إعداد/ سامح راشد
لما يزيد على ست سنوات، تركزت التطورات في الشرق الأوسط حول الأوضاع الداخلية، فيما عرف باسم “الربيع العربي”، وموجة الثورات والانتفاضات الشعبية.
ورغم أن عددا من الدول العربية لا يزال يواجه تبعات ومقتضيات تلك الموجة بأشكال ودرجات مختلفة، فإن الأشهر القليلة الماضية تشير إلى أن تحولات مهمة تجري بالفعل في منطقة الشرق الأوسط، لكن هذه المرة على المستوي الإقليمي بصورة أكبر، أخذا في الحسبان أن التداخل بين المحلي والإقليمي قائم في كل الأحوال، وأن الأحداث والتطورات الداخلية، التي سادت خلال السنوات الماضية، مهدت الطريق للتحولات الإقليمية الجارية، بينما ستنعكس تلك الأخيرة بدورها على صيرورة الداخل، في تغذية مرتدة تقليدية.
تحمل التطورات الجارية على المستوي الإقليمي بوادر رياح جديدة، وتغير في تركيبة، وربما خصائص، النظام الإقليمي للشرق الأوسط. وأهم ما في تلك البوادر أنها تعيد التذكير بأجواء أطروحات التعاون الإقليمي، التي واكبت بدايات عملية السلام العربي – الإسرائيلي، خلال عقد تسعينيات القرن الماضي، والتي جرت محاولات لتأطيرها في عدة صيغ، منها الشرق الأوسط “الجديد”، والشرق الأوسط “الكبير”، أو “الموسع”. الفارق الأساسي فيما تشير إليه التحركات الجارية حاليا أن الصيغ السابقة تستند إلى هدف تحقيق تنمية اقتصادية من خلال تعاون إقليمي. وتنطلق من ذلك نحو دمج إسرائيل في المنطقة، وإقامة منظومة تعاون إقليمي جماعي، تكون تل أبيب جزءا منه. بينما تبدأ التحركات الجديدة من وجود تحديات وتهديدات مشتركة تجمع دولا في المنطقة ومن خارجها. كما أنها تنبع أيضا من سياسات وأدوار دول في المنطقة ومن خارجها، مما يعني للمراقب أن الصيغ السابقة للشرق الأوسط الموسع أو الكبير كانت فلسفتها تعاونية تجميعية لتحقيق الأفضل. بينما ما تشير إليه التحركات الراهنة يبدو في جوهره دفاعيا لمواجهة السيئ أو ربما الأسوأ.
ويتبدي ذلك بوضوح في مساعي تسوية بعض الملفات لحلحلة التأزم الإقليمي، وتهيئة الأجواء لتحالفات إقليمية تتجاوز الاختلافات المرتبطة بالأزمات الراهنة، وتواجه تحديات متنوعة تشمل انتشار العنف في المنطقة وخارجها، والطموح الإقليمي الإيراني، وتداعيات الاضطرابات الداخلية، مثل تدفق اللاجئين، وتهريب السلاح، وانتقال المسلحين، وتنازع موارد الطاقة. وفي هذا السياق، تأتي مبادرات تحريك قضية قبرص، وأفكار استئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، وتعدد منظومات تسوية أو إدارة الملف السوري (جنيف/ أستانة/ أصدقاء سوريا)، وكذلك الملف الليبي (اتفاق الصخيرات/ دول الجوار/ الرباعية الدولية). وفي المقابل، يجئ التصعيد الدولي ضد تنظيم “الدولة” في العراق وسوريا، وتحفز إدارة ترامب ضد إيران، فضلا عن الحضور الروسي المتزايد في ملفات وقضايا المنطقة، سياسيا وعسكريا.
تشير تلك الحزم المتوازية من المستجدات والتحركات بوضوح إلى أن ثمة إعادة تشكيل للنظام الإقليمي، وأن ترتيبات جديدة تنتظر المنطقة في المدى المتوسط، إن لم يكن القصير.
سمات الشرق الأوسط الجديد:
يمكن رصد عدد من الظواهر والخصائص المصاحبة لذلك الوضع الإقليمي الجديد، ومن أهمها:
1- تغير الأولويات في أجندة المصالح والتهديدات الإقليمية:
لم يعد العمل العربي المشترك، أو تطوير العلاقات والروابط العربية -العربية، يمثل أولوية لمعظم – إن لم يكن كل – الدول العربية. كما تراجعت أولوية الصراع العربي – الإسرائيلي حتى لدي الدول المعنية به مباشرة، بما فيها تلك التي كان يطلق عليها “دول الطوق”. وفي المقابل، ستتقدم أولوية القضايا العابرة للحدود، خصوصا انتشار ظاهرة العنف المسلح، سواء بواسطة تنظيمات ومجموعات، أو بواسطة أفراد.
2- استقطاب إقليمي مذهبي:
بعد توارلم يستمر سوي بضعة أعوام، عاد الاستقطاب المذهبي ليسود الشرق الأوسط، ويضرب بعنف في أكثر من اتجاه. في بدايات الألفية الثالثة، كان الانقسام المذهبي يتركز بالأساس في التفاعلات الداخلية والعلاقات المجتمعية داخل بعض الدول، التي تتسم بالتنوع المذهبي والديموجرافي بشكل عام. وكان لكل منها خصوصية محكومة بطبيعة التركيبة المجتمعية. بمعني أن البعد الإقليمي أو الخارجي في ذلك الانقسام كان حاضرا، لكن على استحياء، وبشكل محدود. وكان الدور الخارجي في الانقسام المذهبي استجابة لمحركات داخلية بالأساس. في الوضع الراهن، صار الانقسام إقليميا أكثر منه داخليا. وتجلت انعكاساته في تدخلات عسكرية وسياسية مباشرة، يمتزج فيها المذهبي بالسياسي، كما يتضح في تدخل “حزب الله”، وجماعات شيعية مسلحة موالية لإيران في الأزمة السورية، والدور الإيراني في اليمن.
3- تبادل أدوار القوى الكبرى:
لم تحظ منطقة الشرق الأوسط، في أي وقت، بفرصة الاستقلال الكامل عن القوى الكبرى الحاكمة في النظام العالمي. وكثيرا ما كانت التغيرات الإقليمية في المنطقة تعكس تغير النظام العالمي، سواء في طبيعته وهيكله، أو في أطرافه الرئيسية وتبدل مواقعها داخله. لكن ظلت الولايات المتحدة الأمريكية، لما يقرب من ثلاثة عقود متصلة، تحتل صدارة القوى الكبرى المؤثرة في الشرق الأوسط، بل كانت تنفرد تقريبا بدور “الراعي الرسمي” لمجمل قضايا وتطورات المنطقة.
بيد أن تغيرا جوهريا بدأ يحدث أخيرا، حيث أخذت واشنطن ترفع يدها عن المنطقة تدريجيا، مما أتاح الفرصة أمام روسيا لتملأ ذلك الفراغ بسرعة وديناميكية. وبعد أن صارت موسكو الفاعل الرئيسي في الملف السوري، بقبول أمريكي، فإنها تتجه حاليا إلى ملفات وأزمات أخري، مثل ليبيا واليمن، لتثبت أنها تقترب كثيرا من الحلول محل الولايات المتحدة في موقع القوة العالمية المهيمنة على الشرق الأوسط.
4- تحالفات إقليمية جديدة:
اتساقا مع ما سبق، من الطبيعي أن تتجه المنطقة إلى منظومة تحالفات ومحاور إقليمية تجسد تلك الموجة من التغيرات. إلا أن التحالفات الجديدة ليست مختلفة كلية عن تلك التي كانت سائدة، حتى سنوات قليلة خلت، والتي توزعت بشكل أساسي بين جناحين، أطلق أولهما على أعضائه وصف “المقاومة والممانعة”، بينما تبني الآخر مصطلح “الاعتدال” تعريفا للدول المنضوية فيه. والمهم، في هذا التقسيم، أنه تمحور بالدرجة الأولي حول الموقف من إسرائيل، سواء لجهة العلاقة المباشرة معها، أو إزاء مجمل طريقة إدارة الصراع معها. وانبثق من هذا الاستقطاب الأساسي محاور انقسام فرعية، شملت الموقف من تنظيمات وجماعات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خصوصا ذات المرجعية الإسلامية. وساعد في ذلك رفع شعار الجهاد، وعدّ تحرير القدس غاية إسلامية، بواسطة دول وتنظيمات، يجمع بينها اتساق مذهبي، الأمر الذي أوجد ظلالا مذهبية لحالة الاستقطاب في النظام الإقليمي للشرق الأوسط.
في الشرق الأوسط “الجديد”، الذي يبدو تبلوره قريبا، تتبدد الخلافات والانقسامات الإقليمية التي كانت تدور حول الموقف من إسرائيل، وطريقة التعاطي معها، واتجهت نحو القضايا والأولويات الجديدة، كما سبقت الإشارة. ولما كانت تلك الأولويات مشتركة بين إسرائيل ودول أخري في المنطقة، فمن الطبيعي أن تكون إسرائيل طرفا مباشرا في أحد أو بعض التحالفات الإقليمية الجديدة في المنطقة، سواء تم ذلك علنا، أو بغير إعلان.
———————–
تعريف الكاتب:
باحث بمؤسسة الأهرام، مدير تحرير مجلة السياسة الدولية
المصدر/ السياسة الدولية