فاروق وادي..  امتلك وعيا حادا بالمصائر الإنسانية في ظل النكبة الكبرى

فاروق وادي..  امتلك وعيا حادا بالمصائر الإنسانية في ظل النكبة الكبرى

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“فاروق وادي” كاتب وروائي وناقد فلسطيني.

حياته..

وُلد “فاروق محمد أحمد وادي” في مدينة البيرة الفلسطينية في 14 أبريل 1949 لعائلة فلسطينية كانت قد قدمت نازحة من قرية المزيرعة إثر النكبة عام 1948. حصل على درجة البكالوريوس في علم النفس من الجامعة الأردنية عام 1972، وتنقل بين عدة مدن عربية منها عمان وبيروت ودمشق، وعمل لمدة 35 عامًا في المؤسسات الثقافية الفلسطينية.

هاوية الغزالة..

أقيم في معرض فلسطين الدولي للكتاب، حفلٌ لتوقيع روايته الأخيرة “سوداد” الصادرة عن “دار المتوسط”، ولظرفه الصحي لم يتمكن من الحضور، فبادر لتوقيعها عنه (إيهاب بسيسو، أحمد زكارنة، خالد جمعة، ومحمود شقير).

وكانت “منشورات المتوسط” قد أعلنت في 15 أيلول/ سبتمبر2022، عن إصدار رواية “سوداد” بعنوان فرعي “هاوية الغزالة” للروائي الفلسطيني فاروق وادي، الذي “يتألق السرد ويتموج الخيال، ويصخب الواقع، ويتلامح التاريخ، انطلاقًا من وعي حاد ورؤية ثاقبة للمصائر الإنسانية في ظلال النكبة الكبرى، التي عرفها شعب سكن أرض الجمال والخير واقتُلع منها ليشهد عذابات لا تنتهي”. مضيفةً أن الرواية الواقعة في 304 صفحات، هي “قصة الحب المأساوي، والجشع الذكوري، والهزائم الجماعية، وظلم الأقربين، وخذلان التاريخ”.

سرير المشتاق..

في مقالة بعنوان (في «سرير المشتاق».. فاروق وادي ينعى حركات التحرر اليسارية العربية) كتبت “جميلة عمايرة” : “تثبت الرواية على امتداد الساحة الثقافية العربية، تطورها اللافت وتميزها في ظل ما ينشر من روايات لكاتبات وكتاب عرب في السنوات العشر الأخيرة. ولعل أبرز ما يظهر للمتلقي والناقد المتابع والباحث، هو أن الرواية كفنٍّ لا يتوقف عن الخروج على فنه، بل تفكيك المدونة التقليدية للرواية العربية التي كانت تسعى لرضى «الجمهور» وذائقته المتبدلة، متتبعة طرق التجريب وتداخل الأجناس الأدبية والاستفادة منها، وصولًا للحداثة وما بعدها من دون التوقف أو الالتفات لحصد جائزة بات ينتظرها عديد من الروائيين والكتاب، أو التزام بإرث نقدي متبدل ومتغير باستمرار. لتشق طريقها نحو خلق قارئ بذائقة مغايرة عما اعتاده في قراءاته، مستفيدة من التطور الهائل لفن الرواية بالعالم.

ولعل رواية «سرير المشتاق» للروائي الفلسطيني فاروق وادي والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر تندرج في هذا المتن الروائي العربي باختلاف موضوعاته وكُتابه. حيث يتداخل البناء السردي ويتواصل عبر لغة شفيفة تنهل من الوصف والاستعارات والرموز ذات الدلالة النصية المتوهجة، فاللغة هنا لا تعني أحرفًا أو كلماتٍ بل هي رؤيا ورؤية لأنفسنا وللعالم من حولنا، اللغة بأحداثها المتشعبة والمتحولة تشغل المتلقي ولا تدعه يتوقف أو يلتقط أنفاسه لبرهة قصيرة. بل يجد نفسه متورطأ بتتبع مسار الشخوص وخيباتها وآمالها وأحلامها التي تكسرت عند أول عقبة في الطريق، نحو آمال عريضة بالتحرر وتحرير الأرض وكذلك ملاحقة الأحداث في تسارعها ومآلاتها الحزينة، كما البطل الذي ظهر طوال صفحات السرد بأكثر من سحنة واسم بمعنى آخر كل شخوص الرواية هم أبطال تشاركوا البطولة وتقاسموها مع المرأة «نشوى» التي تسيّدت السرد بامتياز وقاومت ضعف الرجل، وبالتالي قاومت ضعفها وانتصرت لنفسها في أكثر من مشهد وحدث.”.

وتضيف: “على مدار ما يقارب ثلاث مئة صفحة ينعى الروائي حركات التحرر اليسارية العربية، التي استقطبت عديدًا من الأفراد الحالمين بالتغيير واسترداد الأرض التي احتُلت، وقيادة المقاومة بالتحرير والنصر القادم لا محالة. لكن يتكشف السرد هنا، وبحنكة سارد يعلم خفايا الأمور والأحداث ومآلاتها ،عن خيبة وخراب وتفكك وهزائم من جهة، ومآلات «الرفاق الحزبيين» بالانكسار إما سجنًا أو نفيًا أو اعتقالًا أو موتًا؛ بسبب اعتراف من رفيق سقط في أول عقبة، أو وشاية من أحدهم أو إجهاض الحلم وتبدده أو هجر الحبيبة!”.

وتؤكد: “لا يكتب الكاتب لإدانة الرفاق أو الطروحات الأيديولوجية والفكرية، أو يؤشر إلى خلل في البنية الحزبية، فقد تمخض في النهاية كل هذا عن ارتداد أفرادها ونكوص بنيتها، أو القبض على الحقيقة عارية كما هي، لا لا، ثمة فرق كبير بين النظرية والتطبيق، بين المقاومة والمفاوضة! يكتب لأجل التخفف من ذاكرة أثخنته، وأحزان أتعبته، في مرحلة تاريخية لمدينة عربية كانت حلمًا للشباب العربي بالتغيير والحرية”.

منازل القلب..

وفي مقالة بعنوان (فاروق وادي اسمًا ومُسمّى) كتب “أنطوان شلحت”: “أوّل ما حضر عندما أتاني أمس (الثلاثاء) نبأ رحيل الروائي والناقد الفلسطيني فاروق وادي (73 عامًا)، أن أستعيد ما كنت قد كتبته في تقديمه إلى قراء “ملحق الثقافة” في “العربي الجديد” في مناسبة حلوله ضيفًا على الملحق قبل ستة أعوام. هنا ما كتبته في ذلك الحين:

قد لا أكشف جديدًا إذا ما قلت إن معنى الاسم فاروق هو الذي يفرّق بين الأمور، والفيصل. وإن من حقّ الروائي والناقد الفلسطينيّ فاروق وادي أن يُذكر أنه بهذا الصدد اسم على مسمّى، لكن يبقى من واجبي إزاء القارئ أن “أهيئ” له أسبابًا كافية تبرّر ذلك. “يؤكد وادي أنه لا يجرؤ على وصف كتابه “منازل القلب” (1997) بأنه رواية، لأن شرطًا أساسيًا من شروط الرواية ينقصه ليكون كذلك، وهو “التخييل”، الذي غاب عنه تمامًا” ولا يتسّع المقام إلى أكثر من سببين اثنين، علمًا بأن ثمة أسبابًا أخرى غيرهما.

السبب الأول، نأيـه عن التبجّـح. فمثلًا يؤكد وادي مرة أخرى، في سياق الحوار معه، أنه لا يجرؤ على وصف كتابه “منازل القلب (كتاب رام الله)” (1997) بأنه رواية، لأن شرطًا أساسيًا من شروط الرواية ينقصه ليكون كذلك، وهو “التخييل”، الذي غاب عنه تمامًا، فالتزم السّرد فيه بالأحداث والوقائع كما حدثت في الواقع من دون تحريف، وبالأشخاص كما كانوا، أو كما هم، وبالمدينة (رام الله) في حدودها الجغرافيّة والتاريخية الواقعيّة”.

ويضيف: “السبب الثاني، كتاب فاروق وادي “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية (غسان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا)” (1981) والذي يجب أن يُقال- فضلًا عما ورد بشأنه في الحوار معه- إنه لم يصبح مرجعًا في ما يخصّ ثلاثة روائيين فلسطينيين مؤسسين فحسب، بل أيضًا علامة نقدية فارقة في ما يتعلق بمقاربة الأدب الفلسطيني ضمن معايير الإبداع الفنيّ.

خاض وادي في هذا الكتاب، من ضمن أمور أخرى، غمار الإجابة عن السؤال بشأن البداية الحقيقية للرواية الفلسطينية. وقد وجد أنه حتى عام 1963 لم تتجاوز الروايات الفلسطينية التي كتبت ولا سيما بعد عام 1948، كونها مجرّد “محاولات” متعثرة تحركت بطموح التعبير عن قضية فلسطين، لكن خانتها قدرتها على تملّك أدوات الكتابة الروائية، أو على تملّك الواقع نفسه.

وبرأيه فإن تملّك الواقع وتملّك الأداة الفنية المتميزة وتضافرهما الجدليّ لصوغ عمل فنيّ متقدم، تحقّق أول مرة على صعيد الرواية الفلسطينية في العمل الروائي الأول لغسان كنفاني “رجال في الشمس”. هذا العمل قدّم رؤية فنية وأيديولوجية وسياسية تتجاوز الرؤيا السياسية والأيديولوجية المعلنة خارج النصّ للكاتب نفسه. واستطاعت هذه الرواية أن تستوعب شروط تاريخها وأن تحاول رصد حركة جوهره وأن تجيب عن أسئلته الجوهرية.

“كتاب “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية (غسان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا)” (1981) كان في حينه بمثابة تجديد لمناهج مقاربة الكتابة الروائية الفلسطينية، يسعف في الغوص على قيمها الفكرية والجمالية، ويتيح إمكان امتلاك الوعي للتفريق بين الخطابة… والكتابة”.

وفي النهاية يقول: “وفي ذلك الحوار مع “ملحق الثقافة” قال إن الزمن، بعد مرور 35 عامًا على تلك القناعة، لم يخيِّب توقعاته، فلم يبخل بكمٍ زاخرٍ من الروائيين الفلسطينيين الذين قدموا وما زالوا يقدّمون سرديات روائية ملفتة. كما كشف أنه بعد أن أصدر “ثلاث علامات” في 1981، واصل عمله في مشروع قراءة الرواية الفلسطينيّة لما بعد كنفاني وحبيبي وجبرا، ونشر قراءات قليلة حول أصوات ما بعد هؤلاء الروائيين الثلاثة. غير أن سقوط بيروت بعد عدوان 1982 وضياع بيته ومكتبته فيها، ومنها المكتبة الخاصّة بالرواية الفلسطينيّة، قضى على أحلام ما وصفه بأنه “مختبره النقدي” الروائي الفلسطيني، خاصّة وأنه فقدت ضمن ذلك ملاحظاته التفصيليّة حول الأعمال التي كان قد قرأها آنذاك. وبناء على ذلك لم يعد مُهيّأ للقيام بمثل تلك الدراسة”.

أعماله..

صدر له العديد من الكتب بين الرواية والسيرة والنقد والقصة القصيرة.

  1. “المنفى يا حبيبتي”، مجموعة قصصية، عام 1976.
  2. “طريق إلى البحر”، رواية، عام 1980.
  3. “ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية: غسان كنفاني، إميل حبيبي، جبرا إبراهيم جبرا”، عام 1985.
  4. “رائحة الصيف”، عام 1993.
  5. “منازل القلب”، عام 1997.
  6. “عصفور الشمس”، عام 2006.
  7. “سيرة الظل”، عام 2008.
  8. “ديك بيروت يؤذِّن في الظهيرة ـ كتاب الحرب”، عام 2015.
  9. “سرير المشتاق”، عام 2019.
  10. “سوداد.. هاوية الغزالة”، عام 2022.

وفاته..

توفي “فاروق وادي” 19 سبتمبر 2022 في العاصمة البرتغالية لشبونة عن عمر حوالي 73 عاما بعد صراع مع المرض.

“الرّجل الذي كان يمشي في ظلّ الحائط”

قصة “فاروق وادي”

حدث ذلك بعد أحد عشر يومًا من اغتيال الزّعيم..

انهالت القبضات القوية على باب شقّته التي طالما ظنّها متوارية عن عيونٍ صقريّةٍ خارقةٍ، ظلّت تبعث في قلبه الرّعب.

أيقظته الطّرقات المتوتّرة مفزوعًا، وأيقظت معه الجيران، الذين كان من الممكن أن يظلّوا سادرين في نومهم حتى الظّهيرة، موعد صلاة الجمعة. وكان قد قرّر، بينه وبين نفسه، أن يؤدّيها، كما جرى الأسبوع الماضي، بين جدران بيته وظُلمة النّوافذ المُغلقة.

كان قد تناهى إليه عبر المذياع، الذي يُسرب إليه الأخبار همسًا، أن قاتل الزّعيم ينتمي إلى إحدى الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة.

في المساء، منذ أحد عشر يومًا، كانت ظهيرة ذلك النّهار قد جاءته بالخبر اليقين: الزعيم يلقى مصرعه برصاص أحد ضباط جيشِه، الذين اعترضوا على قراره وقف القتال مع العدو الغادر، والتّورط في سلام مُتسرّع لن يجلب سوى الكوارث والويلات والدّمار!

داخلته مشاعر مختلطة من الفرح والخوف. وإن استطاع أن يدفن مظاهر غبطته ويواريها حتى عن نفسه، فقد عجز عن أن يتغلّب على خوفه الذي يتبدّى له سارحًا بين جدران البيت مُحكم الإغلاق، يتجوّل مع رعشاتِ قلبه وكل خطوة من خطواته المتردِّدة.

هو لم يُغلق باب بيته فورًا، في ذلك اليوم، الذي ظلت فيه مذياعات الحارة تبثّ أخبار الاغتيال.. فقبل أن يفعل ذلك، هبط مُسرعًا إلى البقالة التي تقع أسفل العمارة المجاورة. أصغى، من دون أن يُبدي اهتمامًا يلفت انتباه الآخرين، إلى الأحاديث التي يتداولها النّاس حول الحادث. اشترى خبزًا وجبنة بيضاء وأخرى تركيّة ولحومًا باردة وكمية من المُعلّبات، ثم قفل عائدًا، ليكون رهين المحبسين: بيته وخوفه.

لقد حرص على أن يُغلق باب بيته ونوافذه بإحكام، وشرع يُقلِّب الكتب المتراكمة على طاولة طعامه، في محاولة للاندماج في بحثه.

طوال حياته، ظل يحرص على تدريب نفسه بالمشي قرب الحائط. وحيد أمّه التي تركها رجلها في عزّ صباها، بعد أن وجدوا جثته تحت ركام حجارة الكسّارة التي كان يعمل فيها. استجاب الفتى اليتيم للنصائح المُبكرة للمرأة التي ترمّلت قبل الأوان. لم يحمل حجرًا في حروب أولاد القرية الطائشين. لم ينتظم يومًا في حزبٍ سياسيّ أو تنظيمٍ يمارس الكفاح المسلح. لم تُغوِه أفكار اليمين ولا اليسار في الثانوية. لم يشارك زملاء الجامعة في حوارات السياسة أو الأحاديث التي تستفيض في استعراض فتنة الأنثى في الشّارع أو السّرير. ولم يختلف مع أحدٍ حول نواقض الوضوء، فقد أراح نفسه ووافق عليها جميعها بلا تردُّد. وقد ترسّخت لديه قناعة لا تلين بالشّعار الذي رددته له السّيدة الوالدة آلاف المرات من دون أن يقول لها أفٍّ: ألف عين تبكي ولا عين أمي تذرف دمعة واحدة!

لم يَبدُ مهمومًا إلا بدراسته.. بإنجازه الذي يردفه دائمًا بإنجاز أكبر. وهو الآن، في هذه الأيام المفتوحة على كل الاحتمالات، بعد أيام من غياب الزّعيم، يحاول الانخراط في كتابة أطروحته في التاريخ القديم.

لقد أقنع نفسه، بعد أن حدث ما حدث في ذلك اليوم، بأن حدود الماضي والحاضر والمستقبل تكمن في حدود بيته، فما عليه إلا أن يَسير بثباتٍ على الخطة التي وضعها لإنجاز ما جاء إلى هنا لإنجازه: شهادة الدكتوراه. فما شأنه هو بما يجري حوله الآن من أحداث؟!

قبل أن يتمكّن في الصّباح المبكر لتلك اللّيلة من طرد النّعاس عن عينيه، وقبل أن يصل إلى باب الشّقة ويفتحه للطّارقين الغلاظ، كان زوار الفجر قد حطّموا الباب واندفعوا بحركةٍ اقتحامية غايتها زرع الرُّعب والفزع في قلب رجلٍ ظلّ يعتريه الفزع، مع أنه كان حريصًا على أن يتوارى دائمًا عن كل العيون.

غير أن عيونهم كانت له بالمرصاد..

والجيران الذين استيقظوا في الفجر المُبكّر، لم يندموا على يقظتهم. فقد رأوا جارهم الغريب، الخجول، الصّامت، المثير للأسئلة المُعلنة والخفيّة، وهو يُساق مخفورًا، مطأطئ الرّأس، في قبضات عددٍ من رجال الأمن بملابسهم المدنيّة. وقد ردّد بعض الجيران همسًا، في آذان بعضهم بعضًا، أن هذا المشهد سيكون البداية التي ستميط اللّثام، في أيامٍ قليلة، عن أسرار الغموض في تلك الشّخصية العصيّة على الفهم، لجارهم الغريب. وما عليهم إلا أن يواظبوا، بعد الآن، على قراءة الصّحُف حتى يعرفوا المزيد عنه، وعن دوره في المؤامرة التي استهدفت الزّعيم.

لكن الرّجل سرعان ما خيّب آمال ساكني العمارة، سواء أولئك الذين عدُّوه بطلًا، أو الآخرين الذين عدُّوه متآمرًا وأعلنوا، بشكلٍ أو بآخر، عن شماتتهم لمرآه مذلًّا مُهانًا، يسير مطأطئًا ومعصميه في الأصفاد. فقد رأته الحارة بعد أيامٍ ثلاثة من غيابه، عائدًا من المكان المجهول الذي اقتادوه إليه في ذلك الفجر القريب.

كان أوّل ما فعله الرجل فور وصوله البيت، أن أسرع إلى فتح النّوافذ على مصراعيها. وعندما غادر بيته، حرص على أن يترك باب الشقة خلفه مُشرّعًا، متيحًا لأشعة الشمس التدفقَ لتغمر المكان بكل طاقتها، بضوئها وشعاعها، وللهواء العليل ليعبر الزّوايا ويكتسح كل الأرجاء المنسيّة.

هبط إلى الشارع بخطواتٍ بدت له واثقة، قاصدًا أقرب مطعمٍ في الحيّ. تناول طعامه هناك بشهيّة ونهمٍ لافتين، في حين ظلّت العيون تتداوله باستهجان. أحس بالألسن تتهامس بشأنه، لكن ذلك لم يعنِ له شيئًا. كان يودّ أن يطرح عليه أحدٌ من الحاضرين سؤالًا حول أسباب اعتقاله، والذي سيقود بالتأكيد إلى الحديث عن أسباب إطلاق سراحه. غير أن أحدًا لم يفعل ذلك!

وللمرة الأولى منذ أن سكن الحارة، وبقرارٍ لم يتردّد في اتخاذه، قاد قدميه ليتوجّه إلى المقهى. طلب شايًا داكنًا وشيشة بمعسِّل التُفاح. انتبه إلى الدّهشة المُطلّة من العيون التي ترقبه. كان يتمنّى لو أن أحدًا من الحاضرين يطرح عليه السّؤال، لكنه أنهى تدخين الشّيشة من دون أن يبادر أحدهم إلى ذلك.

لا يدري لماذا كان يتمنى أن يُطرح عليه السؤال، مع أن التحقيق معه لم يكُن قد ذهب إلى أبعد من تلك الأسئلة السّاذجة التي يطرحها المحققون: هل تنتمي أو انتميت إلى حزبٍ سياسي أو تنظيمٍ عسكري.. هنا أو في بلدك.. هناك؟! هل تُجيد استخدام السلاح؟! هل تعرف أحدًا من الجماعات الإسلامية في الجامعة؟! هل اقترح عليك أحدهم الانضمام إلى تنظيم؟! هل…؟!

لكن السّؤال الذي سقط عليه مثل حجرٍ كبيرٍ ولم يكُن يتوقعه، مع أن كل أسباب اعتقاله كانت تكمن فيه:

– إذًا لماذا حرصتَ على أن تتوارى عن الأنظار طوال الأيام الماضية، ولم تُغادر بيتك منذ مقتل الزّعيم؟!

مع أن السؤال داهمه من دون توقع، وعلى الرغم من إجابته الساذجة والمرتبكة، فقد أطلقوا سراحه، بعد أن تيقّنوا من أنّ الرّجل لم يُطلق سراح نفسه في يومٍ من الأيام.

الشيء المؤكد، الذي أعرفه عن مصيره بعد ذلك، أنه قد عاد إلى قريته القريبة من رام الله المُحتلة بعد أيام من ذلك اليوم البعيد، من غير أن يستكمل رسالة الدكتوراة، وأنه يقبع الآن في سجنه الذي يقضي فيه الحكم الصادر بحقه، بعد أن اتخذ قراره بالتوقّف عن المشي في ظل الحائط: ثلاثة مؤبدات وبضع عشرات من السنين، وأن هذا الأمر حدث بعد ذلك اليوم الذي جاءت فيه سيارات «الجيب» العسكريّة الإسرائيليّة، التي هبط منها جنود غلاظ ظلوا يصوّبون رشاشاتهم نحو رأسه، بعد أن انتزعوه من فراشه واقتادوه إلى مكان مجهول؟!

لا أعرف الكثير عن الأسباب التي أوصلته إلى السجن.

كل ما أعرفه، هو أن عيون أمه ما زالت تذرف دمعًا غزيرًا على وحيدها.. دمعًا لم ينقطع منذ ذلك اليوم البعيد، وحتى الآن!

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة