كتبها: محمد فيض خالد
انتظرت وطال انتظارها ، انفرطت سنوات عمرها هباء منثورا، تترقب يوما يسر خاطرها ،أحلامها بسيطة لدرجة كبيرة، وأمانيها لا تتعدى أماني غيرها من نساء الدرب ،أن يفك ” عوض” كيسه قليلا ، أن ينفق من مال الله الذي آتاه كبقية الخلق ،يأتي المحصول وراء المحصول ، ولا شيء يتغير في حياتها ،ها هي ومنذ سنوات طويلة تَخبّ في أسمالها القديمة ،جلباب أزرق باهت ، وخمار تنسلت حوافه ،ونعل بلاستيكي فتح فمه ، يشتكي كثرة رقعه ، التي توزعت ألوانها عليه كألوان الطيف، ما جعل منها مادة شهية للتندر ،تتأكد شكواها في كل يوم ،وتتزايد شكوكها من أن زوجها عبد وفي للقرش ،وأن حياتها سجن اختياري مرعب ، بسجان غليظ القلب ،لا يجري عليه ما يجري على غيره من الرحمة ،يحز بخاطرها أن يتهاوى بريق شبابها وينطفئ لمعانه ، وتذوي جسدها ،وهي التي كانت يوما فتنة تسر الناظرين ، يتعكر مزاجها ويصيبها الاشمئزاز ، تحاول مجافاته قدر طاقتها ؛ حتى في تلك الليالي القليلة التي يجمعهما فيها فراش واحد ،يتفنن صاحبها في سوق الحيل كمراهق متمرس ،يسكب عواطفه تحت أقدامها في اجتراء وتهور ، يريد منها كل شيء دفعة واحدة ، أن تكون حاضرة بعواطفها ، ولكن آنى ذلك؟!.
بيد أنه رغم فورته واندفاعه وتلهفه على تلبية مراده ؛ لا يخطئ أبدا ،فلا ينفلت لسانه بأي من الوعود المجانية ،التي يعد بها المحب حبيبه ساعة يضمه بين ذراعيه ، هكذا جرت العادة في مثل تلك المواضع ،تمصمص شفتيها وهي منكفئة تنبش الأرض في انزعاج كدجاجة وحيدة ، تستذكر في تأسي أحاديث جاراتها ، ووعود أزواجهن وكلامهم الذي يطيب الخاطر.
لا تفوت فرصة إلا وتدلق خبيئة صدرها ، حمم من الغيظ والقهر والشكوى المرة ،تشيح بوجه مغضن غائم ، لحظة تمد صينية الشاي لابن أخيها ، وهي تتوجع :” آه وما فائدة كنز المال ، وهل خلق الله المال إلا لكرامة الإنسان وإسعاده ؟!، ألا تعسا للبخلاء ” ،يخيم في هاته اللحظة صمت مميت ، يرميها الفتى بنظره ، وضحكة يكتمها تجول بصدره ، تكاد تعصره ، وهو يرى تجاهل ” عوض ” ، وهكذا يفعل في كل نوبة.
يمتد الصمت كئيبا باردا ، تنصرف عنهم وهي تلقي ببصرها ناحية مدخل البيت ،تتابع دجاجة ضامرة تنقر الأرض ، تحجل سريعا ثم تبتعد ، تتطاير أصوات رفيعة أشبه بالصفير، تنساب مهتزة من بين الشفاه ، مصمصة مملة تعلن انتهاء أكواب الشاي ،وعلى قدر ما تعاني من كدر ، وتلقى من صلابة كفه ، لكنها تعاود تسرية نفسها بين حين وآخر ، تردد جملتها المشهورة تطمئن نفسها : ” هو ابن عمتي ، والظفر لا يطلع من اللحم ، والحياة على الحلوة والمرة ” ، اطمأنت لذلك وألفته ، لا يغيب عن بالها أول مرة رأته ، يرفل في جلبابه السكروته المنشى ، وشاله الكشمير يرصف بلونه الزيتوني فوق كتفيه العريضين ، ووجهه الحنطي يطفح بالبشر ،قالوا قدم قريبا من مصر ، كان في سفر منذ سنوات بعيدة ، انقطعت أخباره غير جنيهات يرسلها لأمه وأخته ،جاء ينتقي زوجة له ، فضل أن تكون من لحمه ودمه ، كانت هي التي مال إليها قلبه ، يومها شع الفرح بين جوانحها ، وهف قلبها الغض نشوانا ، وفاضت روحها بالأماني الحلوة ، تزاحمت من حولها الخيالات الجميلة ،أن يرجع بها إلى أم الدنيا لتعيش هناك في ظلال النعمة والونس والنظافة ، وتذوق طعم السعادة التي حرمت منها كبقية أبناء الريف ، يومها لم يلتفت أحد لكلام خالتها ولم يحمله على محمل الجد ، حين قالت على استحياء :” هو بخيل جلدة ” ، قالت أمها في انفعال :” أنها تغير منك ” ،لم تكن تدري معنى أن يكون الرجل بخيلا ، فهي ترى من حنان أبيها في البيت ، وعطفه على أمها ، مع قصر ذات اليد ، ما تمنت أن تراه في رجلها ، على عجل دارت كؤوس الشربات ، طافت بالقرية بيتا بيتا ، تخطفتها الأيدي في تلهف ، فاضت دارهم بالزغاريد ، ورنت أكف الرجال يتسابقون في تصفيق مجلجل على وقع الطبلة ، وتعانقت عصيهم في فتوة وصخب ، وتخطفت أيدي الصغار حبات الكرملة التي نثرتها أمها فوق الرؤوس وهي تهلل ،وتزاحم البنات من حولها يباركن ، وقلوبهن تخفق متمنية ، هكذا امتلأت الدار وانفضت مرات ومرات بالمهنئين ، حتى انقضت ساعات الليل.
أخيرا ، اجتمع الشمل ، وبعد أسبوع بالتمام ، أيقظها مع الفجر؛ ليخبرها أنه ذاهب لأيام وسيعود ، سيرجع ومعه ما يكفي حياتهما من مال ،على استحياء تداعب ابتسامة هزيلة ملامحها العابسة ، لا زالت تفترش أحلام الأمس اللذيذة ، مصر ، الزحام ، الجلباب النظيف والعيش اللين ، رغيف القمح ، الوجوه اللامعة ، رائحة الصابون المعطر…