6 مارس، 2024 4:50 ص
Search
Close this search box.

عيسى الحلو.. يرى أن النص الأدبي لابد وأن يقترح عوالم جديدة

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“عيسى الحلو” قاص وروائي وكاتب صحفي سوداني.

حياته..

ولد “عيسى الحلو” بمدينة “كوستي” في 1944 ونال دبلوم التربية ب”بخت الرضا” في 1971، وعمل منذ شبابه بالصحافة، وخاصة الصحافة الثقافية وعرف في الأوساط الثقافية والصحفية بالنجاح في الإشراف على الملاحق الثقافية بالصحف اليومية، وكان يكتب الأدب مع عمله في الصحافة الثقافية والنقد الأدبي.

عمل رئيسا بالقسم الثقافي بصحيفة “الأيام السودانية” في 1976، ثم بصحيفة “السياسة والرأي العام والصحافة”، ثم رئيسا لتحرير “مجلة الخرطوم” التي كان يصدرها المجلس القومي للثقافة والفنون بالسودان. ثم رئاسته القسم الثقافي بصحيفة “الرأي العام” وكان يكتب مقال أدبي نقدي دوري في صحيفة “الرأي العام” تحت عنوان (ديالكتيك).

أعماله..

نشر “عيسى الحلو” العديد من الروايات والمجموعات القصصية:

  • ريش الببغاء، مجموعة قصصية عن دار الحياة، بيروت، 1963.
  • الوهم، مجموعة قصصية، 1971.
  • حمّى الفوضى والتماسك، رواية، 1972.
  • وردة حمراء من أجل مريم، مجموعة قصصية، عن دار مدلايت بلندن.
  • صباح الخير أيها الوجه اللامرئي الجميل، رواية، عن الدار الأكاديمية بالخرطوم.
  • قيامة الجسد، مجموعة قصصية، عن الدار السودانية للكتب، 2005 .
  • عجوز فوق الأرجوحة، مجموعة قصصية، دار مدارك للنشر، 2010.

وله ثلاث روايات نشرت بالصحف السودانية:

  • مداخل العصافير إلى الحدائق، صحيفة الأيام- 1976.
  • الجنة بأعلى التل- صحيفة الأيام- 1978.
  • البرتقالة- صحيفة الصحافة- 1971.

مجموعته القصصية “ريش الببغاء” كانت أول أعماله وصدرت في 1963 وقد أعتبرها النقاد تجربة مغايرة في المشهد السردي السّائد حيث بشرت بمولد كاتب برؤية مختلفة. وفي عامه الرابع والسبعين احتفل بمرور 50 عاما من السرد.

فن الرواية..

في حوار معه أجراه ” إيماض بدوي- حاتم الكناني” يقول “عيسى الحلو” عن من هو الروائي: “قبل ذلك علينا أن نسأل عن الرواية السودانية، ولماذا هي ضعيفة؟ ميلان كونديرا لديه كتاب مهم جدَّاً (فن الرواية)، وذكر أن “الرواية تُنتَج في المجتمعات المُتحضِّرة”، وأرى أن السبب أننا في موقف حضاري مُتخلِّف. أذكر أن الطيب صالح في حوار أجريته معه في 1976 ذكر أنه لو لم يهاجر إلى خارج السودان لكان كاتب يوميات في الصفحات الأخيرة بالصحف المحلية. أقول إن الكاتب الروائي السوداني المبتدئ لا يمتلك تجربة وجودية عميقة، تُؤهِّلُه لكتابة مادَّة روائية جديرة بالقراءة وتجده لا يعرف نظرية الرواية مثلاً.

في الفكر الإنساني لا يوجد من يمتلك الإجابة الكاملة، ولكنها إجابات تتحول إلى أسئلة.. والتفكير السليم يتم بأن ننظر في القضايا ونبلورها ونصوغها في شكل أسئلة عميقة جديرة بالإجابة، فكلما تعدَّدت الإجابات تعمقت الرؤية، وكلما تقلَّصت المساحة ينغلق الأفق ولا نستطيع الرؤية.. كونديرا في فن الرواية قال إن الفكر الفلسفي بأوروبا أنتج الرواية الأوروبية، وهي الأنموذج الذي قامت عليه الرواية في كل العالم، وكل ثقافة قومية (غير أوروبية)، تُحاول أن تُكيِّف الشكل الروائي بناءً على ثقافتها على الشكل الروائي الذي أنتجته أوروبا. في العام 1963 عُقِدَ مؤتمرٌ في هفانا في كوبا حضره كُلُّ روائيِّي العالم وكانوا يتكلَّمون عن ضعف الرواية الأوروبية، وكانوا يعتقدون أن الحل يمكن أن يكون لدى العالم الثالث الذي ربما يُنتج ويُضيف تجربته إلى الرواية. وقالوا إن الضعف جاء نتيجة إلى أن الطبقة الوسطى التي صنعت الرواية تلاشت أو ضعفت.

بعدها انفجرت بعد هذا المؤتمر الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية وقدَّم العالم الثالث أحد نماذج روايته. الآن نحن في عالم تتقدم فيه العلوم والصناعة والكشوفات، والنوافذ مفتوحة على عوالم متعددة ومترادفة ومتوازية ومتداخلة ومتناقضة، وهذا  يحتاج مِنَّا إلى قدرات عالية جداً، ووعيٍ مُتقدِّم ودراية بجماليات الرواية وفنها، ويحتاج إلى مُجتمعٍ يستطيع أن يستهلك مادةً مشغولةً بعُمقٍ، ومُستوعبٍ لتلك الجماليات. للأسف الشديد مُستهلك الثقافة لدينا يُريد الترفيه، لذا لا بدَّ أن يُغيِّر المتلقي وعيه ويصل إلى وعي يكتشف به الأسئلة الصحيحة، وأن يخرج من أُميَّته الجماليَّة والمعرفيَّة”.

وعن روايته (عجوز فوق الأرجوحة) وسؤال الأنا والآخر يقول: “يبدو أن ذلك كان نتاج عقدة ولَّدتها تجربتي مع مجموعة (ريش الببغاء)، التي أصدرتها إذ إن قراءاتي كانت محدودة ولم تتعدَّ الأحاجي والسينما، ورغم أن كثيراً من النقاد رحبوا بـ (ريش الببغاء)، إلا أنني اكتشفت أنهم كانوا يُصفُّون خلافتهم، فهناك مجموعات قصصية أخرى صدرت في ذلك الوقت، وأصحابها في تيارات سياسية مُختلفة، وسرعان ما أدركت أن الثناء عليّ كان نوعاً من المكايدات العاطفية والسياسية.. هذا الأمر جعلني مُهتمَّاً بالشكل الجمالي وصار ذلك أحد هواجسي. إن النص في نظري لا بد أن يقترح عوالم جديدة، حتى إن لم يصل إلى طموح جماليٍّ عالٍ؛ وهذا ما ظلَّ يُؤثِّر عليَّ في الكتابة. كتبت ستَّ رواياتٍ من قبل، ورفضتُ نشرها في كتاب رغم ثناء الكثيرين عليها”.

عالم ضيق..

وعن قلة إنتاج الكاتب السوداني الأدبي يقول: “عالم الكاتب السوداني ضيق جداً.. لم يكتب أحدٌ رواية عن حرب الجنوب.. مثلاً.. حياة المجتمع السوداني منذ الاستقلال حتى الآن لم تحدث فيها متغيرات كبيرة.. ببساطة حدثت انتفاضاتان.. وبعدها انفصل الجنوب بأبسط ما يكون.. الصعوبات التي تواجه الكاتب السوداني ناتجة عن أن حياتنا ليس فيها شيء ذو شأن..

الآن أحس أنني أكتب بنوع من (الفهلوة).. ليس لدينا كُكتَّاب سوادنيِّين ما نقوله عن هذه الحياة السودانية الفقيرة.. فلكَيْ نلتقي هناك الكثير من المعوقات التي تبدو صغيرة كانعدام المواصلات مثلاً.. كيف سنكتب روايةً في ظل فقر حياتنا؟ الطيب صالح لولا أنه جاء في هذا العصر (ما بعد الاستعمار) لما كتب تلك الرواية البديعة (موسم الهجرة إلى الشمال) التي أجاب فيها عن أسئلة ما بعد الاستعمار التي وجدها جاهزة ليجيب عنها، رغم أن كثيرين غضبوا علي عندما قلت إن الطيب صالح سقف الرواية..

والكاتب السوداني يُكرِّر نفسه وعمله.. وكل الكتاب في العالم يكررون تجاربهم ولكن لأسباب غير هذا السبب، فالقضايا التي يتناولها أي كاتب هي ليست أكثر من قضيتين أو ثلاث، فإذا تفحصنا روايات نجيب محفوظ سنرى أن شخصياته لا تتعدى الفتوة والشرطة والمومس.. وتينسي ويليامز قضيته جنوب الميسسبي.. وماركيز لا يخرج عن صراع الواقع والمجاز”.

وعن كيف يرى نفسه كاتباً مُفكِّراً يقول: “الكاتب يكتب عن همومه وانشغالاته.. لماذا أكتب؟ أكتب لأني أريد إجابة.. أكتب لأجيب عن هذا المجهول.. الكتابة بحث عن أشياء لا أعرفها.. ولو كنت عارفاً فلماذا أكتب؟!.. الأسئلة التي ذكرها سارتر في الأدب الملتزم أسئلة أساسية واعتمد عليها النقد المعاصر: لماذا نكتب؟ وكيف نكتب؟ ولمن نكتب؟”.

وعن المعايير التي تجعل الكتابة عالمية يقول: “معاييرها هي إنسانيتها.. قال عجوز ألماني إنه عندما قرأ (دومة ود حامد) أحس بها رغم أنها قرية مجهولة في إفريقيا.. كلنا الآن نقرأ ديستوفسكي وماركيز ونحس بعوالمها تماماً.. رغم اختلاف الثقافات والبيئة واللغة.

نحن لسنا صفحة بيضاء لكل من أراد أن يطبع فيها ما شاء.. بيدينا غربال النقد..  في الستينيات راجت عن مجلة حوار علاقتها بالمخابرات الأمريكية فتوقف العديد من الكُتَّاب عن الكتابة فيها.. كل هذه الخدع ستنكشف”.

حرية الكاتب..

وعن الحرية والكاتب وسط سلطات اجتماعية وسياسية يقول: “الحرية هي ليست الفوضى.. الإنسان مشروط بالحرية. الحرية تبحث عن الهوية الثقافية والكونية.. لا أحد يريد أن يفقد هويته.. نعم هو يستطيع أن يختار هوية أخرى. ولكنه يفقد ذاتيته ولا يتعرف على وجهه الخاص.. إنه يضيع”.

كارثة مفاجئة..

وفي حوار ثان أجراه معه الشاعر “محمدَ نجيب محمد علي” يقول عيسى الحلو عن “كوفيد 19”: “كوفيد الذي أصاب العالم ككارثة مفاجئة من أقصاه لأدناه حيث وضع الإنسان والكون أمام المجهول, وواجه الإنسان مصيره كاملاً فجأة وأصبح أمام هذا المصير فتجسد الموت وتحول من اللامرئي إلى المرئي . وهكذا واجه الإنسان لأول مرة الموت الذي أخذ يمشي بصحبته في الطرقات.

هي تراجيديا عصرنا الحديث وهنا نقف لنقارن الأحداث الدرامية الكبيرة طوال العصور القديمة والحديثة لنجد أن الكارثة هنا في عصرنا هذا أشد وطأة وثقلا، حينما صدم إنسان هذا العصر وشلت قدراته تماما، لقد واجه هذا الإنسان الحرب العالمية الثانية التي دمرت قرى آمنة في اليابان (هيروشيما) و(نجزاكي) إلي جانب كوارث النازية في أوروبا, هذه الحرب التي شنت علي دول غرب أوروبا وشرقها وصورت محرقة الهولوكست في رواية “الساعة الخامسة والعشرون” للروماني “غسطنطين جورجيو”.

وصلت إفريقيا حتى سواحل البحر المتوسط حيث جالت وصالت جيوش روميل كانت الإلياذة والأوديسة جزء من رؤية إنسانية شاملة لأحزان الإنسان وأفراحه ومعبرة عن كينونته ومصيره, هكذا كانت تتدفق الثقافة الإنسانية من الفكر الإغريقي القديم والروماني وصولا إلى العصور الوسطى التي أوصلت هذه الثقافة إلى طرفها الآخر مكونة الثقافة الأوربية المعاصرة، ثم جاء عصر التحول الثقافي الكبير في القرن السابع عشر الميلادي وكانت أوروبا في هذا الوقت قد عرفت فكرا جديدا واكتشفت العلم التجريبي.

وصدق الإنسان في العصر أنه داخل هذه المختبرات يستطيع أن يجد كل الإجابات للأسئلة الصعبة التي تدور في هذا الفضاء، واغترت الدول الكبرى الغنية التي اخترعت القاطرة والأسلحة الثقيلة والذرية والهيدروجينية واخترعت الاستعمار السياسي والسيطرة على الدول الصغيرة في العالم الثالث.

وأَخذ العالم الثالث وهو مبهور بما أنجزه عصر العلوم والأنوار حين نهضت الولايات الأمريكية المتحدة ومعها رصيفتها أوروبا لتدير شئون كل العالم فى سيطرة أقرب ما تكون إلى البلطجة، وفيما بعد أخذت أمريكا تفرض على فلسطين ظلما حينما تأخذ الأراضي وتعطيها لإسرائيل، وهاهي اللحظة الحاسمة التي دخلت فيها كوفيد 19 إلى هذا المشهد وبذا استطاع هذا الفضاء العجيب أن يصور محنة الإنسان المحاصر، وأن يختلط المشهد بما أسمته أمريكا بمفاجأة العصر(صفقة القرن) التي تداخلت وتكاتفت فيها قوي التدمير وهكذا اشتركت كل عناصر الكارثة الطبيعية البيئية، بالمخططات السياسية وبانحراف الفكر السياسي والخيال الثقافي بقصص وحكايات تشبه قصص الخيال العلمي، وهكذا أخذ العالم يتأرجح فوق مراجيح اللامسمي واللامعقول واختفت الإجابات علي الأسئلة في أفق المجهول”.

الأجيال الأدبية..

في حوار ثالث أجرته معه صحيفة “الاتحاد” يقول “عيسى الحلو” عن المجايلة أنه ضد تقسيم التاريخ الأدبي إلى أجيال أو مراحل، لأننا بذلك نقوم بتقسيم الدراسة كما لو كنا نقتطع قطعة حية من جسم كامل لندرسها تحت الميكرسكوب، إذ أن اقتطاعها لا يعني عزلتها عن باقي الجسم، ولكننا فقط نركز لندرس خصائصها الخاصة في علاقتها مع العامة.

ويرى أن الضعف الملحوظ في صناعة الكتاب في السودان يصيب التوثيق بمقتل، ويسجل موقفه ضد حصر إبداع الكاتب في رواية دون غيرها، لأن طريقة التلقي الجمالي تتنوع عند القراء، فهذا قد تعجبه هذه الرواية دون تلك، ولا يعتبر الحلو ذلك قياسا “حتى النقاد المتخصصون قد يذهبون في تقويمهم لأعمال كاتب ما بمقياس المفاضلة” ويشير إلى أن ذلك يجب أن لا يؤثر على الكاتب، لأن قيمة الكاتب ليست في كثرة ما ينتجه، إنما في جودة هذا الإنتاج.

وفاته..

توفى “عيسى الحلو” الاثنين 5 يوليو 2021، في أحد مشافي آسيا ب”أم درمان”، بعد صراع مع المرض عن عمر يناهز 77 عاما.

قصة قصـيرة ل “عيسى الحلو”..

عجوزان فوق الشجرة..

كانا معاً العجوز رضية.. والعجوز معتصم، يقفان جنبا إلى جنب خلف النافذة ومنها جنباً كانا ينظران إلى الحديقة.

كان المساء يضفي لونه الرمادي على الفضاء ويلون الخضرة كلها بلون أغبش خفيف فكانت الحديقة كلها تذوب في المساء، أما السماء الغربية فكانت تكتسي بألوان حمراء وصفراء وبرتقالية وتتلاشى الألوان في بطء تمهد لليل لأن يدخل في المشهد المتسع الأفق.

وفي وسط الحديقة تزهر شجرة التين فوق شجرة التين هبط عصفوران متعبان ونظرت رضية إلى أسفل فكانت الأرض مخضرة العشب ونظر معتصم كانت الأوراق الذابلة تتساقط وتطفو فوق الماء الذي يغمر العشب نظرت رضية اختلجت الأجنحة تهم بالطيران . ربما سيرحلان معا من جديد ورأي معتصم ذات الاختلاجات إذا سيرحلان في اتجاهين متعاكسين نظرت رضية.. ربما هما سيطيران معا وفي اتجاه واحد.

انطلق العصفوران دارا دورة واحدة حول شجرة التين ثم اختفيا في طيران عال وغابا في قلب الليل.

في الأيام الأولى في بدايات قصتهما كانت الحياة حولهما يانعة وثمار التين كانت قد بدأت تصنع رحيقها الحلو، وكان العصفوران يغردان معا ويحلقان معا ثم ينزلان على الغصون بعد أن ينال منهما التعب السعيد وبعد هذا الإعياء أخذا يفكران في الراحة كأن يضعا حداً لهذا التوتر وفي الشتاء تزوجا فاستدفئا بالمشاركة وظنا أنهما قد وضعا حداً للقلق.

وفيما بعد في زمن طويل حلقا معا دخلا كل الحدائق اكتشفا تقلبات الحياة، اكتشفا أن الحياة هي دائماً أشياء قليلة أقل مما ينبغي، وكانت الأيام مثل أمواج تذهب وتجيئ تغذيها الشؤون الصغيرة عرفا أنه من الصعب أن تتحمل إنسانا لوقت أطول مما ينبغي، وكانت لمسات الأيدي تفقد دفئها، وتلاشت استيهامات الحب وعدم الصبر يولد الضيق وفي ذاك المساء جاء الضيوف على العشاء ولكن رضية نسيت الأمر كله فتشاجرا وصفع معتصم رضية فكاد الطلاق يقع وقبل النوم تبادلا الاعتذارات.

«أنا لك إلى الأبد» قالت رضية.

«أنا لك إلى الأبد» قال معتصم.

استمرت حياتهما.. وكانت الأيام تكرر نفسها والحياة بينهما مثل ساعة رملية يمتلئ أسفلها بالسأم، فكان يشتري لها عقداً ويقول «هذا لك.. وأنا لك إلى الأبد».. وكانت تشتري له ربطة عنق حريرية وتقول «هذه لك وأنا لك إلى الأبد».

كان الحوار بينهما يدور حينما يتصافيان وتواصل الساعة الرملية عملها، ومن حين لحين كانا يغلبان الساعة رأسا على عقب، لتجدد دورانها لقد كانت توترات الحب بينهما تتجلي في التفاصيل اليومية الصغيرة فهي مكينزمات حتمية أحيانا وأحيانا هي اندفاعات وتوازنات سايكولوجية تعمل في الحفاظ على تماسك علاقتهما، ووسط كل هذا ما كان أحدهما ليعرف هذا الذي يحدث له بالضبط لقد أعيتهما هذه الجهود لكي يحتفظ كل منهما بالآخر.. وبسبب هذا الإعياء.. أخذ كل منهما يفكر في التخلص من الآخر.

في ذاك الصباح أعاد معتصم توصيل أسلاك الكهرباء للغسالة حتى تكهربت الآلة تماماً، ولكنه.. خاف أن تموت رضية بضربة صاعقة مفاجئة كان يسمع أزيز الآلة ورضية تعمل ويداها مغموستان في زبد الصابون.. وقف معتصم إلى جوارها نظرت بطرف عينيها.. وقال بصوت هادئ.. لقد أصلحت العطب.

****

نظرا معاً للعصفورين المعلقين بأعلى شجرة التين توترا سيفترقان في رحلتهما القادمة؟ هل سيظلان معا ليدمر كل منهما الآخر؟

كانا عجوزين رائعين.. متعلقين بالحياة.. ممتلئين بالخوف من الموت.. أن يموت كل منهما علي حدة أو أن يقتل أحدهما الآخر فكان الحب يرتعش مع الأجساد الشائخة المرتعشة، المساء يهبط.. النهار يتقلص مثل ثوب ويخلع نفسه من جسد الوجود، ومن خلف النافذة ينظران معا لهذا التراجع التدريجي للنهار وكان كل منهما يسأل نفسه «هل يمكن لي أن أحب من جديد؟».

في تلك الليلة هبت عاصفة من عواصف شهر يونيو كانت الأبواب والنوافذ تصطفق والتراب الناعم الأحمر ينعقد سحابات فوق رأسي العجوزين، وهما صامتان متقابلان وجها لوجه والعجوز رضية تجلس على مقعدها تضع نظارتها على عينيها وتواصل حياكة وترقيع الملابس القديمة وكاد العجوز معتصم ينفجر من الغيظ إذ أحاطت به الغيمة الترابية ورضية في صمتها ولا مبالاتها وأخذت الأبواب والنوافذ تصطفق إذا لقد انكشف المستور وانتهى كل شئ نعم لقد حافظت رضية على القيام بواجباتها، أن تغسل قدمي معتصم بالماء الدافئ وتعد له مرق اللحم بالخضار وتأتيه بجلباب النوم ولكن شيئاً ما فيها تغير ربما معتصم هو الذي تغير، هكذا كانت منولوجاتها الداخلية تعمل جاهدة في طحن الأفكار.

كانا واقفين جنباً إلى جنب خلف النافذة والحديقة والعصفوران يبذلان قصارى الجهود ليسع المنظر هذه التداعيات..

يقولون أن السأم كالصدأ يأكل كل الأشياء التي يكسوها.. هو شيء من هذا القبيل شيء يحدث خلف النافذة فكاد العصفوران يشعران به فاختلجت الأجنحة وهما بالانطلاق واشتد هبوب العاصفة اشتد اصطفاق النوافذ والأبواب وانقلبت الصورة الفوتوغرافية المعلقة على الحائط انقلبت الصور على وجوهها.

كانت هي خمس صور صورة البنت الكبرى والولد الأوسط و البنت الصغرى، فالولد هاجر إلى الخليج والبنت الصغرى سافرت مع زوجها إلى كندا والبنت الكبرى مع زوجها في أم درمان وهناك صورة لمعتصم وصورة لرضية، عدل معتصم أوضاع الصور وترك صورة رضية مقلوبة منذ تلك الليلة تغيرت حياة العجوزين.

أخذ معتصم يجئ مع الفجر صبغ شعره اشترى قمصاناً جديدة وأخذ يمشي وهو يدندن بلحن مرح. وفي صمت حزمت رضية حقيبتها وذهبت لبنتها في أم درمان.

أقفر البيت المهجور، ذبلت أصص الورد ماتت العصافير في أقفاصها وهرب العصفوران في قلب الليل، وفي خطابات الأولاد المتبادلة كانت القصة تأخذ شكل المهزلة ثم تتبدل إلى قصة رومانسية شيقة.

انطلق العجوزان في سموات واسعة فكان العجوز معتصم دائم الاصطحاب لفتاة سمراء طويلة ورضية شوهدت تركب سيارة كريسيدا حمراء بصحبة شاب، ثم شوهدوا كلهم معا داخل الحديقة العامة كما لو كانوا يلتقون مصادفة.

*****

عندما دلفت رضية إلى الحديقة رأت الأزهار.. والعصافير وجريان الماء المنطلق، كانت الحياة كلها تنطلق، وتحت وطأة الإحساس الجديد اصطنعت لها عادات جديدة فكانت تجلس علي ذاك المقعد الذي يتوسط الحديقة وإلى جانبها صديقها الشاب وفي ذات اللحظة جاء معتصم بصحبة فتاته الطويلة السمراء وجلسا إلى ذات المقعد.. وكانوا كلهم يتحدثون في وقت واحد كانت الأصوات تتداخل وتتوازى وتتقاطع ولا تلتقي أبدا عند نقطة ما وفجأة اشتبك أربعتهم في عراك وعندما صفع الشاب رضية انبرى له معتصم وتدخل رواد الحديقة في فض العراك.

*****

امسك معتصم بذراع رضية وذهبا ملتصقين ورأس رضية يستلقى على صدر معتصم وهي تبكي.

وفي الأيام التالية تظاهر العجوزان بأنهما التقيا في حديقة البلدية لأول مرة فتحابا من جديد وأن ما حدث لهما يحدث فقط لأول مرة وأن ما يتردد هو محض خيال كذوب..

وفي الشهور التالية بدأ في تنفيذ مشروعهما المشترك إذ بنيا مقبرتين جميلتين أحاطا المقبرتين بحديقة ورد في وسطها شجرة تين مذهرة.

وخلف النافذة كانا يقفان جنباً إلى جنب وتنظر رضية للعصفورين ينظر معتصم لشجرة التين.

******

ويهمسان «إننا نمنح نفسينا فرصة أخرى فإن لم يعد هنا وقت فهناك يتسع الوقت».

وفي هذا كله كانا مثل عصفورين معلقين فوق شجرة.. كانا يقفان خلف النافذة ينظران إلى الحديقة فكانت الحديقة تتسع وتتسع لتستوعب المشهد حيث تتدفق منولوجات العجوزين كما الجداول الجارية في فضاءات المساء وترجيعات ارتعاشات الشيخوخة.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب