16 نوفمبر، 2024 7:35 م
Search
Close this search box.

“فجر المسرح” .. بزغ مع مهد الإنسان داخل أديرة عباداته وأساطيره الألهية !

“فجر المسرح” .. بزغ مع مهد الإنسان داخل أديرة عباداته وأساطيره الألهية !

خاص : عرض – سماح عادل :

كان من الشائع أن تنسب بداية نشأة فن المسرح إلى “الإغريق”، وذلك لأن ما وصل إلى البشرية في عصرها الحديث هي نصوص الإغريق، التي كانوا يمثلونها على مسرح أقيم خصيصاً لذلك، لكن مع تطور دراسات الأنثروبولوجيا، (علم الإنسان)، ومع إكتشاف قبائل وشعوب لازالت تعيش في طور البدائية، وتطور دراسات مقارنة الأديان، بالإضافة إلى إكتشاف مصادر أخرى للحضارات القديمة التي تسبق حضارات الإغريق بقرون، بدأت نظرة الباحثين تتغير وأصبح مفهوماً أن المسرح والدراما بشكل عام نشأت مع بداية تشكل وعي الإنسان.

دراما الإنسان البدائي..

في كتاب (فجر المسرح.. دراسات في نشأة المسرح)؛ للأديب المصري والناقد المخضرم “إدوار الخراط”، أعتمد الكاتب على تلك الدراسات ليشير إلى فجر المسرح، وكيف كانت بداياته.. في القسم الأول بعنوان: “الدراما البدائية”؛ يوضح “الخراط” أن الدراما البدائية بدأت في التكون عندما أعاد البدائيون تشخيص دراما الولادة في إطار أساطيرهم وطقوسهم، إحتفالاً بإنقضاء الفترة الحرجة التي ينضم بعدها الوليد إلى العشيرة فيخلص من آثار الرهبة والسر، الذي جاء بهما من العالم الآخر، بإعتباره تقمصاً لروح الأسلاف وروح الأشياء معاً.

إن الطقوس البدائية، كما يجمع الدارسون، تختلط إختلاطاً حميماً بالدراما.. فالدراما نشأت في حضن الديانات البدائية بطقوسها وأساطيرها وسحرها، وكانت هذه الطقوس عبارة عن مشاهد درامية كاملة يقوم فيها الأبطال بتشخيص الطواطم أو الأسلاف والأرواح، وتدور فيها قصة الأسطورة التي تؤمن بها العشيرة إيماناً كاملاً، يرى في الأسطورة حقيقة أولية لا تقبل الشك، حقيقة حية تؤثر بشكل فعال في كل أحداث الحياة، وتقوم هذه الطقوس بدورها الذي لا غنى عنه في الإبقاء على الحياة نفسها وتظل مرتبطة بالدين.. يقول الباحث الأنثربولوجي “أ. جيمس”: “إذا كان الهدف من الدراما المقدسة هو إعادة تنفيذ أحداث أسطورة تفسيرية يتم إجراؤها وفق تقليد متبع يقره المجتمع، توجه إلى كاهن إلهي يعتمد عليهم العباد في حياتهم وبقاؤهم، ولذلك فإن العناصر المختلفة في هذه الطقوس إذا فصلت عن سياقها فقد تكون أقرب إلى السحر في أسلوب عملها، ولكنها في مجموعها تشكل فعلاً دينياً، مثل أن وضع الدم وأجزاء من الضحية في أحد الطقوس المعقدة، التي يقصد بها التضحية وتقديم القربان وأرتداء القائم بالطقوس جلد الحيوان، كلها تؤتي أثرها عن طريق القوة الكامنة فيها ولا يمكن إنكار أن لها قداسة مستقلة”.

يبين الكتاب أن في الطقوس القديمة ليس هناك ممثل وجمهور؛ بل الجميع وحدة متكاملة متشاركة في الحدث، والجماعة كلها تنصهر دون تحفظ وتعيش حتى أعماقها، هذا الإنفعال المعبر عنه بالحركة والكلمة، إن هذا الإيمان المطلق الذي يملأ الممثل القديم، أي الكاهن أو الساحر أو الرجل البدائي، الذي يقوم بدوره في أداء الطقوس الدينية أو المراسيم السحرية، هذا الإيمان شارك في تقدم هذا المجتمع نحو المعرفة والسيطرة على ظروفه الخارجية، هذا إلى جانب وظيفته الدينية والروحية العميقة، فقد دارت حياة أسلافنا البدائيين دورتها الدائمة، وبعد الحدث الأول العظيم، حيث ينتقل الروح الكلي من العالم الآخر المتسامي إلى عالمنا ويولد الطفل، تستقبله طقوس الإنتقال في أولى مظاهرها، ثم يأتي الحدث الأعظم في حياة البدائي، حيث ينضم فعلاً إلى العشيرة ويتلقى أسرارها وتصحب هذا الحدث طقوس اللقانة أو التعميد، وهي لها أكبر الخطر في حياته وحياة العشيرة معاً.

ومن الواضح أيضاً أن طقوس اللقانة ومراسيمها معقدة، ففيها الدعاء والإبتهال وإستصراخ الآلهة أو أرواح الأسلاف، وفيها الوعظ والتعليم، وفيها الحض على التمسك بالعهود، وفيها الرمز إلى الأسطورة الماثلة أبداً في نفس الإنسان، أسطورة الموت والبعث وهي الأسطورة الموسمية المتصلة أوثق اتصال بدورة الحياة النباتية من جفاف ثم إخضرار، وبدورة الإخصاب الحيواني من ولادة ونمو وموت.

قوة المشاهد الدرامية..

يؤكد “إدوار الخراط”، في كتابه، على أن ما يلفت الإنتباه في طقوس البدائيين هو قوة المشاهد الدرامية وفاعليتها وإمعانها في التصوير الدقيق المؤثر لأحداث الموت والبعث بكل تهاويلها، ثم الرقص الإيمائي الذي تتنوع مظاهره، ويشير بوجه خاص للدور الهام الذي يلعبه القناع في كل الطقوس الدرامية البدائية، إن استخدام القناع وجلود الحيوانات وشعرها، واستخدام المسوح المصنوعة من النباتات والقش، في كل هذا إشارة جلية إلى هذا التشخيص التام الذي يقع بين القائم بهذه الشعائر وبين القوة أو الروح أو الحيوان الذي يمثله ويرمز إليه، كما أن الأغاني الجماعية والإيقاعات عند البدائيين والرقص كانت أساس يقوم على المضمون الدرامي، الذي يرمز دائماً إلى الأسطورة الدينية، والتي كانت تتخذ سبيلها إلى التعبير بحركة أو صوت فيطلق الإنفعال العميق من إساره ويتم التطهير على شكل حركة لها مقاييسها، وإن كانت لها مرونتها أيضاً.

المسرح الديني لدى المصريين القدماء..

ينتقل الكتاب إلى المسرح لدى المصريين القدماء، موضحاً أن الدارسون وجدوا على جدران “معبد أدفو” مجموعة من النقوش تصور دراما دينية مقدسة كانت تمثل في أعياد “حوريس” السنوية، ونشر هذا النص في 1942، في هذه الدراما يكون “حوريس” فتى يافع خاضع لتأثير أمه “إيزيس”؛ التي هي البطلة الحقيقية للدراما، ويرجح أن الممثل الذي يؤدي دور “حوريس” يؤديه بالتمثيل الصامت والإيماء والرقص التوقيعي، فالدراما تصور الصراع التقليدي بين “حوريس” وعدوه “ست”، و”ست” هنا يتخذ صورة فرس البحر.

إن أسطورة “أوزوريس” من أقدم الأساطير وأحفلها بالدلالة وأغناها بالرمز الموحي، وقد كانت هذه الأسطورة، وما يدور حولها، مصدراً لأكثر من مسرحية دينية لدى المصرين القدماء، وأشهر هذه المسرحيات تلك المسرحية التي كانت تمثل في العيد السنوي الذي يحتفل بـ”أوزوريس” وموته وبعثه.. حمل النص الذي خلفه “آخر نفرت”، رئيس مالية الملك “سنوسرت” الثالث، إشارات إلى هذه المسرحية التي كان تمثيلها يستغرق عدة أيام، وقد أورد الدكتور “سليم حسن” تلخيصاً لهذه المسرحية نقلاً عن هذا النص، فقد كان الجمهور يشارك في إقامة شعائر هذا العيد وأداء أدواره الدرامية، ولقد سادت عقيدة “أوزوريس” في مصر القديمة وأكتسبت لنفسها سمات العقائد الأخرى وتمثلتها وإزداد نفوذها وأثرها في الدولة الحديثة.

المسرح الديني..

من الشعائر التي يمكن أن تندرج تحت إطار المسرح الديني لدى المصريين القدماء؛ ذلك الموكب الكبير الذي كان ينتظم في اليوم الأول من الشهر التاسع، هذه المسرحية الدينية تنتمي إلى الطقوس الكهنوتية، وكان الملك يمثل دور “حوريس” بإعتباره “ابن أوزوريس”، وكانت أعياد الربيع التي كان يحتفل بها لتكريم ذكرى موت “أوزوريس” وبعثه، كانت تتصل بسيطرة الملك على قوى الإخصاب ووفرة الحصاد، وقد كانت هذه الأعياد تبدأ من اليوم الثاني عشر من شهر “كيهك” وتستغرق 18 يوماً حتى نهاية الشهر.

من خلال نصوص الدارسين؛ يمكن عمل تصور للأعياد التي كانت تجري مجرى التمثيليات الدينية في مهرجان “سيد”، وهي أقدم التمثيليات التي وصلت، مما يشير إلى محاولة المصريين القدماء بعث الحياة في الأرض في بدء كل ربيع، وذلك بالإلتجاء إلى إجراء شعائر تمثيلية مقدسة لها أثر خارق فعال،  فالمعروف عند المؤرخين أن تمثيل أسطورة “أوزوريس” كان من الأمور المألوفة منذ أيام الأسرة الثانية عشرة على الأقل، وربما كانت تمثل قبل ذلك، وكان المصريون يمثلون حوادثها في كل عام في “عيد أوزوريس” في “أبيدوس”، وكان الكهنة يقومون بدور الآلهة ويشترك الناس في تمثيل المعارك، وكان يحج إلى “أبيدوس” في كل عام آلاف من الناس ليشهدوا تلك المواكب والتمثيليات التي تستغرق عدة أيام، وقد حفظ لنا الزمن بعض برديات فيها نصوص حوار الممثلين وفيها توجيهات خاصة، وهذا ما جعل الباحثين في تاريخ المسرح يؤمنون بأن هذه الأسطورة، التي كانت تمثل حوادثها قبل أربعة آلاف عام، هي أقدم ما نعرفه من التمثيليات في العالم كله، إذا كان المصريون يمثلونها قبل ظهور المسرح اليوناني إلى عالم الوجود، بما يقرب من ألف وخمسمائة سنة.

المسرح الإغريقي..

في القسم الثالث من الكتاب، يخلص الكاتب إلى أن المسرح الإغريقي لم يولد مكتملاً ناضجاً، فالشواهد المستمدة من آثار الحضارة القديمة تشير إلى بدء تخلق الدراما في أصولها الأولى من الطقوس الدينية البدائية التي كانت تمارسها العشائر اليونانية في مجتمعها القبلي الأول، وإذا كان فلاسفة اليونان في عصرهم الذهبي قد أرجعوا التراجيديا إلى الأناشيد والرقصات التي تندرج تحت عبادة “ديونيزيوس”، إله الخمر والإخصاب، وعادوا بأصول الكوميديا إلى مواكب الإحتفالات المعربدة الصاخبة؛ التي كانت تصاحب أداء طقوس الإحتفال به، فإن الدراسات الحديثة في علم الإنسان والديانة المقارنة تشير إلى أن أصول الدراما اليونانية أبعد من طقوس الإحتفالات بإله الخمر، وتقيم الصلة بين الدراما في صورتها الفنية التي إنتهت إلينا عند “إيسخيليوس” و”سوفكليس” وغيرهم، وبين الدراما البدائية الدينية أو الطقوس الدينية، التي يؤديها أفراد العشيرة معها وهي طقوس اللقانة والبلوغ والزواج والميلاد والموت.

المسرح تراث إنساني مشترك..

ينتهي الكتاب إلى نتيجة مفادها أن الشعوب والأقوام البدائية جميعاً عرفت المسرح، أو ما يشبه المسرح، منذ أن عرف الإنسان نفسه، ويقصد بها تلك الجوانب الدرامية في الطقوس والرقصات الدينية والسحرية، التي لا تخلو منها أية جماعة إنسانية بدائية، فالدراما في كل صورها البدائية منذ الشعائر الساذجة في أبعد العصور حتى التمثيل البدائي بالرمز والتشخيص والمحاكاة عن العشائر اليونانية، ومن قبلها عند المصريين القدماء، الدراما البدائية هي تقليد لقوى الطبيعة حتى يتأكد استمرار دورة هذه القوى، هي نوع من الحث والدعوة وسعي للأمن وضمان تجدد الحياة كما يعرفها البدائي أنها محاولة للبقاء وهجوم على الموت.

 

المصدر:

  • كتاب “فجر المسرح.. دراسات في نشأة المسرح” – إدوار الخراط.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة