22 ديسمبر، 2024 3:55 م

غياب السياسات الثقافية وأثرها على المسرح المصري

غياب السياسات الثقافية وأثرها على المسرح المصري

خاص: بقلم- محسن الميرغني:

( 1 )

السياسة الثقافية في أبسط تعريفاتها “نظام مسبَّق من التخطيط لأفكار وتصورات، مبنية على بيانات ومعلومات مدروسة ومحققة، لتنفيذ أهداف واقعية قابلة للقياس، يتم تنفيذها من أجل سد احتياجات وحل مشكلات قائمة، تحديدًا في مجال الثقافة والفنون اتفاقًا على أن مفهوم الثقافة الحديث ينظر إلى الثقافة بمعناها الواسع على أنها تمُّثل جميع السِمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية التي تمَّيز مجتمع من المجتمعات، وتتجسد فيها النظم والعادات والتقاليد والمعتقدات وطرائق الحياة، وما يبدعونه من فنون وآداب ومعارف، وكذلك ما يتمتعون به من حقوق”.

في ضوء هذه الرؤية الواسعة لماهية ومفهوم الثقافة ودورها في المجتمع، تتحدّد أهمية وفلسفة العمل الثقافي والفني في الدوائر العامة والخاصة للمجتمع المَّعاصر، ويتأسس الإطار النظري الذي يُمهد لوضع خطط السياسات بشكل مفصل ودقيق في مختلف مجالات العمل الثقافي، ويربطها ببقية حقول العمل ومجالات الحياة اليومية الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي ينبغي أن تتضافر وتتفاعل من أجل الدفع بمسار التنمية المرجوة للمجتمع والدولة، نحو تقدم مادي واقعي ملموس، وليس مجرد شعارات قولية أو شفاهية لا يمكن تطبيقها عمليًا.

والمفترض في نظام السياسات أو الخطط المسَّبقه وما يشمله من تصورات وإجراءات أن يحظى بقدرٍ من المرونة اللازمة لتوجيه الأنشطة والمشروعات محل التنفيذ، بصورة دائمة ومستمرة ومنتظمة خلال مراحلها المختلفة.

فإذا لم يهتم أو ينتبه صانع السياسة الثقافية إلى وجود مجموعة من العوامل والمتَّغيرات التي تتبدل خلال فترات ومراحل تنفيذ المشروعات والأنشطة الفنية والثقافية، سيواجه مشكلة التعطل أو التوقف عن الاستمرار والمَّضي قدمًا في تنفيذ خطته المسَّبقة أو سياسته الثقافية.

في مجال الإدارة الثقافية يُشكل نقص المعلومات والبيانات الخاصة بالمعطيات اللوجيستية والبُنيات المادية للمشروعات الثقافية والفنية – هذا بالإضافة لنقص المعلومات الخاصة بالقوى البشرية الممكنة والمتاحة – أحد أبرز المشكلات الوجودية، إذ يتوقف على وجود المعلومات وإتاحتها عملية بناء الخطة أو السياسة ومدى صحة توجهاتها ورؤيتها، وبالتالي تُصبح عملية الجهل بالمعلومات الرئيسة والبيانات العامة والخاصة بالمشروعات والأنشطة الإبداعية والفنية، أحد أهم أسباب القصور ومحفزات التعطل أو التوقف وربمَّا التراجع النهائي عن تنفيذ الخطط والسياسات من قبِل صناع القرار والفاعلين الثقافيين (الفنانين والفنيين) في أرض الواقع.

إذ تفقد السياسات التي تم وضعها قُدرتها على تحقيق أقصى استفاده بأقل تكلفة ممكنة، نتيجة لفقد وغياب عنَّصر هام ورئيس من عوامل تسّيير حركة العمل والإبداع، وهو عنصر البيانات والمعلومات الذي يُساعد على توفير المعرفة المطلوبة، وكذا يسمح بإتاحة المرونة اللازمة لصانع القرار ومتخذه وفاعله على الأرض في مواجهة كافة التغيرات الممكنة أثناء تنفيذ الخطة. إذ من الضروري أن تنسجم خطة أو سياسة العمل الثقافي والفني مع معطيات الواقع المَّعاصر ومتغيَّراته السريعة والمتلاحقة.

وعندما يتم الحصول على مخَّصصات مالية لدعم فعاليات فنية أو ثقافية بصفةٍ رسمية من موارد الخزينة العامة مثل تقديم مزايا وتسهيلات في توفير الموارد اللوجيستية (أماكن – وسائل انتقال – معدات وتجهيزات فنية.. إلخ) تكون هذه محاولة من الممول (وهو هنا الدولة) لتفعيل دورها المؤسسي عبر إتاحة خدمات ثقافية وفنية غير ربحية، لكافة المواطنين وليس فقط لفئات مستهدفة بشكلٍ خاص ومحدود الأثر من كل فعالية فنية أو ثقافية عامة.

وبالتالي ينبغي إدارة هذه الفعاليات بهدف توجيه الخدمات المدعومة حكوميًا بأسلوب منَّظم وموجَّه فمن أبسط مباديء نظرية الإدارة “ضرورة فهم الإدارة كنظام مفتوح للمدخلات – التحويلات – المخرجات – العائد”.

وتُمثل الخطط المسبَّقة (السياسات) والاستراتيجيات المدروسة المُعلنة، وكذلك المعدات والتجهيزات اللوجيستية وأماكن الإقامة وبرامج تنفيذ الفعاليات (المدخلات) وتُمثل عمليات التنظيم والإدارة التنفيذية (التحويلات)، وتُمثل العروض واللقاءات والندوات والمشاركات (المخرجات)، بينما يُمثل العائد الأثر (الكمي-الكيفي) الناتج عن هذه الفعاليات الفنية.

( 2 )

في مصر لا يمَّكننا أبدًا تحديد وقياس العائد الفعلي كميًا أو كيفيًا لمنتَّج ثقافي، بسبب غياب التخطيط المسبَّق المُعلن (السياسة الثقافية)، على الرُغم من ادعاءات مستمرة من كثيرين بين القائمين على إدارة العمل الثقافي والفني بضرورة الأخذ بالمنهج العلمي في إدارة المشروعات والفعاليات والبرامج الثقافية والفنية، لكن ما يحدث في تنفيذ هذه الممارسات العامة هو ضرب من الفوضى المخفية عن أية مراقبة مشروعة من الجهات والأفراد على حدٍ سواء. وسوف أتحدث هنا بشكلٍ محدَّد عن نشاط المسرح ومؤسسته الأولى (البيت الفني للمسرح)، والتي يُفترض فيها أن تكون واجهة هذا الفن في بلدٍ كبير كمصر.

فنحنُ الآن وبعد مرور قُرابة خمسة عشر عامًا على قيام ثورة يناير المصرية في 2011م. لازالنا في نفس الأحوال التي ثُرنّا عليها شعبًا وأفرادًا – إن لم نكنَّ بحالٍ أسوأ – من التدهور والانهيار وتردي المستوى الفني والمعرفي المستمر، الذي لا يتوقف بسبب عدم استقرار الوضع السياسي والاقتصادي في البلاد، وسقوطنا جميعًا في هوة عميقة من فقدان اليقين في مؤسسات الدولة وقُدراتها على التخطيط المسبَّق والتنفيذ، وإمكانية إصلاح أوضاعها المتراجعة، والتي تتبدى ملامحها في غياب الشفافية الخاصة بالإعلان الواضح والصريح عن الخطة العامة للإنتاج الفني المسرحي، وميزانيات الإنتاج وخطط إنفاقها، مع عدم توقف النزف الدائم والمستمر في رصيد المخزون التاريخي للصدراة الفنية والثقافية، وهو رصيد معنوي لا مادي يمكن استثماره ماليًا وماديًا وفق معايير علمية، وليست مجرد عنعنات أو تفاهات قول يردَّدها العجائز والشباب المتحمس على المقاهي أو في الجلسات الخاصة، بأن تاريخنا هو الأسبق والأكثر والأعمق أثرًا في ثقافة المنطقة العربية والإفريقية، بالإضافة إلى استمرار الإهدار المتَّعمد لكافة الموارد البشرية والمواهب الإنسانية، في ظل حضور طاغٍ للمعضلة المالية والمادية وتصدَّرها للمشهد اليومي الراهن، باعتبارها فتيل الأزمة على حساب بقية أقسام العملية الإنتاجية والفنية للعمل المسرحي المصري.

هذا ويمكن القول بملء الفم أننا – وحتى تاريخ كتابة هذه السطور – لا نستطيع قياس أثر الفعاليات الثقافية والفنية في مصر (تحديدًا الخطة الإنتاجية المسرحية للبيت الفني للمسرح وعروضه الفنية التي يستدعى لها أهل الثقة والولاء لا أهل الكفاءة والإتقان في ظل وجود تُراث طويل وقديم ممتد في الزمن من المحسوبية والمحاباة والشللية في قلب العملية الإنتاجية)، وهو ما يُعتبر أول المعوقات التي تمنع تحديد نقطة البداية والانتهاء من تنفيذ خطة لمؤسسة، تحصل على دعم حكومي من أموال الدولة الرسمية، وتقدم أعمال فنية وثقافية باعتبارها خدمة غير ربحية ؟، حيث تُصبح المسألة شديدة الخصوصية وتدَّار وفق أهواء المحاسيب وأصحاب المصالح، وبالتالي لا يمُكننا تحديد النتائج المترتبة على وجود هذه الإسهامات، أو الاستفاده منها في الحاضر أو المستقبل (بحثيًا وفنيًا)، أو حتى التأكد من حقيقة وصول تلك الخدمة الفنية أو الثقافية غير الهادفة للربح، لمستَّحقيها من المواطنين المصريين بشكلٍ كمي رقمي (بيومتري) واضح، يسهل قياسه والتعرف عليه لتحديد معيار نجاح الفعالية الفنية أو إخفاقها ؟ والمؤشرات العامة الظاهرة لحالة المسرح المصري تؤكد دخول قاطرة فن المسرحي المصري إلى نفق مظلم، يعلم الله وحده متى يمكن أن يخرج منها، فالبيت الفني للمسرح المؤسسة الأولى في أجهزة الدولة المصرية المنوط بها إنتاج وتنمية وتنشيط هذا الفن في كافة مناطق وربوع جمهورية مصر العربية، يفقد قدراته وأراضيه ومسارحه والتي تُمثل إمكاناته الأولية بشكلٍ تدريجي شبه حتمي، ويتراجع عن كونه مؤسسة ثقافية فاعله تحرك بوصلة الاتجاه للمسرحيين المصريين، ويقترب بخُطى حثيثه من تحوله إلى مجرد مبنى إداري هامشي تابع لوزارة الثقافة، يسعى موظفوه الإداريين منهم والفنانين للحصول على مرتباتهم ومكافآتهم المالية دون أي عمل أو مجهود يبُذل من أجل تحقيق عائد ثقافي أو فني ذو أثر تجاه المجتمع المصري بكافة أطيافه، وإن كنا لا ننكر أن فكرة الثقافة كعمل عام يهتم بالفكر والفن قد فقدت – أو تم إفقادها عن عمد من قبل عوامل خارجية وداخلية – هدفها الرئيس المعلن والمتوارث منذ عقد الستينيات من القرن العشرين وحتى اللحظة الراهنة، وهو ما تزال تُعلنه وزارة الثقافة ضمن محتوى رسالتها المنشور على موقعها الإليكتروني: السعي إلى تغيير الواقع الإنساني للأفضل، من خلال تغيير الفكر والممارسات الفاسدة والعادات البالية والتقاليد الموروثة في المجتمع، ليس عن طريق طمسها أو محوها أو نفيها بشكلٍ تعسفي قهري، ولكن عبر عمليات الفرز والترتيب وإعادة الطرح العلمي والمنهجي والفني للمشكلات الجمالية والفنية والمجتمعية.

وفي نهاية هذه السطور ينبغي التأكيد على أن كاتب هذه السطور لا يتهم أحدًا بعينه، فتحديد الأسماء والأشخاص سيحول المسألة لمشادة كلامية وشخصية، تنضح باتهامات متبادلة، والأولى لنا الآن أن نجتمع ونتفق مع كثيرين من الزملاء والأساتذة الأفاضل الذين أفنوا أعمارهم – ولازالوا مستمرين في إفناءها – وراء سراب العمل في مؤسسة المسرح المصري بهدف ممارسة الفن والإبداع، وإفادة الناس وتنويرهم فعلًا، من أجل التركيز والعمل على إعادة النظر في موقع ومكانة المسرح المصري بين مختلف الأنشطة والمجالات الفنية والأدبية المصرية الأخرى والتي يمكن استثمارها من أجل تحقيق عائد مالي ومعنوي يصلح ما أفسدته أيادي الإفساد والتخريب.

وفي ظني أن السؤال الأهم الذي يبرز أمامنا في هذه اللحظة، وينبغي أن يُطرح للنقاش العام بين كل المسرحيين المصريين هو:

كيف يمكننا الخروج من هذه الحالة المتردية التي وصلنا إليها ؟

وهو ما سيدفعنا جميعًا للبحث عن حلول وإجابات لأزمتنا الراهنة الممتدة والمستمرة.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة