11 يناير، 2025 12:59 م

فاطمة بن فضيلة.. الكتابة لديها هي المساحة الوحيدة التي تضمن الصدق والحرية

فاطمة بن فضيلة.. الكتابة لديها هي المساحة الوحيدة التي تضمن الصدق والحرية

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“فاطمة بنت فضيلة” شاعرة وروائية ومترجمة تونسية وحائزة سنة 2006 على جائزة زبيدة بشير للشعر. حصلت على شهادة معهد الصحافة وعلوم الأخبار في تونس، وقامت بتدريس اللغة الفرنسية للمعاهد الثانوية. لها خمس كتب منشورة وثلاثة كتب مخطوطة.

جنون الشعر..

في حوار معها أجراه “محمد الهادي الجزيري” تقول “فاطمة بن فضيلة” عن جنون الشعر : “” ليست هنالك موهبة خارقة دون بذرة جنون” هذا ما قاله أريستوت منذ مئات السنين، بل إنّ بعض الدراسات العلميّة أثبتت ارتباط الإبداعي بالجنون والقائمة طويلة ”موباسون” و ”فون غوغ ” وآخرون، إذا مسألة الجنون لدى الشعراء ليست مجازا، بل هناك ارتباط وثيق بين الحالة النفسيّة للشاعر والتي تصل أحيانا إلى حدّ الاضطرابات وبين ما يبدعه من نصوص، ولا أعتقد أنّ المسألة متعلّقة بخطوط حمراء والرغبة في التوقّف في مرحلة من مراحل الجنون، بل هي حالات واضطرابات قد تقف إلى حدّ ما، وقد تذهب إلى أبعد ما تتخيّل وصراحة لا أعرف إلى أي حدّ سيذهب بي  هذا الجنون، ولا أزعم أنّني قادرة على إيقاف طوفانه إن فاجأتني السيول”.

وعن التوقف عن الحب ومتى يحدث: “الموت ثمّ الموت، فربّما حتّى الموت لن يقدر على إطفاء جذوة الحبّ في روح الشاعر رجلا كان أو امرأة، وفي الحقيقة لديّ للحبّ تعريف مختلف تماما، فهو مجرّد فكرة نربّيها فتكبر وتتكاثر، وما دام في الشاعر نبض فهو لن يتوقّف عن التوالد وإنجاب الأفكار والحبّ هو أحد هذه الأفكار والمشاعر والأحاسيس الخالدة”.

أرض الفطام..

وعن مجموعتها الشعريّة ”أرض الفطام” تقول: “لأرض الفطام مع دور النشر حكاية أطول من حكايات الجازية الهلالي ، فبعد عديد الناشرين استقرّ الكتاب في مطابع وأروقة دار نشر معروفة نسبيّا وتعاملت وهذا ما طمأنني مع أسماء إبداعية كبيرة في تونس وخارجها، لن أتحدّث عن سنوات الانتظار ولن أتحدّث عن المواعيد التي أخلفها الناشر ولن أتطرّق إلى العقد المجحف الذي أوقعته معه، ولن أشير إلى البند المربك المتعلّق بتقاسم كلّ جائزة ممكنة مع السيد الناشر، سأقول فقط أنّني ومن شهر الخامس الفارط حصلت على خمسين نسخة من ”أرض الفطام” وأنّ الكتاب لم يدخل أيّ مكتبة، ولم يصل إلى يد أيّ قارئ وشكرا لدور النشر في تونس”.

روائية بالصدفة..

في حوار ثان معها لصحيفة “المغرب” أجراه “الحبيب بن فضيلة” تقول “فاطمة بن فضيلة” عن التعريف بنفسها: “أنا شاعرة بالفطرة وروائية بالصدفة ومترجمة بضربة حب، لا أذكر متى بدأت كتابة الشعر أذكر فقط أنّني مأخوذة باللغة مذ كنت تلميذة في المدرسة، أعجن الكلمات وأحاول خلق الصور وكأي خزاف لم يكن الخلق في بداياته سهلا ولا مستقيما ولا مدهشا لكنّ الدربة طوّعت أناملي وأخذتني غابة الشعر الى مسارب يستحيل الرجوع منها. أما الرواية فحدثت كالقدر الذي يتأخر ثم يأتي هكذا دون إذن، بدأت خطوطها العريضة في مخيلتي حين كنت في العراق في آخر مهرجان للشعر قبل الحرب هناك، مهرجان المربد للشعر وبدأت كتابتها سنة 2004 وأنهيتها سنة 2007 ونشرتها سنة 2008. هكذا جاءت «رواه العاشقان» بعد حمل طويل ومخاض أطول ربما لأنّ جنون الشاعرة يدمر ما تتطلبه الرواية من اتزان وعمل دؤوب. والترجمة هي ضربة حب كما قلت، فأنا أترجم فقط نصوصا وقعت في حبها”.

الأهازيج البدوية..

وعن مجيئها إلى عالم الشعر تقول: “جئت الى عالم الشعر من الأهازيج البدوية في الأعراس وفي مواسم الحصاد التي كنا نحضرها في العطل في ريف مكثر ومن صوت أبي وهو يترنّم بالبردة، ومن أنين الناي (القصبة) بين أنامله. جئت الى الشعر من أغاني النساء في المحفل وهو يجوب المسارب بين «الكدية» و«الرتبة»، جئت الى الشعر من المنازل القصديرية المتراصة على ضفاف المنازه، جئت إلى الشعر طفلة بظفيرة سوداء اقتلعت الجرافات منزلها وابتلعت دمية القماش الوحيدة التي تمتلكها، جئت إلى الشعر من الحي الشعبي، من عرق العمال ومن الانتظار الطويل أمام الحنفية الوحيدة لجلب الماء الصالح للشراب. جئت إلى عالم الشعر مراهقة اكتشفت من باب الصدفة في مكتبة عمومية ديوان «قالت لي السمراء» لنزار قباني فبدأت رحلة البحث عن صوره وسيرته وكتبه التي كنت أخفيها نهارا لأتصفحها ليلا بعيدا عن الأعين. وفي الحقيقة لا أذكر أنّني جئت الى عالم الشعر، كلّ ما أذكره أنني أتنفس شعرا منذ وعيت.

الشعر هو حالة وعي قصوى وإحساس مفرط بالذات وبالآخر. في بداية تجربتي الشعرية كان الإحساس بالذات والتعبير عنها هو المسيطر فجاءت مجموعة «لماذا يخيفك عريي» بقصائد البنت العاشقة ذات الظفيرة السوداء القادمة من حي المفقرين والمهمّشين محمّلة بأحزان تلك الطبقة الشغيلة من مئات العائلات التي نزحت بعَيد الاستعمار الى أحواز العاصمة وضواحيها تاركة قراها وبواديها للاهمال والنسيان والخراب.

في التجربة الثانية «من ثقب الروح أفيض» كان الاندفاع أقل والاشتغال على القصائد أكثر بلغة أخرى أكثر وعيا وأقل انقيادا للعاطفة وتدرّبت أناملي على تطويع اللغة أكثر من طاعتها وبرز الآخر بأكثر وضوح فجاءت القصائد حمّالة لهموم عربية وقضايا كبرى كالقضية الفلسطينية والحرب على العراق. وتعتبر «أرض الفطام» نقطة تحوّل في تجربتي الشعرية سواء في مستوى شكل القصيدة أو محتواها وعوالمها الجمالية فوردت قصائد هذه المجموعة ذات بعد انساني شامل”.

مسكونة بالسرد..

وعن الرواية تقول: “أنا لم ألجأ الى الرواية، الرواية سحبتني بعنف إليها لسببين اثنين أوّلهما أنّني مسكونة بالسرد منذ طفولتي فمنذ حكايات جدتي وأهازيج أبي وأنا أتبع خيط الراوي باندهاش كبير. حتى أنّ السرد حاضر  بكثافة في كتاباتي الشعرية . أمّا السبب الثاني فهو مرتبط بزيارتي للعراق سنة 2003 في آخر مربد للشعر قبل الغزو الأمريكي، كانت بغداد حينها على أبواب الحرب و كلّ شيء يوحي بأننا قد لا نزور العراق مرة أخرى وذاك البكاء وذاك الشجن الكثيف الذي خيّم على الوفود العربية وهي تعانق شوارع بغداد وتقبل طرقاتها. وتتالت الأحداث بعد عودتنا من هناك وكانت صور الحرب تتناثر من شاشات تلفزاتنا وأجساد أصدقاء عرفناهم تتساقط تباعا. وكانت «رواه العاشقان» هي الحضن الذي سكبت فيه كل أحزاني حينها”.

وعن الواقع الثقافي والأدبي في تونس بعد الثورة تقول: “الواقع الأدبي والثقافي مرتبط بالواقع الاجتماعي والسياسي فنفس الأسباب تؤدي حتما إلى ذات النتائج وأهم سمة لهذا الواقع العام هو عدم الاستقرار وانعدام الوضوح وكما برزت في السياسة أصوات وكتل لا علاقة لها بالفعل الثوري لا من قريب ولا من بعيد برزت في الأدب أصوات وتشكيلات لا علاقة لها بالإبداع وأذهب إلى القول بأنّ الوضع في الأدب أخطر منه في السياسة.

لأنّ ما يزرع الآن من رداءة وهذا الكم الهائل من الكتب الخالية من أي محتوى سيكون حصادا لأجيال قادمة. هذا النفس من الحرية الذي افتكته دماء الشهداء سلاح ذو حدين فمن ناحية تضاعفت التظاهرات الثقافية عبر الجمعيات التي أنشأت بعد الثورة و من ناحية أخرى فتح الباب على مصراعيه من خلال العديد من هذه الجمعيات ولا أقول جميعها للمتشاعرين و صغار الكتبة و المدعين من الجنسين”.

لماذا يخيفك عريي..

في حوار ثالث معها في صحيفة “الشروق” تقول “فاطمة بن فضيلة”عن مجموعتها الشعرية “لماذا يخيفك عريي” وهل تمثل تمردا: “مجموعتي الشعرية “لماذا يخيفك عريي” لم تتضمن خطابا شعريا جريئا ولم أتعمد من خلالها النسج على منوال بعض الشاعرات العربيات اللاتي كما تقول خرجن عن القبيلة، أنا لم أرد أن أجسد عبر قصائدي رؤية جديدة للشعر والكتابة، فلست من الذين يدعون التنظير لرؤى شعرية جديدة، مجموعة: “لماذا يخيفك عريي” كانت صادقة وبعيدة عن العقد التي تلجم الإنسان العربي.

لقد كنت في قصائد هذه المجموعة الأولى شفافة وبسيطة كما أنا بلا أقنعة، لم أدع العفة فلست ملاكا ولم أتنصل من غرائزي ورغباتي فلست جثة بل أنا كائن حي، إنسان أصيب بالملل والكذب والادعاءات الباطلة وحسب رأيي الكتابة هي المساحة الوحيدة التي تضمن لنا نسبة مائوية لا بأس بها من الصدق والحرية من لم يستطع أن يمد خطوات حرة طليقة على بياض الورق فحري به أن يتوقف عن الحلم والادعاء الباطل بالقضاء عن حرية الآخرين”.

و عن الأدب النسائي تقول: “رغم اعترافي بالاختلاف الفيزيولوجي بين الرجل والمرأة فأنا أؤمن بالانسان فالهمّ واحد والأوجاع مشتركة والصواريخ التي تدمر العالم شبرا شبرا لا تتخير ضحاياها. مسألة الأدب النسائي مسألة مغلوطة من أساسها أوجدها البعض لتقزيم الإبداع النسائي والاصرار على هذا التقسيم يؤدي الى نتائج عكسية ويضفي على هذا الأدب صبغة دونية، فالخنساء مثلا والتي كتبت الشعر منذ مئات السنين لم تصنف داخل أية حركة نسائية بل كان يشار إليها ضمن شعراء عصرها من الرجال وإن كان لابد من هذا التعتيم فاعتبروا ما أكتبه من الشعر الرجالي ذي المواصفات الأنثوية”.

وفاتها..

انتقلت ” فاطمة بن فضيلة” إلى رحمة الله في يوم الثالث والعشرين من شهر سبتمبر/ أيلول عام 2022 بعد صراع مع المرض.

“البحر أرحم من مبغاكم”..

شعر “فاطمة بن فضيلة”

كنا أنا و ليلى وسلرى

وشاعرة من مدينة بعيدة

سقط اسمها من فمي

وأنا أهتف في شارع الضباب

ربما آمنة أو عائشة أو خلود

وكانت معنا مغنية سمراء

أهمس لها كلّما جفت الحروف

في حلقي

“غنّي يا سلاف”

كان البحر بعيدا و مقهى الميناء حلما

لن نطاله الآن

لنجلس في حانة هتفت ليلى

أنا ربّة الحانات

لندخل و لنوقّع قصائدنا للسكارى

والعابرين و يتامى البلاد

“المقهى أسلم” هتفت سلرى

لم يكن يهمّني أن ندخل بارا

أو مقهى أو مسجدا

لم لا ندخل مبغى و نوقع قصائدنا

للعاهرات

ضحكت صديقتاي و غنّت سلاف

“يا روح سلّم الروح و للروّح بلّغ سلامي”

الليل يداهمنا و البحر أبعد من أحلامنا

و الأزقّة تفتح أفواهها و تتسع

مرّ فتى

رمانا بنظرة عاشقة و عبر

تعرفينه؟ سألت ليلى

لا. أجبتُ

– فاطمة…. صرخت

-عبر قصائدي مرّة و سقط اسمه من فمي

و أنا أغنّي: ” لو كان النار الّي كوتني كواتك”

الأسماء لا تسقط ، الأسماء تصعد الى الأعلى

همست سلرى و هي منشغلة بتفكيك قصيدة جديدة

البحر أبعد من أحلامنا

فتحة في الزقاق الأخير تبتلع أقدامنا

لم يكن مقهى

لم يكن حانة

كان مبغى كبيرا

يسمّونه مجازا “وطنا”

يعبر الفتى ذو النظرة العاشقة

يحمل اسمه بين يديه كما يحمل منذور للموت كفنه

الأسماء لا تصعد الى الأعلى يا سلرى

الأسماء أكفان تلفّنا لحظة الرّحيل

غنّي يا سلاف

جفّ الحلق و تاهت الأقلام بنا

“البار أرحم من مبغاكم” هتفت ليلى

أنا ربّة الحانات، أوزّع الشعر في كؤوس بيضاء

السكارى قطع زجاج صغيرة تلمع دون ضوء

شفيق بوهو يفتتح الأمسية

” ربّة الحانات توقّع قلبها

هل من مشتر”

البار أرحم من مبغاكم، صرخت ليلى،

منذ أبي وأنا أرتاد البارات

وأعرف منافذ الروح فيها

البارات لا تكذب يا أبي

شفيق بوهو يوزّع القصائد في كؤوس حمراء

ترتعد سلرى ”المقهى أسلم، لن أوقّع قلبي على أعتاب السكارى

المقهى أسلم”

البحر أبعد من أحلامنا

زوارق الورق التي صنعتها لي مجازا في إحدى قصائدك

تغرق الآن بلا ماء

البحر أبعد من أحلامنا

و البار أرحم من مبغاكم

المبغى الذي سميتموه مجازا….. وطنا.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة