفحة من الكتاب، يميّز النص بين ثلاثة أنماط أو طيات من البعث، الأولى هي ما سماه “البعث القديم” ص 261-279، و”البعث الانتقالي” ص 281-335، و”بعث ما بعد 1970″، ص 337-360. يقول “لم يكن هناك حزب بعث واحد، بل ثلاثة أحزاب كانت، على الرغم من نابطها المعقد، متمايزة تماماً بقاعدتها الاجتماعية، وغطارها الذهني، واستجابتها الطبيعية، وخصال أعضائها وقياداتها والمصالح التي خدموها”. ص 261.

أنماط البعث
لم يقدم معلومات دقيقة عن نشاة البعث، ويبدو أن فكرته عن البعث القديم غاب عنها الجذور الأولى لتأسيس البعث، وطالما أنه ميّز بين أنماط للبعث، فقد كان من الضروري أن يتناول الكتابات والاجتماعات الأولى، والدلالات الاجتماعية والثقافية لها، وخاصة كتابات المؤسس –المتنكر له- زكي الأرسوزي، وقد تضمنت مؤلفاته ونصوصه الكثير مما يمكن الإشارة إليه لو شاء للكاتب أن يفعل، ولكان النص أكثر تعبيراً عن نشأة البعث، بل نشأة الحركة الوطنية في سورية، وهذا ينسحب على لحظة أكرم الحوراني الذي وجد مناصرين له في ريف حماه متعددي الطيف الديني والمذهبي.
ينتقل النص إلى الحديث عن البعث “الانتقالي” أو بعث ستينيات القرن العشرين و”صعود الوجهاء الريفيين أو القرويين الأقل شاناً، وترييف الجيش إلى حد ما بيروقراطية الدولة”، هذه العبارة الطويلة نسبياً هي عنوان الفصل الثاني عشر من الكتاب، ص 281. هنا يتناول ما يسمى اللجنة العسكرية للحزب، ويفصل في تاريخ تأسيسها وتحولات العضوية فيها، من حيث الأصول الاجتماعية ريف – مدينة، أو طوائف ومذاهب، حيث كانت أكثرية الأعضاء من “الوجهاء الريفيين أو القرويين المتوسطة أو الأقل شاناً”، ص 284.
يتحدث النص عن أن “وفرة الضباط الذين تعود جذورهم إلى طبقة الوجهاء الريفية أو القروية الأقل شاناً في اللجنة العسكرية”، ص 300 كانت “انعكاساً لحقيقة أن هذه الطبقة كانت، بوجه عام، في حال من الصعود اقتصادياً واجتماعياً في العقود القليلة الماضية”. هنا تتطور الأمور للحديث عن طبقة الوجهاء الريفيين مع لازمة “الأقل شأناً”، مع أنها كانت تشهد صعوداً مضطرداً لعقود سابقة عدة كما يقول. أما لماذا كان ذلك الصعود، فإن النص يعيده إلى تأثيرات قصدية للانتداب الفرنسي “المتعاطف” مع “أهل الريف”. ص 300. وقد زاد في ذلك السياسات الزراعية لحزب البعث.
يحدد النص أكثر ما يعنيه بالسياسات المتبعة، يقول إن اللجنة العسكرية تمكنت فيما بعد العام 1963 من “تحويل سلك الضباط والقوات المسلحة وبيروقراطية الدولة تحويلاً جوهرياً إى مؤسسات ذات صيغة ريفية أو قروية قوية”، من خلال “تطهير” تلك القطاعات من العناصر التي اعتبروها “معادية أو ذات ولاء مشكوك فيه أو متردد، أو ملأوها بأصدقائهم وأقربائهم أو بأفراد من عشائرهم أو طوائفهم”، على ما ينقل عن منيف الرزاز والباحث الهولندي نيكولاس فان دام المشكوك في صدقيتهما، لو استندا إلى تقديرات حزبية. أنظر ص 303.
الحديث عن ترييف الجيش والإدارة والحزب كان مترافقاً مع تأكيدات متقطعة بأن أهل المدن والمدن الريفية كانوا غير متحمسين لحزب البعث، وغير راضين أو متشجعين للجيش نفسه، وأن الحزب أقر في وثائق له أن ثمة صعوبات متزايدة في العمل في الأوساط المدينية (ص312)، وهذا ينسحب على نشاط الحزب الشيوعي أيضاً. (لم يهتم الكاتب للحزب السوري القومي الاجتماعي على الرغم من أنه كان ذا شأن كبير في تاريخ سورية).
ترد المعلومات عن اللجنة العسكرية لصالح قراءة وحيدة الخط ووحيدة الاتجاه وهي أن كل شيء في تاريخ البلد كان محكوماً ومخططاً له، في حين أن الصراعات والتحولات والتغيرات في الجيش والإدارة الحكومية والحزبية والتفاعلات المختلفة كانت تدل على سيرورة صراع وتحول.
يقول الكاتب إن العقيد عبد الحميد السراج، رئيس مكتب المخابرات العسكرية، تفاجأ باكتشافه أن ما لا يقل عن 55 في المئة أو نحوه من ضباط الصف كانوا من العلويين (حديث المؤلف مع السراج، القاهرة، 26 نيسان/أبريل 1980). ويعرض في أسباب ذلك أن الوضع الاقتصادي السيء كان سبباً رئيساً في اتجاه العلويين للانتساب إلى سلك الجيش، بالإضافة إلى “موضوع البدل”، فقد كان الكثير من المدينيين قادرون على دفع بدل الإعفاء من الجيش، أما العلويون أو الريفيون، فلم تكن لديهم القدرة على ذلك. ص 305.
“الضباط العلويون لم يتصرفوا دوماً انطلاقاً من وعي أنهم علويون. بل يجب أن نتذكر أنهم كانوا أشخاصاً ذوي أصول ريفية أو فلاحية/ ويتصرفون على هذا الأساس” ص 307. ولو أنهم كانوا قادرين على تنظيم عمليات الانتساب إلى الكليات العسكرية و”خلط قيادت الوحدات العسكرية وإعادة خلطها بطرائق تستجيب لغاياتهم”، ص 307.
عمل حزب البعث على تسريع تعميق الإصلاح الزراعي وإعادة توزيع الأراضي على الفلاحين الريفيين، وخفض سقوف الملكية الخاصة، بحسب المنطقة والقرب والري والهطولات المطرية الخ، “وكان لتقلبات السياسة في الستينيات، والغموض المحيط بالملكية، وهروب رأس المال، إضافة إلى تقلبات المحصول الحادة المعتادة، أن تغيّر أوضاع المزارعين نحو الأسوأ… أما مقاومة كبار ملاك الأرض غير الملحوظة، وتباطوء الموظفين الحكوميين الحضريين غير المتعاطفين، والتعقيدات القانونية، ونقص المساحين والاختصاصيين الزراعيين، فأخرت منذ البداية، عملية توزيع الأرض”. ص 314. ولو أن وتيرة توزيع الأراضي أصبحت أكبر لاحقاً، في ظل انتقادات كثيرة للطريقة التي تمت بها.
كان الإصلاح الزراعي وتخفيض سقف الملكية الزراعية وتوزيع الأراضي وتخفيف الضرائب وفتح الكليات العسكرية والجيش والإدارة أمام أبناء الريف واحتواء طبقة كبار الملاك وتفكيكها تمكين الريف والفلاحين الخ من أهم وسائل البعث لتمكين نفسه وسلطته.
كانت تأثيرت تيار صلاح جديد واضحة، ولو أنها فشلت لاحقاً بتأثير عوامل عديدة، مثل “سيولة الوضع الاجتماعي، ومقاومة عناصر المدينة المتحصنة التي لا مصلحة لها مع النظام، ووضع الاقتصاد غير المستقر، وتقلبات الحزب من أزمة إلى أخرى، والتغيير المتكرر في ميزان القوى داخل الجيش، والآثار الكارثية لحرب حزيران/يونيو 1967، وجو انعدام الثقة السائد، وانشقاقات التيار السائد في حزب البعث، على الرغم من أصول أعضائه الريفية المشتركة وتوجهاتهم الريفية المتشابهة ..”. ص 327.
يمر النص على واقعة أو حقيقة أن الصراعات السياسية والحزبية لم تكن ريفية ولا مذهبية أو طائفية، ولكنه لا يعطي ذلك الأهمية النسبية اللازمة. كما أنه يقدم صياغة ملتبسة تعزز المعنى أكثر مما تخفف منه أو تنفيه، يقول: “تاريخ البعث في الستينيات هو، بمعنى ما، تاريخ شقاقات حزبية. لم تكن النزاعات الحزبية الداخلية قط طائفية صرفاً أو إقليمية صرفاً بطبيعتها. هكذا كان من الممكن العثور عل عناصر من المجموعات البعثية الرئيسة في الجيش –مجموعة اللاذقية العلوية، ومجموعة جبل العرب الدرزية، ومجموعتا حوران ودير الزور السنيتان- في هذه اللحظة أو تلك في كل فئة سياسية تقريباً. وغالباً ما كانت العوامل أو التطلعات الشخصية إلى السلطة حاضرة. وكان للقرابات العقائدية دور ما، لكن لا يبدو أنه كان حاسماً”. ص 327-328.
يتناول الكاتب صلاح جديد بانتقادات حادة، ص 328-330، وهو ما لم يفعله تجاه قيادات حزبية ودولتية أخرى، لم يقل شيئاً تقريباً تجاه ميشيل عفلق ولا زكي الأرسوزي، ولو أنه أصاب في تقديره لموقف صلاح جديد من الصراع مع إسرائيل ومفهومه للمقاومة الفلسطينية والتفاعلات الإقليمية والدولية، ص 330. وهو ما يبدو أن وزير الدفاع حافظ الأسد تعلم منه، فقد تحول الأخير من موقف متشدد في المؤتمر القومي الاستثنائي التاسع (آب/أغسطس – أيلول/سبتمبر 1976) إلى موقف أكثر اعتدالاً، فقد “أدرك الحاجة إلى مسار جديد أكثر اتساقاً مع الإمكانات التي ينطوي عليها الواقع الموضوعي، أو مدفوعاً باعتبارات أخرى –ربما بتغيّر مزاج العسكر- انعطف نحو الفكرة القائلة إن النظام لا يمكن أن يعالج صعوباته إلا بالتحول نحو سياسة التسوية على الجبهتين الإقليمية والمحلية”. ص 330.
في المراحل الأولى كان الصراع بين حافظ الأسد وصلاح جديد داخل الخط نفسه، ولكن الأمور تطورت إلى صراع مفتوح بين التيارين أو الخطين الرئيسين في الحزب والدولة، الأول مدني بقيادة جديد والثاني عسكري بقيادة الأسد، ص 333.
ولكن أين كان فلاحو سورية ومدنيوها أو تجارها وحرفيوها من كل ذلك؟ وما كان العامل المرجح للصراع بين التيارين المدني والعسكري، ولماذا جرت التسميات على هذا النحو، أي مدني وعسكري؟ يسكت النص عن أسئلة من هذا النوع.
تمثّل فترة حكم الرئيس حافظ الأسد قطيعة تامة مع بعث المرحلتين الأولى والثانية، وإذ يقول النص إن الأسد هو أول رئيس لسورية من أصل فلاحي، فإنه يفرد 14 فصلاً من الكتاب لتلك الفترة، متحدثاً عن إعجاب كبير بالرجل الذي مركز السياسة حوله وربط الحزب والدولة به، ولو أنه سعى إلى جعل الحزب أكثر جماهيرية وأكثر انتشاراً في الأوساط الريفية، ص 340. وقد شهد الحزب تغيّراً في الوزن النسبي لأعضائه بحسب المنطقة والمحافظة، وخاصة بعد أحداث حماه. غير أن ثمة تراجعاً نسبياً في تمثيل الفلاحين الحزبي في محافظات عديدة بسبب الهجرة إلى المدن وتغيّر نسبة الاعتماد على الأرض والزراعة الخ.
يتناول النص في مواضع عديدة انطباعات وتقديرات الكاتب عن الرئيس حافظ الأسد ومهاراته وبراغماتيته الفائقة، إلا أنه يضع ذلك في سياق التمركز حول السلطة وحول شخص الرئيس. وقد اقتضت البراغماتية أن يزيد الأسد في الفسحة أمام الطبقات والشرائح غير الفلاحية، وخاصة رجال المال والأعمال، ص 404. كما كان لعائلة الأسد وحاشيته المقربين حيز كبير نسبياً في الكتاب، ومثل ذلك لشريحة كبار ضباط الجيش والمخابرات، وأصولهم الاجتماعية والدينية.
يفرد الكتاب فصلاً عن أحداث حماه وسياسة الرئيس الأسد تجاه الإخوان المسلمين، ص 479-510، وفصلاً آخر بدا طويلاً بعض الشيء عن سياسة الأسد تجاه القضية الفلطسينية وعلاقته بحركة فتح وياسر عرفات، ص525 589.

عوائق أمام كتاب “فلاحو سورية”
اتبع الكاتب المنهج نفسه الذي اتعبه في كتابه عن العراق، وإذا كان المنهج ناجحاً في قضية قد لا يكون كذلك في أخرى، حتى لو كانت ثمة عوامل متشابهة في القضيتين/الموضوعين العراقي والسوري. وثمة من أخذ يقارن بين الكتابين، ولا شك أن لتجربة الكاتب عن العراق تأثيرات وإسقاطات على كتابه عن سورية.
وهناك تعميمات فيما يتعلق بأمور عديدة، التصنيف الاجتماعي الاقتصادي ثم “هجرانه” إلى التصنيف الطائفي، أو إعطاء الأخير وزناً نسبياً وتحليلياً أكبر، وتحدّث الكتاب كثيراً في الأصول الدينية ولم يُوفق كثيراً في الربط بينها وبين الاتجاهات السياسية.
ولم تكن التسميات والألفاظ المستخدمة مطابقة للمسميات، ذلك أن تعبير “الأقل شأناً” لم يكن مريحاً، وقد استخدم كثيراً في مواضع غير مفيدة إلا من باب التأكيدات السلبية المتحيزة على أسس نخبوية ومادية وطبقية. وانطوى على دلالات ومدارك وتحيزات نمطية ومناهضة للريف.
ثم إن إعادة السياسات إلى “الأصول الريفية” يربط بشكل سببي وتلقائي بين تقصي الأصول الاجتماعية لفواعل السياسة وبين الفشل أو الإخفاق فيها، ويلمح إلى موقف سلبي للمدن أو المدن الريفية من سياسات “أبناء الريف”. ويسكت النص عن الأصول والمصادر المدينية لكل السياسات التي يتحدث عنها الكتاب، بمعنى دور الأعيان المدينيين والتجار والصناعيين ورجال الدين الخ.
يسكت النص عن أبناء الريف الذين كانوا مضطرين للجوء إلى الجيش والأحزاب الشعبوية والراديكالية، وهذا يتطلب المزيد من التحليل المعمق. ويقف الكتاب ضمن موجة تأثيم للريف، وتأثيم للاتجاهات الاجتماعية التي وقفت إلى جانب “البعث” أو تمكن البعث من اجتذابها إليه أو بالأحرى تمكن من احتواء تطورات أخرى داخلها ..
ولم تكن كتابات سامي الجندي ومنيف الزاز وغيرهم بريئة، ولا كتابات نيكولاس فان دام ورايموند هينبوش وفولكر بيرتس وغيرهم … التي دأبت على أن تقول الشيء نفسه تقريباً، وفق تعبير شهير لإمبرتو إيكو، ذلك أن الكتابات والمقاربات الثأرية لا تصلح لأن تكون أساساً يبنى عليه. فمن غير الجائز علمياً أن نقف عند تقييم الرزاز لصلاح جديد، وهو خصمه، أو تقييمات سامي الجندي مثلاً لمرحلة كان هو أحد صناعها ولكن الصراعات أبعدته. وكان من الواجب على الكاتب أن يأخذ بأسباب التحقيق والتدقيق في مثل هذه الأمور.
تتغلغل الكتابات المذكورة من شقوق وصدوع السياسة السورية، ذلك أن النظام لم يهتم كثيراً بالرد، وربما لم يكن لديه من يرد بشكل موضوعي، وتنكر لذلك الكم الكبير والمتزايد من الكتابات عن سورية، واكتفى بأن يمنعها من التدوال في داخل البلاد، … هنا سطحية وسذاجة، ولربما احتقار لفعل الكتابة ذاته.
ثمة أمور لم يولٍّها الكتاب أهمية تذكر، وقد تكون غابت بشكل تام تقريباً، من قبيل: الصراع مع إسرائيل، وكرد سورية، واليسار داخل الاجتماع السوري، وتأثير أموال النفط، وتأثير عراق صدام حسين، وتأثير أعيان المدن وتفاعلاتهم واتجاهاتهم الإقليمية والدولية، وتأثير الزبانة السياسية والثقافية، وتأثير الاتجاهات التسلّطية للنظام، وخاصةً على الشرائح الريفية والفلاحية.
ولو أن كتاب بطاطو عن فلاحي سورية وسياسات أبنائهم كان أكثر تأنياً وتدقيقاً في منطلقاته ومقولاته وتعميماته… لكن “أعلى شأناً” في نمط الكتابة عن سورية، وأكثر قدرة على تحليل وتفسير العديد من السياسات والرهانات القائمة في الأزمة السورية اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: فلاحو سورية: أبناء وجهائهم الريفيين الأقل شأناً وسياساتهم
الكاتب: حنا بطاطو
ترجمة: عبد الله فاضل ورائد نقشبندي
الناشر: المركز العربي للأبحاث والدراسات، 2014، 703 ص.
المصدر: مركز بيروت

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب