2 نوفمبر، 2024 10:39 م
Search
Close this search box.

“فالح عبدالجبار” .. شرح المجتمع العراقي بمبضع جراح خبير

“فالح عبدالجبار” .. شرح المجتمع العراقي بمبضع جراح خبير

خاص : كتبت – سماح عادل :

“فالح عبدالجبار” عالم اجتماع عراقي.. ولد في بغداد 1946، غادر العراق في 1978، وعمل أستاذاً وباحثاً في علم الاجتماع في “جامعة لندن”، مدرسة السياسة وعلم الاجتماع في كلية “بيركبيرك”، والتي كان قد حصل فيها على شهادة الدكتوراه، عمل كمدير للبحث والنشر في مركز الدراسات الاجتماعية للعالم العربي الذي يوجد مقره في نيقوسيا وبيروت (1983 – 1990)، ومنذ عام 1994 قاد مجموعة بحث المنتدى الثقافي العراقي في كلية “بيركبيرك”.

أعماله..

“فالح عبدالجبار” متخصص في دراسة الفكر السياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط، وتتناول أعماله: الدين، دور القانون، الصراع الديني والمجتمع المدني.. وهو يكتب بالإنكليزية والعربية، ومن مؤلفاته العربية (ما بعد ماركس ؟) – 2010، (العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الشيعي – نموذج العراق) – 2009، (في الأحوال والأهوال: المنابع الاجتماعية والثقافية للعنف) – 2008، (الديمقراطية المستحيلة الديمقراطية الممكنة – نموذج العراق) – 1998، (التوتاليتارية) – 1998، (معالم العقلانية والخرافة في الفكر السياسي العربي) – 1992.. وكتبه الصادرة باللغة الإنكليزية: (الحركة الشيعية في العراق) 2003، (القبائل والسلطة في الشرق الأوسط) 2002، (آيات الله والصوفيون والإيديولوجيون) 2002، وبالنسبة للترجمة فله ترجمات، في مقدمتها ترجمته لكتاب (رأس المال) لماركس بثلاثة مجلدات.

يقول عالم الاجتماع العراقي، “سامي زبيدة”، في مقدمته لكتاب “فالح عبدالجبار”: (العمامة والأفندي): “إن معارف فالح عبدالجبار وأبحاثه علمية صارمة، لكنها لا تنبع من معطيات أرشيفية وثائقية فحسب، بل هي ثمرة ارتباط وثيق بالأحداث والشخوص والتيارات الفكرية، بل إن سردياته مشبعة بمعرفة حميمة بالتاريخ والسياسة في عموم المنطقة ما يضفي على البحث منظوراً مقارناً، أما التحليل فإنه ثري بالمعرفة النظرية الاجتماعية والسياسية”.

الديمقراطية في العراق..

في حوار مع “فالح عبدالجبار”، أجراه معه “صادق الطائي”، يقول عن إمكانية بناء الديمقراطية في العراق: “الحقيقة أنا ذهبت للعراق عام 2003 بعد غياب طويل، الهدف هو زيارة الأهل، وقد قمت ببعض المسوح وتدوين الملاحظات الميدانية عبر زيارات قمت بها في بغداد لبعض المناطق مثل مدينة الصدر، كما زرت الموصل والنجف وخان ضاري القريبة من الفلوجة والبصرة، ما هالني أن الشارع ممتلئ بخوذ الاحتلال والعقال العربي، أي سلطة الاحتلال العسكرية وسطوة التراث ممثلاً بالزي التقليدي، بالمناسبة كنت قد اشتركت  في مؤتمر عقد في لندن قبيل أن أذهب إلى بغداد، وكان السؤال المركزي في المؤتمر: (هل هناك إمكانية لإقامة الديمقراطية في العراق اليوم ؟)، وقد طرحت عدة آراء ونظريات حول ذلك، ويمكن إيجاز الأمر بأن كل النظريات التي تؤهل مجتمع ما للانتقال من حالة الدولة الشمولية إلى الديمقراطية هي:

1 – أن تكون الدولة ضعيفة أمام مجتمع قوي، وبذلك يصبح الانتقال إلى الديمقراطية سهلاً، مثال ذلك بريطانيا مقارنة بفرنسا في القرون الماضية.

2 – إذا كان هنالك طبقة وسطى قوية، فإن هذه الطبقة، وبحسب ما عرف من صفاتها، فإنها ستكون الحامل أو الحاضن لثقافة الديمقراطية.

3 – النظرية الثالثة تقول.. إذا كان هنالك ثقافة ديمقراطية مساواتية شائعة في المجتمع وقمعت لأسباب ما، كما هو حال ألمانيا بعد النازية، فإن التحول إلى الديمقراطية سيكون ممكناً.

4 – النظرية الرابعة تعزو الأمر لأسباب اقتصادية، وتفترض أنه إذا وجد اقتصاد سوق، اقتصاد حر، فإن ذلك سيمثل ركيزة مهمة للتحول الديمقراطي.. كل هذه الأفكار والطروحات تبين أن العراق خلواً منها أو خلواً من مقومات إقامة الديمقراطية، الاقتصاد ريعي تمسك به الدولة المركزية، الطبقة الوسطى مهمشة، ثقافة الديمقراطية المساواتية مفقودة، وهنالك مزيج من ثقافات عروبية قومية؛ وهي ثقافة تركز على الأمة وليس على الديمقراطية أو الحرية. النتيجة وجدنا أن كل العوامل التي تساعد على بناء الديمقراطية في العراق غير موجودة، وأن العوامل الهادمة للديمقراطية موجودة وبقوة”.

تجليات العنف..

أجاب “فالح عبدالجبار” عن سؤال عن العنف في المجتمع العراقي منذ 2003 ولحد الآن: “العنف في المجتمعات الحديثة هو عنف الدولة؛ لأنها هي التي تحتكر وسائل العنف مثل الجيش والشرطة والسجون وكل وسائل القوة، ولأنها جهاز يحتكر السلاح بحسب تعريف عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والدولة عندما لا تكون ممثلة لسكانها تكون علاقتها بالمجتمع علاقة قمع وعنف، لذلك كانت هنالك جرعات مستديمة من عنف الدولة تجاه المجتمع، وهذا العنف يتشربه المجتمع ويكمن فيه، إذ أنه لا يتسرب بل يكمن في المجتمع ويحاول أن يجد له منافذ أو قنوات للخروج، كذلك نحن نعلم أن جيلين من العراقيين هما جيلي حروب، الحكومات خاضت عدداً من الحروب منذ السبعينيات في كردستان مروراً بالحرب العراقية الإيرانية في الثمانينيات وحرب احتلال الكويت في التسعينيات والحرب الأخيرة التي احتل فيها العراق عام 2003، مئات الآلاف من الضحايا والمعوقين والأسرى والأرامل والأيتام، هي نتائج هذه الحروب، وهذه الحروب شلت المجتمع أجمع وليس المقاتلون فحسب، لذلك هنالك جيلين أو ربما ثلاثة تشربت هذا العنف واستقر في النفوس والعقول لتصبح اللغة الوحيدة التي تعرفها الأجيال الحالية هي لغة السلاح والمناخ السايكولوجي هو مناخ العنف، بالإضافة إلى الكميات الهائلة من الأسلحة التي انتشرت في الشارع نتيجة الفوضى بعد 2003، كل ذلك مثل عوامل عدم الاستقرار في المجتمع العراقي اليوم، ويخطأ بعض الكتاب أو المحللون عندما يعتبرون العنف خصيصة أو سمة عراقية، فقد شاهدنا ما حصل في دول الجوار عندما تمر بظروف مشابهة لما حدث في العراق، فتجد العنف ينفلت من عقاله كما حصل في الحرب الأهلية اللبنانية والحروب الأهلية الدائرة اليوم في ليبيا وسوريا واليمن، العنف هو إنهيار المنظومة الأخلاقية لدى الدولة مما يقود إلى إنهيار المنظومة السياسية، وبالتالي تجد المجتمع يعود إلى منظومات بدائية”.

تدمير الأمة..

أما عن الأمة العراقية، فيقول “فالح عبدالجبار”: “إن المجتمع العراقي كان منقسماً بين تيارين رئيسيين؛ التيار القومي والتيار اليساري، وقت حكم عبدالكريم قاسم، وقاسم كان رجلاً وسطياً ربما جاء قبل أوانه، غلق المنابر السياسية الذي قام به قاسم كان المفروض أن يكون مؤقتاً فأصبح دائمياً بعد 1963، وكان هذا أول تدمير لبناء الأمة، ثم تلته التحولات التي حدثت وظهرت على شكل الإنحياز إلى القبلية والمناطقية، وحتى الأحزاب مثل حزب البعث تحول إلى ملحق بهذه المنظومة القبلية أو العائلية، كما أن الوفرة النفطية التي حدثت بعد 1973 حولت الدولة إلى دولة ممسكة بكل شيء، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فتحولت إلى تنين، (تنين لوناثان الذي تحدث عنه هوبز)، ابتلع كل شيء واحتكر كل شيء، وعندما إنهارت تركت فراغاً مروعاً في المجتمع أمتلأ بالبنى التقليدية؛ العشائرية والطائفية والإثنية والمناطقية، وهذا ما وصلنا إليه”.

رمزان متناقضان..

عن كتاب (العمامة والأفندي)؛ لـ”فالح عبدالجبار”، يقول الكاتب “أحمد زين الدين”: “فالح عبدالجبار في كتاب (العمامة والأفندي) يظهر رمزان متناقضان: رجل الدين المعمّم الذي يمثّل القوة التقليدية المحافظة، والمعرفة المقدسة والمؤدلجة، والنظام الأخلاقي الصلب. أما الرمز النقيض فهو، كما جاء في كتاب عبدالجبار، (في الأحوال والأهوال)، المهندس والضابط والإداري والمحاسب، والعلماني الجديد في الدولة المركزية الحديثة. وهذان النموذجان يتواجهان فكرياً واجتماعياً وسياسياً. وإذا كان لهما أن يتعايشا معاً، فإنّه تعايش اضطراري، سرعان ما يتحول إلى صراع خفي حيناً، وظاهر أحياناً، بفعل شروط انتقال المجتمع من وضع، إلى وضع آخر يتداخل فيه السياسي بالاقتصادي والثقافي والاجتماعي. وقد أشتد أوار هذا الصراع حينما انتقلت البلاد من مرحلة ما قبل الدولة الوطنية، إلى مرحلة الدولة الوطنية المركزية. وقد أفضى هذا التحول إلى انحسار نفوذ رجال الدين وسلطتهم، والى تحطّم «الأشكال الاجتماعية الأقدم التي تعلي من قيم النسب النبيل أو المعرفة الدينية أو القداسة أو البسالة القتالية»، حسب عبارة حنا بطاطو.. السردية الكبرى لكتاب (العمامة والأفندي) تغطي التطورات والظروف التاريخية والتحولات الاجتماعية والسياسية في العراق، وفي داخل صفوف الطائفة الشيعية. وتكشف هذه السردية لتاريخ العراق الحديث، الأرضية والشروط التي اكتملت فيها عناصر الصراعات والتجاذبات المتكتلة حيناً، والمبعثرة أحياناً. الظاهرة تارة، والمختفية طوراً. وإذا كان المؤلف قد حدد بداية التنافس السري ثم العلني، بين الدولة العراقية والطائفة الشيعية، بانبثاق «حزب الدعوة»، أول حزب شيعي عراقي، فإنّ هذه الفترة التي أعقبت ثورة تموز 58 عرفت بوادر انكفاء الإيديولوجيات العلمانية وتآكلها، وازدياد جاذبية الإيديولوجيات المقدسة، واشتداد عود الهويات الإثنية والطائفية. وعبّر النهوض الطائفي، عن ضعف سيرورة التكامل، والاندماج الوطني بين أطياف الشعب العراقي، الذي يتوزع ولاؤه على أكثر من موقع طبقي وطائفي وقبلي وعرقي. ودفع التوجس من حكم عبدالرحمن وعبدالسلام عارف المنحازين سنياً، إلى سلوك الشيعة طريق العمل السياسي السري، عبر تشكيل التنظيمات الحزبية ذات الإيديولوجية الدينية”.

ويضيف “أحمد زين الدين”: “لذلك يضع فالح عبدالجبار، في تحليله الظاهرة الدينية الشيعية، الحوزات في كربلاء والنجف في بؤرة الضوء، بوصفها مركز تأثير وجذب وتحريض. وقد سبق للمؤلف أن حلّل في كتاب سابق، وبالأرقام، الموارد المالية للحوزات، وطرائق جبايتها وصرفها، وصراع المرجعيات فيما بينها على استقطاب الأموال الشرعية، من زكاة وخُمس وأوقاف، الأموال التي تساعدها على بسط شبكات نفوذها، وخلق جماعات من الأتباع والمريدين. وقد حاولت هذه الجماعات بقيادة علماء الطائفة أن تتغلغل إلى مجالات غير خاضعة لسيطرة الدولة، مثل ميادين التعليم، والمساعدات الاجتماعية، والأعمال الخيرية، والعناية الطبية، وإصدار المطبوعات التي ترمي إلى بناء نظرية اجتماعية وسياسية منافحة عن الإسلام، لتشكل ما يشبه المجتمع المدني الشيعي. وفي مواجهة تهديد الإيديولوجية العلمانية، لعبت مجلة «أضواء» دوراً توجيهياً وتثقيفياً بارزاً في إعداد الجماعة، وفي منافسة الفكر الماركسي”.

مواصفات الزعيم..

عبر مقالة بعنوان: (سادة الفشل: من الأمة إلى الملل)، لـ”فالح عبدالجبار”، نشرت في صحيفة (الحياة) يتناول فيها الزعيم وخصائصه، يقول: “ما هي أبرز مواصفات الزعيم، سواء كان زعيم الدولة أو زعيم الطائفة، أو زعيم الميليشيا، أو جامع كل هذه الشرائط، لا يهم، لا يهم أبداً.. أول صفاته أن المال الخاص والمال العام متداخلان. «الجيب واحد» كما يقول الكرماء. وما أن ينخلع هذا عن كرسيه، حتى يشفط الخزينة المركزية. حصل هذا أمام أنظارنا في العراق، يوم اقتحم قصي، نجل الرئيس المخلوع، البنك المركزي ليصادر ودائع العملة الصعبة: نحو أربعة بلايين دولار، وفي اليمن غادر رئيس بعد إفراغ خزائن البنك المركزي، وفي فلسطين بقيت حسابات «الثورة» باسم الرئيس. وهناك حشد من الرؤساء الأفارقة غير العرب عملوا ويعملون بالمثل. وفي بلد عربي آخر أقام شقيق الرئيس ميناء خاصاً للاستيراد بلا جمرك، وهو ينعم اليوم بامتلاك عقارات ضخمة في لندن، وغيرها من العواصم، بقيمة مئات الملايين من الدولارات، وفي عراق اليوم شفط أمثال هؤلاء نحو سبعة بلايين ونصف البليون في بحر ثلاث سنوات، بحسب تقديرات لجنة النزاهة، المهددة بالتصفية. وفي لبنان يقدر حجم الفساد بنحو 40 في المئة من الموازنة، بحسب رأي أحد خبراء الأمم المتحدة، في حين أن الفساد الموازي في الهيئات غير الحكومية، (ميليشيات وسواها)، لا يزال بعيداً عن الأنظار”.

ويواصل “فالح عبدالجبار”: “ثاني أبرز مواصفات الزعماء؛ كره مؤسسات الدولة، حتى لو كانوا قادتها. فثمة دوماً رغبة في اقتطاع جزء من مؤسسة لإنشاء امتداد شخصي للزعيم خارج الضوابط القانونية للدولة، مثل إنشاء حرس شخصي، أو تأسيس ميليشيا، أو جهاز أمن خاص. وغالباً ما يزج الزعيم نجله في هذه الصروح الهادمة للدولة. أما إذا بدأ الزعيم حياته قائداً لميليشيا فسيجد صعوبة مضاعفة في التخلي عن منبع قوته الشخصي هذا لمصلحة الاندراج في الدولة، فهو يرى في هذا الاندراج تقييداً لسلطته الشخصية غير المقيدة، ولا يرى أن دخوله الدولة هو أيضاً تقييد لسلطة الآخرين. وبلغ لعب الميليشيات حداً هزلياً. ففي العراق تزعم الميليشيات أنها أتت لحماية العتبات المقدسة، في حين أنها تهدد هذه العتبات عينها، أو تزعم أنها لتحرير البلاد، وتوحيدها، فيما هي تتسبب في شق البلاد وإذكاء صراع أهلي قد ينفتح على حرب أهلية. أو أنها تتحول بقرار واحد إلى «شرطة» فتنزل إلى الشارع لتفرض سلطة الحزب الذي تمثل.. السمة الثالثة للزعماء في رقعتنا شغفهم بالعنف، بسحق العظام، وشن الحروب، ولا نكاد نجد زعيماً يخفف من غلواء الحماسة الخطابية. وعلى رغم أننا أفشل أمم الأرض في تنظيم العنف، (الجيوش، الحروب)، فإن الزعماء الأكثر حديثاً عن النصر، القريب أو البعيد، والأكثر شغفاً باقتناء الأسلحة.. السمة الرابعة للزعماء هو ازدراؤهم بالقواعد القانونية، دستورية أو سواها. فالزعيم هو زعيم، ليس لأنه مفوّض، بل لأنه يمثل أقانيم جرداء مثل التحرير، الوطنية، الأمة، الثورة”.

الوسطية..

في مقال آخر لـ”فالح عبدالجبار”، نشر في (الحوار المتمدن)، بعنوان: (العراق وسواه من أوضاع مشابهة: الوسطية الضائعة منذ نصف قرن)؛ يقول: “تنتشر كلمة «الوسطية» منذ عقد انتشاراً جديداً يضفي عليها طابع فكرة فلسفية – اجتماعية، ويخرجها من أسر معناها الضيق القديم باعتبارها محض تكتيك سياسي بين قطبين متضادين، متعارضين، هما اليمين واليسار بمعناهما القديم. وتشيع هذه الكلمة في الأوساط العراقية اليوم أيضاً، بحثاً عن منجى من حكم الإكليروس الداهم الذي يشكل في نواح عدة، استمراراً للشمولية القبلية التي سادت ثم بادت.. فعلى امتداد النصف الأول من القرن العشرين، (ولربما قبله)، كانت الوسطية تُعد سُبّة منظوراً إليها من جهة اليسار، وكانت تعد ممالأة للتطرف منظوراً إليها من جهة اليمين. وكان هذا الاستقطاب يدور حول تقديم الجماعة على الفرد، أم الفرد على الجماعة، في حل تفاوتات الثروة والسلطة بين طبقات مجتمع حديث، هرمي، ينتج الثروة والفاقة بالدرجة ذاتها من الغزارة. هذه الاستقطابات قسمت الأمم مثلما قسمت العالم. وبقيت الانقسامات على أشدها، حتى أخذت بالتثلم المتدرج في النصف الثاني من القرن العشرين”.

ويستطرد: “الليبراليات الفردية الجامحة أخذت تتعلم من الجماعيات وجوب التوزان الاجتماعي، فنشأت دولة الرفاه نطفاً أولية بعد الكساد الكبير، (عام 1928)، لتتحول إلى منظومة راسخة في الخمسينيات. في المقابل اكتشفت الجماعيات الجامحة، التي تهيمن فيها الدولة على كل المقادير، وجوب الإصلاح على خطى اقتصاد السوق، وفتح الباب للحريات الاجتماعية والشخصية، فبدأت حركة الإصلاح مطلع الثمانينيات. وفي خضم هذا التقليد المتبادل، ولدت فكرة الوسطية مجدداً لا بوصفها تكتيكاً سياسياً بل فلسفة اجتماعية ذات منظور تاريخي. ولعل الوسطية وهم إيديولوجي آخر، رغم ما يكتنفها من تطورات وسياسات عملية، تقوم، في ما تقوم، على الموازنة بين قطبي الاقتصاد الأوامري الخانق، واقتصاد السوق المنفلت. وهي بهذا تنطوي على رد على الليبرالية الجديدة، مثلما تتشرب بعض عناصر هذه الأخيرة. ولعلها تدين في شيوعها إلى ظاهرة اجتماعية تتمثل في تقلص الطبقة العاملة الصناعية، التي تميزت بالنمو المتصل في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، مثلما تتمثل باتساع الفئات الوسطى، المالكة والعاملة في آن، اتساعاً هائلاً في النصف الثاني من القرن العشرين ما حوّلها إلى أكبر كتلة اجتماعية، خلافاً لكل توقعات القرن التاسع عشر بأن هذه الفئات ستنسحق وتتدهور وتتلاشى”.

وعن العراق يبين “فالح عبدالجبار”: “على أن موت الوسطية المبكر في العراق مطلع ستينيات القرن الماضي يرجع إلى أنها جاءت في ذروة الحرب الباردة التي مزقت العالم، مثلما يرجع إلى أنها جاءت لحظة ضعف الطبقات الوسطى نفسها في العراق، حيث لم يكن وزنها النسبي ليزيد عن 36 في المئة من سكان المدن، علماً أن المدن نفسها بالكاد شكلت نحو نصف السكان. وبهذا كانت الطبقات الوسطى الحديثة أقلية داخل المدينة، والمدينة نفسها لم تكن – عددياً في الأقل – تشكل الأغلبية، خصوصاً أن هجرة الأرياف الهادرة إلى المدن حولت هذه الأخيرة ثقافياً واجتماعياً إلى أرياف متكدسة.. إن الوسطية العراقية التي ولدت سياسياً في 1958 جاءت إلى الدنيا شبه مخنوقة، تجد اليوم في عودتها الجديدة عالماً يخلو من قيود الحرب الباردة، مثلما تجد مدناً نمت إلى مديات كبيرة، وتجد في الآن ذاته أن بعضاً من خصومها الإيديولوجيين، (القوميين واليساريين)، ليسوا في عافية، ولا في بينة من أمرهم. كما تجد فئات وسطى متسعة تناهز نصف سكان المدن، منقسمة إلى قرابة النصف الذي يعتمد على الراتب الحكومي، والنصف المتحرر من رعاية الدولة بفضل نمو اقتصاد السوق. لكنها، في المقابل، تجد كتلاً هائلة من الفئات الهامشية المفقرة الريفية المنشأ، (النصف الخطر في سكان المدن)، كما تجد إسلاماً سياسياً طائفياً بامتياز على كل الجبهات.. هل يمكن لوسطية عبدالكريم قاسم المبكرة، التي ولدت قبل الأوان، أن تعود بقوة ؟.. جائز. ثمة فرصة سانحة، يمكن لها أن تفيد من أخطاء الماضي.. لقد ماتت الوسطية الأولى بفعل ضغوط الاستقطاب الحادة عالمياً وإقليمياً ومحلياً، لكنها أيضاً تهاوت تحت وقع أخطائها هي أيضاً، وبالذات انحباسها واختناقها في إطار نظام ساسي احتكاري، فقد كل أصدقائه القريب منهم والبعيد. فالوسطية العراقية الآن لا تشق طريقها على الغرار الأوروبي بين يمين جامح ويسار جامح، بل بين أصوليات شمولية آفلة، وأصوليات دينية صاعدة”.

توفى “فالح عبدالجبار” بالأمس، إثر أزمة قلبية مفاجئة أثناء لقاء تليفزيوني، عن عمر يناهز 27 عاماً..

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة