25 ديسمبر، 2024 2:48 م

فرح أنطون.. بين الدولة المدنية والدولة الدينية

فرح أنطون.. بين الدولة المدنية والدولة الدينية

فرح أنطون.. بين الدولة المدنية والدولة الدينية
فرح بن أنطون بن إلياس أنطون (1874-1922م)، صحافي وروائي ومسرحي وكاتب سياسي واجتماعي. ولد وتعلم في طرابلس لبنان، وانتقل إلى الإسكندرية في مصر هربا من الاضطهاد العثماني عام 1897م، فأصدر مجلة «الجامعة» وتولّى تحرير «صدى الأهرام» ستة أشهر، وأنشأ لشقيقته روز أنطون حداد مجلة السيدات وكان يكتب فيها بتواقيع مستعارة.

رحل إلى أمريكا سنة 1907م، فأصدر مجلة وجريدة باسم «الجامعة»، وعاد إلى مصر، فشارك في تحرير عدة جرائد، وكتب عدة روايات تمثيلية، وعاود إصدار مجلته، فاستمر إلى أن توفي في القاهرة.

كان فرح أنطون واحدا من أبرز المثقفين السياسيين والاجتماعيين اللّبنانيّين في الدولة العثمانية، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ورائداً من رواد حركة التنوير. تأثّر بأفكار المصلحين الأوروبيين «روسو» و«فولتير» و«رينان» و«مونتسكيو»، وكان داعية للتسامح الديني والسياسي والاجتماعي بين المسيحيين والمسلمين. كما تأثّر بفلاسفة عرب ومسلمين عديدين من أمثال «ابن رشد» و«ابن طفيل» و«الغزالي» و«عمر الخيام»، وآخرين وآمن بالاشتراكية واعتبر أنها تحمل الخلاص للإنسانية.

عكست ثقافة فرح أنطون الواسعة انحيازه للإنسان، بغض النظر عن دينه أو لونه أو عرقه، وأراد أن ينشر في الشرق العربي النظريات العلمية والفلسفية والاجتماعية التي هزّت الغرب وأطلقته في الآفاق الواسعة الجديدة، لعله ينتفض ويخطو خطوات واسعة وجريئة في طريق التحرر الفكري والرقي الاجتماعي والعلمي.

أثارت كتابات فرح أنطون الجريئة، وأفكاره التنويرية التي تدعو إلى التسامح ونبذ التعصب، واحترام عقول الناس، عدداً من الكتاب السلفيين ورجال الدين المسلمين والمسيحيين، فكتبوا منتقدين فكره، متهمينه بالإلحاد والعلمانية.

كان فرح أنطون يدعو إلى فصل الدين عن الدولة، أي أنه من دعاة تطبيق العلمانية بشكل واضح ، فكان يرى أن العلمانية سوف ترسي مبادئ العدالة الاجتماعية داخل المجتمع، من حيث أنها ستساوي بين كل المواطنين وتحفظ لهم كل حقوقهم الطبيعية، ومن ضمن هذا التصور قدم فرح أنطون مقارنة لشكل كل من الدولة الدينية والدولة المدنية (العلمانية).

فيقول إن الدولة المدنية الحديثة هي نظام سياسي واجتماعي يقوم على الديمقراطية وعلى ترسيخ مبادئ المساواة والعدالة والإخاء والحرية ، لأن هذه الدولة تنطلق من تشريعات مدنية ووضعية لا تصادر الرأي الآخر وتحفظ حق الاختلاف ولا تدعي الحقيقة المطلقة في مجالات الأخلاق والفكر والعلم.
كما أن الدولة المدنية كما يرى أنطون لا تدعي حصرية التمثيل واحتكار السلطة، بل تسلم بمبدأ تداول الحكم والسلطة وتقوم بهذا السلوك من خلال الديمقراطية حصراً، لا بل إن الدولة المدنية كما يرى أنطون تحفظ حق إسقاطها بالوسائل الديمقراطية وحفظ هذا الحق بالعمل بالدستور والقوانين.
كما أن الحكومة المدنية لا تميز بين مواطنيها على أي أساس أو انطلاقا من أي انتماء ، فمثلا يتحدث أنطون عن هذا المعنى قائلا: “وبناءا على ذلك فلو كان زيد مسيحيا ، وعمر مسلما ، ويوسف يهوديا ، وجمال ملحدا ، فهذه اعتقادات واجتهادات ذاتية تمثل شكل العلاقة بين الإنسان وخالقه ولا تعني أحد آخر من الناس، ولا يجوز أن يتدخل بها أحد أفرادا أو سلطات، لأنها تعبر عن حق كل إنسان بالاعتقاد بما يريد دونما فرض أو ترهيب أو إلخ..”
فهذا فيما خص نظرة فرح أنطون إلى الدولة المدنية ، أما الدولة الدينية فيما رآها فرح أنطون (طبعا الدولة الدينية القائمة في حكمها على حق إلهي ، وانطلاقا من مرجعية دينية تشريعية).

فالدولة الدينية في رأي فرح أنطون هي دولة تقوم على مصادرة حق الاختلاف والمعرفة والحقيقة والسلطة، لا بل كان يرى إنها تناقض روحية الإخاء الإنساني الذي يجب أن يسود بين الناس ، وذلك لأن الدولة الدينية تنطلق من نظرة شمولية بمعنى إنها تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة ، وبالتالي ومن هذا المنطلق ترى في كل مخالف لها ولتوجهاتها خصم أو منحرف أو ضال أو حتى كافر ، وهكذا ترسخ الدولة الدينية التفاوت بين الناس من حيث تصنيفهم انطلاقا من خلفيتهم الإيمانية والعقائدية وحتى المذهبية.
كما أن الدولة الدينية بحسب أنطون واستنادا من الحق الإلهي بالحكم تمنع بطبيعة الحال أي تداول للسلطة، وحتى أي نقد لها مهما كان بسيطا، لأن الدولة الدينية ترى أن كل قوانينها وتشريعاتها هي في نهاية الأمر تشريعات إلهية مصدرها إلهي سماوي يقيني مطلق ، وبالتالي تنزل كل قوانينها وكل تشريعاتها بمنزل الحق الذي لا يداخله أي شك، وبالتالي على الجميع التقيد والالتزام بهذه القوانين والتشريعات ، وعدم الاعتراض والمسألة وحتى النقاش.
أيضا يقول أنطون حول الدولة الدينية تقيم الدولة الدينية التراتب بين رعاياها على أساس التصديق بكل ما تؤمن به ، وعلى أساس الإذعان لكل تأويلاتها وتشريعاتها المعتمدة، فإذا أختلف معها فرد من أفراد الرعية أو طائفة من طوائفها ، فهذا تراه جالب لعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة، لذلك يخاف الإنسان في هذه الدولة على يومه وعلى غده، ولا يجرؤ فيها أحد على إبداء الرأي أو المناقشة فضلا عن الخروج على ما هو مشرع ومقرر من الأعلى.

وهكذا ينتهي أنطون بعد هذا الاستعراض المختصر إلى تفضيل الدولة المدنية على الدولة الدينية ، طبعا بسبب جملة العوامل والأسباب التي تم عرضها ، ولأن الدولة الدينية لأي دين كانت أو انتمت (فأنطون يتكلم بصورة عامة ولا يقصد الدولة الدينية الإسلامية أو المسيحية أو غيرها) فإنها ستطيح بالقيم المدنية والإنسانية الحديثة ، المتمثلة بالمواطنة والمساواة والعدالة والديمقراطية والحرية بكل تجلياتها.

✍️محمد ساجت السليطي

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة