كتب – هاني رياض :
يعد الاحتفال السنوي برأس السنة البابلية والمعروف باسم “أكيتو”، الذي يصادف يوم 21 آذار فى التقويم الميلادي ويوم 1 نيسان بالتقويم البابلي القمري، واحداً من أقدم الأعياد التاريخية فى بلاد الرافدين.. والذي بدأ فى العصر السومري فى منتصف الألف الثالث قبل الميلاد فى مدينة “اور”، وانتقل إلى كل بلاد بابل وآشور فى نهاية العصر البابلي واستمر حتى القرن الثاني قبل الميلاد، حيث ظل يهيمن دينياً وثقافياً على شعب بلاد الرافدين لأكثر من 2500 عام.
الرمزية الدينية والأهمية الاقتصادية للاحتفال:
تعتمد السنة البابلية على التقويم القمري فى تحديد شهورها، حيث أن يوم 21 آذار يعرف بالانقلاب أو الاعتدال الربيعي، وهو كان معروفاً عند أغلب الحضارات القديمة، فقد عرفه الفرس باسم عيد “النيروز”، وعند المصريين القدماء باسم “شم النسيم”، وترجع بداية الاحتفال به إلى عام “2700 ق.م” ويحتفل به الشعب المصري منذ ما يقرب من خمسة آلاف عام حتى الآن.
ويؤكد الدكتور “حكمت بشير الأسود” فى كتابه “أكيتو – عيد رأس السنة البابلية الآشورية”، على أن إقامة الاحتفال بعيد أكيتو كانت كل عام حسب التوقيت البابلي القمري في الأول من نيسان ابتداء من العصر البابلي القديم، كما كان يحتفل بهذا العيد في بعض الأحيان وبخاصة داخل المدن السومرية مثلاً ورونيبور مرتين في السنة في بداية الربيع وبداية الخريف، وترتبط جذوره بأصل زراعي يتعلق بموسم حصاد الشعير، وأنه كان يقام في أغلب مدن العراق القديم منذ فجر الحضارة وحتى العصر السلوقي وربما إلى زمن أبعد من ذلك.
تشير المدوّنات الأثرية، والألواح المسمارية المحفوظة فى متحف لندن، إلى أن الاحتفال هو اعادة اخراج الاله “نابو” لوالده الاله “مردوخ” من العالم السفلي، الذي كان وفقاً للاسطورة يختفي لمدة يوم أو يومين في جبل يسمى “خرشانو” وهو من أسماء العالم السفلي، وكانت الأهالي قديماً تقوم بمشاهد تمثيلية لإحياء هذه الميثولوجيا بضرب بعضهم حتى يسيل الدماء مثلما سال دماء مردوخ فى العالم السفلي، ثم تبدأ رحلة ابنه “نابو” وزوجته بالبحث عنه خلال اليومين، وعند العودة إلى الحياة مرة أخرى يرجع للمدينة ويقوم الأهالى بالاحتفالات فرحاً برجوعه.
كانت الاحتفالات بـ”أكيتو” قديماً فرصة كبيرة للملك الذي يحاول فرض سيطرته وهيبته على الشعب من خلال استعراض لموكبه الكبير فى شوارع مدينة “بابل” وسط احتفالات شعبية من الأهالي، ولابراز انجازاته العسكرية والإقتصادية وأيضاً الدينية باعتباره ممثل الاله على الأرض، وكانت المعابد تقوم بتوزيع الطعام والشراب عليهم، ويقوم فيها الأهالي بالتعارف وإقامة العلاقات الإجتماعية.
ويضيف دكتور “حكمت الأسود” فى كتابه عن عيد أكيتو، أنه الاحتفال الأكثر أهمية بالنسبة لسكان بابل هو موكب الآلهة، وهو يدور حول المدينة بكل بهرجته.. الآلهة تمثل نفسها مرة في السنة في عرض عظيم أمام الشعب، وكان يسمح فقط للمواطنين من ذوي الامتياز الخاص وحدهم أن يشاركوا بالموكب، أما المواطنون العاديون فكانوا متفرجين وحسب، ولكن هؤلاء المتفرجين ربما كانوا يحاولون لمس تمثال الآله ويمسكون الأطفال المرضى والأشياء الأخرى لكي يتباركوا للسنة القادمة.
كانت لهذه الاحتفالات بجانب دوافعها الدينية والاجتماعية أهداف اقتصادية ومادية.. حيث كانت السنة الجديدة فرصة للقائمين على المعابد في تحصيل القروض والمديونيات التي كانت على الأهالي، وفرض ضرائب جديدة، حيث تشير النصوص المحفوظة إلى رسائل الحرس للملك بنجاحهم فى جمع الأغنام والضرائب، وتصفية الحسابات التى كانت على الشعب، حيث كانت الكهنة تقوم بفرض كميات كبيرة من الجزية والغنيمة، والضرائب بهدف الحفاظ على القصر وخدمة المعبد، وكان المعبد يستقبل هدايا وتقديمات ونذور الأهالي والزوارمن الخارج الذين يقدمون الهدايا للإله مردوخ خلال أيام العيد، بجانب النذور والهدايا كان حكام المقاطعات والمدن يقومون بدفع “الخمس” للمعابد، وكانت تشمل بعض الحاصلات الزراعية، وعدد من الثروة الحيوانية.
الطقوس الدينية المصاحبة للاحتفال:
كان لعيد أكيتو طقوس دينية مصاحبة للاحتفالات الصاخبة والمهرجانات الكبيرة التي تقام فى المدينة.. كانت تلك الطقوس تبدأ من اليوم الأول قبل بزوغ الشمس عند الفجر، وهو توقيت مناسب تماماً للرمزية الدينية للاحتفال، حيث ينهض الكاهن الأكبر ويسمى “شيشكالو” بين منتصف الليل والفجر وقبل الشروق حيث يكون الظلام والصمت المهيمن على الأجواء، وهو جزء من الشعور بالرهبة الدينية والطقسية المصاحبة للقصة الاسطورية، ويقوم بالاغتسال بماء النهر، وإقامة التراتيل والصلوات أمام تمثال مردوخ، ثم يفتح بوابات المعبد، بعدها ينهض الكهنة الآخرون من النوم ويقومون بتنظيم دخول المعبد وإقامة الطقوس، وقد كانت هذه أوقات بداية الطقوس غير ثابتة طوال أيام الاحتفال، ففي اليوم الأول كانت تبدأ قبل السادسة فجراً، وتقل تدريجياً بعد اليوم الأول حتى اليوم الأخير، ولكن كانت هذه الطقوس تنتهي قبل مغيب الشمس.
وبجانب الطقوس كانت تقام الصلوات والتراتيل باللغة السومرية والآكادية، وتقوم هذه الصلوات على تبجيل الإله “مردوخ”، وتمجيد بطولاته، وفضائله كما جاءت فى قصة الخلق البابلية، من نصوص هذه الصلوات:
“بل (مردوك) في غضبه لا مثيل له
بل الملك سيد كل البلاد
الاله الذي لا نظير لعظمته
الذي كرس الوئام بين الآلهة العظام
الذي يسقط الاقوياء بنظرة منه
سيد الملوك، نورالبشرية، الذي يقدر الأقدار
اه ايها السيد، بابل هي مسكنك، وبورسيبا تاجك
كل السموات الواسعة هي مقر اقامتك
اه بل، بعينك ترى كل شئ
بوحيك تستقر النبوءة
وبيدك قصمت كل الاقوياء
وبنظرة منك تغمرهم الرحمة
انت من ينيرهم، وهم يلهجون بعظمتك
سيد كل البلاد، نور الإله الايجي المقدس
من لا تكلمه، لا يتحدثون عن عظمته
من لا تتكلم عن مجده، لا تكون عظمته لسلطته
اله جميع البلدان، من يسكن في المعبد، من يأخذ بيد الضعيف
واهب الرحمة لمدينة بابل
انظر نحو معبد الايساكيلا
امنح لشعب بابل وتابعيهم الحرية” .
تشير النصوص البابلية المحفوظة إلى استمرار الاحتفالات لمدة 12 يوماً متتاليين، حيث تبدأ من 1 نيسان حتى 12 نيسان وفقاً للتقويم البابلي، وأحياناً لمدة 11 يوماً، ويشير بعض الباحثين إلى مغزى استمرار “عيد أكتيو” لهذه الأيام الطويلة المتفاوته إلى رمزية الرقم 12 المقدس فى النظام “الستيني” المعروف فى الرياضة البابلية.. حيث أن الرقم 60 قابل للتحليل لعوامل عديدة منها الرقم 12، والبعض يذهب إلى أهمية الرقم واستخداماته المختلفة، فهو يمثل أشهر السنة، وعدد الأبراج الفلكية، بالإضافة إلى ارتباط العيد بالقمر الذي يحتاج لمدة زمنية طويلة لاسكتمال دورته الشهرية.
الطقوس اليومية للاحتفال:
كانت الاحتفالات القديمة بعيد أكيتو التي تستمر لمدة 12 يوماً مختلفة المعاني والدلالات وفقاً لأطراف الاحتفال المختلفة من الملك أو الكهنة أو الأهالي، حيث تمثل للأهالى مهرجانات شعبية يتخللها الرقص والمرح، وفرصة للعلاقات الاجتماعية بينهم، ولطبقة الكهنة من خلال تأديتها الصلوات والطقوس المختلفة فى تدعيم مكانتها الدينية وسلطتها الكهنوتية والمادية أيضاً على الشعب والملك فى نفس الوقت كما سيتضح من شرح تلك الطقوس، ولـ”الملك” الذي يسعي لتجديد سلطته الملكية من خلال الاله “مردوخ” بمباركة كهنوتية.
خلال الأيام الثلاثة الأولى تقوم تلك الطقوس على ممارسات لتطهر النفوس عن طريق تلاوة الصلوات “سر إيساغيلا” والتراتيل لطلب الغفران من الإله, وتطهير المعابد والمسح بالزيت “زيت السدر – النبق” وكذلك حماية بابل من الأخطار، وفى اليوم الرابع يقوم الكهنة بتلاوة ملحمة الخلق البابلية “اينوما ايليش، وهي ملحمة انتصار الملك مردوخ في بابل”، وبعد نهاية طقوس التطهر تبدأ طقوس خضوع الملك للاله مردوخ والصلاة له وطلب غفران خطاياه، عن طريق التجرد من ملابسه، وقيام الكاهن بصفعه، ويقوم الملك بالاعتراف أمام الإله بقوله: “أنا لم أخطئ يا سيّد الكون، ولم أهمل أبداً جبروتك السماوي”، ويقوم الكاهن بطمأنته بأن الإله “مردوخ” سوف يستمع لصلواته ويوسع سلطانه، ويقوم بإعادة التاج والملابس للملك مرة اخرى، وهو بمثابة تجديداً لسلطته، وإعادة تنصيبه ملكاً على الشعب.
فى اليوم السادس يصل الإله “نابو” وأعوانه بالمراكب إلى المعبد، حيث مكان الاله مردوخ بتلاوات معينة، ويقوم نابو بتحريره فى اليوم السابع بعد معركة كبيرة، وفي اليوم الثامن تجتمع الآلهة لتقرير مصير مردوخ، ثم يأتي الملك ويطلب من جميع الآلهة السير خلف مردوخ، وفى اليوم التاسع يقوم مردوخ بالاحتفال بالانتصار خارج أسوار المدينة فى بيت يسمي “آكيتي”، ويشاركه الشعب فى الانتصار، ثم يدخل مردوخ للمدينة فى اليوم العاشرللاحتفال مع زوجته “عشتار”.
بعد تقرير الملك يأتى الدور على تقرير مصير الشعب.. حيث تجتمع الآلهة فى اليوم الحادي عشر فى بيت يسمى “أوبشو أوكينا”، وهو يمثل تجديد العهد لمدينة بابل، وبعدها يصعد مردوخ، وفى اليوم الأخير “12” من عيد أكيتو تعود الآلهة إلى معبد مردوخ، وتعود الحياة اليومية لبابل وباقي بلاد الرافدين مرة أخرى بعد الاحتفال لمدة 12 بعيدهم الوطني أكيتو الذي جمع كل شعوب بلاد الرافدين فى مهرجانات شعبية يسودها الفرح والبهجة، وكذلك الصلوات والتراتيل، بعد أن جدد سلطة الملك، وحدد مصير الشعب، فى عيد أساسه التوحد والفرح والسلام.