خاص : كتب – محمد البسفي :
ولكن.. بنظرة صافية الحيادية لأزمة أو مشكلة تأثير هؤلاء الكتاب الذين يعشقون التسمية بوسم: “التنويريون الجدد”؛ ومدى تأثر محيطهم المجتمعي بمنتجاتهم الفكرية، نجد إنتاجهم لا يعتمد منهجًا محددًا يعمل على القياس والاستنباط والمختبر العلمي (*) لإخراج مُنجز فكري متماسك يسمح بفتح أبواب نقاش مجتمعي يستند على احتياجات القاعدة الجماهيرية مستهدفًا تنمية وعيها بقضاياها الأساسية والمُلحة المعاشة؛ وبالتالي توسعة مداركها إلى تقبل مناقشة مسلمات ومعتقدات تتسبب في زيادة تلك الاحتياجات ومعاناتها وتُحرم القاعدة الجماهيرية من حقوقها الاجتماعية/الثقافية/السياسية المتداخلة بفعل قوة طغيان هذه المسلمات المستسلم لها.. بعبارة أخرى نجد أن ضحالة تأثير التنويريون الجدد في مجتمعاتهم جاء نتيجة “موقعهم التراتبي” في صراعهم مع الفكر الأصولي وتأثيره السلفي داخل المجتمع، حيث يأتي إنتاج تلك الفئة من التنويريين دائمًا: كـ”رد فعل” ضد: “فعل” السلفي/الأصولي الذي يسبقهم دائمًا بخطوة بل بخطوات في بسط سيطرته وسطوته المستمدة من “نص مقدس” يحرص دائمًا على أن يكون منغلقًا متعاليًا لا يُمس ببند شفةٍ من استفهام أو مجرد محاولة لنقاش.. وهنا يأتي دور التنويري في لعب دور “المتمرد” كرد فعل على تلك السلطة المطلقة والسطوة المتعالية، ليضرب في جميع الاتجاهات ويُكسّر كافة “القيم” دون أي هدفٍ إلا الظهور على خصمه السلفي والتعالي على غلوائه بغلوٍ أشد تزمتًا في إزدراء “المختلف” عنه بتهميشه في خانة “المتخلف”؛ وبمنطق الآواني المستطرقة: كلما تصاعد: “الفعل” الأصولي/السلفي؛ كلما تشدد: “رد الفعل” التمردي للتنويريون بالمقابل في “تخبطه غير الممنهج”.. وبالطبع ذلك الموقع الجغرافي للتنويري كمتمرد غير “ثوري”؛ يستهدف قيم محددة وعادلة في تنمية مجتمعه وجلاء وعيه، جعل منه مرادفًا موضوعيًا وذاتيًا من نقيضه الأصولي/السلفي فأصبحا وجهين لعُملة واحدة تتوقف ديناميكية عمل أحدهما بتفاعل الآخر.
“الهوس الديني”.. كأجندة عالمية مطلوبة !
ولأن النظام الرأسمالي العالمي يعمل منذ عقود؛ بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، على وأد وتهميش أي إيديولوجية تقدمية تستهدف تحرر الإنسان من حالة الاستلاب والاستغلال؛ المُغذي الرئيس للآلة الرأسمالية العالمية، فقد عمل الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على تغذية تكريس كل ما هو طائفي وعنصري وجهوي بسياسات يمينية قحة تغلغلت في البيئة العالمية الجمعية تحت لافتات النيوليبرالية مستغلة التقدم التكنولوجي في وسائل الاتصال وتعدد منصات التحشيد والتثقيف الجماهيري؛ ضمن منظومة معلومات متكاملة التوجه واثقة التقدم في تغذيتها الشعبية التي تحتاج بالطبع إلى قاعدة تنظيرات فلسفية وعلمية – أو شبه علمية – تُرسخ للعنصرية وتُجذر للطائفية في إطارٍ عام من الفردانية وتُعمق من الاغتراب؛ ومن هنا أنبثقت منظومة فلسفات وتنظيرات ما بعد حداثية كنظريات شمولية/تستهدف التجزئة تعتمد على الفوضوية المحطمة والتفكيك الهادم والنافي لأي قيمة إنسانية أو مجتمعية؛ فتم الرجوع إلى التنظيرات النيتشوية في “موت الإله” ومخرجاتها من كسر إيقونة الأب ونهاية التاريخ ودفن الإيديولوجيات وفناء الحقيقة واللجوء أو العودة إلى الألعاب الروحية والفردانية؛ بداية من مدارس التنمية البشرية حتى تنظيرات التناسخ وانتقال الأرواح والعوالم الخفية مرورًا بحرب الحضارات.. فأصبح بالتالي المواطن في مجتمع نامي مثلاً يستغرق وقته بحثًا عن حقيقة وجود مخلوقات غير بشرية في كواكب أخرى من عدمه؛ غير ملتفت إلى واقعه الأرضي كمواطن محروم من حقوقه الصحية والتعليمية والعدالة في توزيع الثروة واستلاب جهده نظير عمله اليومي في أجر لا يُمثل واحد إلى مئة من ربحية مجهوده..
وتحت ظلال تلك المنظومة الجهنمية من ثقافة ما بعد الحداثية.. يتم تجزئة المجتمعات والتكتلات البشرية على أسس عنصرية وجهوية وطائفية؛ وبالطبع تُنتج عن تلك التركيبة سلسلة لا متناهية من المشكلات والمعضلات المجتمعية، وهنا يأتي الدور على منظومة عالمية أخرى؛ توسعت توسع إخطبوطي مجتمعيًا في العقود الأخيرة لتجميل الوجه العام للنظام الرأسمالي الشمولي؛ تُدعى منظومة حقوق الإنسان التي تعمل على معالجات تُساعد عمل منظومتها الأم الأولى الما بعد حداثية؛ بما لا يخل بمبادئها وأركانها في البحث عن الحل الجزئي والانتقائي وتعميق الفردانية، وبالتالي تم تكريس الأهداف النهائية للمنظومتين تحت لافتات براقة.. العنصرية مثلاً تم تجذيرها تحت مسميات النسويات ومكافحة المجتمعات الذكورية؛ دون الإستناد إلى إيديولوجية أو قضية قيمية محددة سوى تلبية احتياجات فردية منتقاة منتزعة من منظومة مجتمعية مضغوطة المشاكل والتناقضات الاقتصادية والثقافية المولدة لتلك الحالات من الاضطهادات دون التعرض مثلاً لدور المرأة في كافة المجتمعات؛ المتقدمة منها قبل النامية، كإنسانٍ عاملٍ مُنتج يتم استلابه يوميًا بأجر أقل ومجهود أعلى؛ ويتم استغلال جسد المرأة في أحط صور الاستعباد كأنثى يتم اللعب بها في تجارة الجنس والترفيه والدعاية والإعلان كخادمة لكارتيلات الشركات متعددة الجنسيات. وبفعل الطائفية والجهوية والمذهبية تم تمزيق المجتمعات إلى أقليات مضطهدة لكي يتم الدفاع عنها والتحدث باسمها وفرض أجندة الشروط من أجلها والعمل سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا تحت دعايتها والمتاجرة بمعاناتها؛ التي تم تخليقها بفعل استبداد ومتاجرة نفس المنظومة الرأسمالية الحاكمة، ليأتي قادتها السياسيون وسط كل تلك الغيوم مبشرين بـ”الحرب الدينية” لكي تكون التفسير الأوحد لكافة الصراعات العالمية الكبرى؛ مثلما أشارت “أنغيلا ميركل”، عام 2018؛ أمام المجموعة البرلمانية في حزبها اليميني قائلة؛ إنّ عقود السلام الستة الأخيرة خدعت الأوروبيين ومنحتهم شعورًا زائفًا بالأمان، مما جعلهم غير مستعدين لما سيحدث لاحقًا؛ مسترجعة حرب الثلاثين عامًا: (1618 – 1648)؛ التي راح ضحيتها نحو ثُلث سكان بعض الأراضي الألمانية. وللتأكيد على رسالتها، أضافت: “لقد مر 70 عامًا؛ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية” (1).. وبهذا التفسير الوحيد للصراعات الدولية يتم تمويه الإمبرالية الغربية المُسيطرة بداية من الآلة والتواجد العسكري المباشر وحتى الغزو الفكري والثقافي والاقتصادي عبر كارتيلات متضخمة تستنزف الموارد الطبيعية والبشرية لمجتمعات وبلدان العالم الثالث؛ الغير مسموح لها استثمار مقدراتها والإكتفاء الذاتي بثرواتها أو تقدمها التعليمي والتكنولوجي، إلا بالحد الخادم لمصالح دول ومجتمعات السادة من دولة الشركات العابرة للقارات.
ويأتي “التنويري” في تلك المجتمعات النامية؛ والعربية على وجه الخصوص، ابنًا شرعيًا لتلك المنظومة الرأسمالية المُهيمنة، مروجًا لثقافاتها الما بعد حداثية؛ ليعمل في مجتمعه تحت مستويات محددة مُعّدة له سلفًا تصعد وتنخفض بميزان محسوب؛ يُحافظ على موقعه كـ”رد فعل” تمردي؛ يتبنى النسوية والإنسانيوية ومقولات ما بعد الحداثية في موت الله والأب والمؤلف ونهاية التاريخ والإيديولوجيات… إلخ؛ بحيث تنحصر نشاطاته في إطار نخبوي.
مجرد “تمرد” مراهق يقوي من دولة السلفي المتحكمة..
وهنا.. يظهر “رد الفعل” التنويري في صورة تمرد المراهق الذي لا يكل عن تكسير جميع القيم الإنسانية والمجتمعية بترويجه لمقولات ما بعد الحداثية بدون منهج علمي أو استهداف لاحتياجات قاعدية لجماهير مجتمعه، غير بضاعته المعولمة، فينحسر بالتالي تأثير إنتاجه من رؤى تمردية في شرنقتها النخبوية كرد فعل أمام سطوة وهيمنة إعصار جامح قوي من الهوس الديني لم يقوى على مجابهته بأسلحة ثابتة في تنميتها التقدمية مرشحة لتكون ثقافة قاعدية لها من مجتمعها جذور، وبالتبعية يُقوي ذلك التمرد الطفولي الهش ولا يُضعف من هيمنة دولة السلفي المتحكمة.. وهو المطلوب عينه لخلق الصراع “الديني-الديني” كدائرة جهنمية تدور فيها المجتمعات والشعوب المستلبة ويظل هو الصراع المجتمعي الوحيد الذي يتم به هضم كافة التناقضات الناجمة عن النظام الرأسمالي العالمي بداية من الصراع الطبقي وحتى السُعار الإمبريالي المحتدم.
فالليبرالية السياسية تحت دعاوى نشر الديمقراطيات ورعايتها عالميًا عملت ثقافيًا على تضخيم الإيديولوجية الدينية، وبعثها وتغذيتها سياسيًا وثقافيًا، بُغية تحويل “الدين” إلى “إيديولوجية”؛ وذلك لمناهضة وقتل أي إيديولوجية أخرى منافسة سوى الليبرالية الغربية، وذاك ما تحرص عليه حتى الآن بتبني الإسلام السياسي سياسيًا وعملياتيًا، ولكن المفارقة مع تسيد النيوليبرالية بمنظومة العولمة الشمولية أفرزت فكر ما بعد حداثي الذي تبناه اليمين المتطرف الأوروبي بتنقيحاته الروحانية والغيبية فتورمت نظريات التناسخ والماورائيات والباراسيكولوجي وغيرها من “المكيفات الأفيونية” للدماغ الجمعي لفقراء الشعوب.. وبقليل من البحث والتحري، ليس من الغريب أن نجد مصادر نشر ودعم المقولات والفلسفات الما بعد حداثية – بضاعة “التنويري” الوحيدة – هي نفسها تلك الجهات الممولة والحاضنة لأصوات ودعايات السلفي/اليميني؛ من قنوات فضائية ووسائل إعلام واتصال جماهيري وحتى مراكز أبحاث ودراسات انتشرت بكثافة وسرعة مذهلة خلال عقود معدودة، بداية من “الولايات المتحدة الأميركية” بتكتلات ومجموعات أساسية في حزبيها الحاكمين (الديمقراطي) و(الجمهوري) فضلاً عن مؤسساتها الأمنية والسياسية وليس إنتهاءً بدول “الاتحاد الأوروبي” التي تسود معظمها أحزاب يمينية؛ (سواءً بتقسيماتها السياسية بين: يمين وسط أو يمين متشدد).. ليقع العالم بأسره في شركِ شبكة جهنمية من الضبابية والغيوم الفكرية والاجتماعية بفعل هيمنة الإيديولوجية الدينية الحاكمة؛ ولو نظرنا على المشهد السياسي فقط لمنطقتنا العربية/الشرق أوسطية نصطدم بمفارقات وتناقضات تُلغز من عملية قراءته مع تلك الإيديولوجية الدينية المتغلغلة.. فأصبح الصراع “العربي-الإسرائيلي”؛ على سبيل المثال، صراع أديان بين المسلمين واليهود، الذي يتراوح بين حتمية تسيد الصهيونية وتقوية دولتها تمهيدًا للمعركة الكبرى في نهاية العالم التي ينتصر فيها المسلم؛ (عند المسلمين)، على اليهودي؛ ويقضي الخير على الشر؛ (لدى الأوروبيين)، في معركة “هرمجدون الكبرى”، ولن تصل لتلك النتيجة إلا بعد أن تُسافر بخيالك مع سحاب عالم الماسونية المبهر الآخاذ حتى نصل إلى النتيجة النهائية المطلوبة؛ وهي: حتمية تحرير “القدس”، وليس “فلسطين”، كوعد إللهي حتمي التنفيذ في عالم الغيب، لا يحتاج نضال شامل المستويات لتحرير أراضٍ مسلوبة من أصحابها ونُصرة لقضية عادلة بالقضاء على استعمار أسسه أثرياء من كبار لصوص اليهود الذين استنزفوا موارد شعوبهم الأم لإنشاء وطن عنصري مختلق على أسس غيبية.. فأصبحت “الإسلاموفوبيا” في مواجهة “معادة السامية”؛ لتنغلق دائرة الصراع “الديني-الديني” على كل ما هو عنصري ومذهبي وجهوي وطائفي بين الأديان كافة وبين أبناء الديانة الواحدة؛ حتى أن جميع القوى الحاضرة على المشهد السياسي الإقليمي الآن الرافضة لقيم الاستعمار والمقاومة للهيمنة والاستغلال الإمبريالي “الأميركي-الغربي-الصهيوني”؛ هي في الأصل نُظم سياسية دينية ترزح تحت مرجعيات سلفية أصولية محملة بمعاركها التاريخية القديمة.
نحو التحرر من الإيديولوجية الدينية واستعادة دين “مختطف”..
في إشكالية نقد التراث لدى تلك الفئة من التنويريين يقول الأستاذ “ياسر شعبان”: إن خطورة التنوير مع غياب وحدة قضايا الصراع يجعل من نقد التراث عملية مدمرة للذات؛ لأنها تنزع الإنسان من نقطة ثبات وتدفعه لإسقاط المقدس في سبيل تبني رؤية معادية للذات الوطنية في جوهرها.. الخطورة أن عملية نقد التراث هنا تُصبح مجرد معبر وجسر لنوع آخر من التدمير الذاتي؛ لا تختلف عن خطورة الخطاب الإسلامي إلا في الأسلوب اللاعنيف ومدى الانتشار، ففي حين ينتشر الخطاب الإسلامي المهندس بين قطعان الجماهير المغيبة؛ ينتشر خطاب التنوير المنقوص بين النخب المثقفة المغيبة أيضًا.
موضحًا: إن نقد التراث الديني بشكل عام؛ إن اعتبرناه جسرٍ، فلابد أن ينتهي بنا إلى مفردات جديدة عبر تمثل منطق جديد من التفكير العلمي والوطني والتقدمي ينطلق بنا من حالة ثبات وجمود لحالة حركة وفاعلية اجتماعية تُقاوم مفردات التخلف والتبعية وتنتزع الاستقلال السياسي والاقتصادي أو تُبشر به وتؤدلج له على الأقل..
لكن نخبة التنوير تلك لم تصنع مثل هذا الجسر، ولكنها صنعت جسرًا نحو العدو؛ جسرًا نحو تعميق التبعية للمجتمع كله وتعميق عزلة النخب المثقفة بل أفقدتها أدواتها الفكرية التقدمية التي لو كانت تمتلكها لصار خطابها الحاضر وقدرتها على الفعل السياسي أقوى..
لافتًا: فعندما يتحدث “سيد القمني” ويُصرح برؤيته السياسية يكشف في الحال عن سوءته وعيبه القاتل؛ فقد جعل من مشروعه جسرًا لاستبطان رؤية استعمارية… وكما كانت الصحوة الإسلامية وبالًا على عقول الجماهير؛ صار التنوير المنقوص المنطلق من مواقع الكمبرادور وبالًا على عقول النخب المثقفة. (2)
بالتالي.. لنا أن نتساءل: ماذا فعلت تلك الفئة من التنويريين المعولمين فكريًا أمام طغيان الإيديولوجية الدينية ؟.. وإلى أي مدى انتقص إنتاج هؤلاء المثقفين والكتاب من سلطة دولة هذه الإيديولوجية ؟..
“إيديولوجية دينية”.. تحاصر واقعنا بإحكام السوار بالمعصم؛ مُحملة بخلافات وتناقضات تاريخية عتيقة منذ ألف وخمسمائة عامًا (جلها لأغراض سياسية وطبقية بحتة)؛ تغلغلت داخل نسيج تشريعات دينية نتيجة بناء ديني كامل ترتبت عليه طبقات من تفاسير لنصوص محكمة ووضعًا لأحاديث نبوية وتفاصيل فقهية، أبعدت الذهنية الجمعية للمسلم عن الخلاف التأريخي السياسي الأساس، ولأن هذا البناء يحتاج إلى حُراس (ديدبان) يعملون على إغلاقه وسد ثغراته وإعادة إنتاج تسويقه للعامة؛ تم خلق طبقة كثيفة من رجال الدين يحتكرون النصوص وتأويلاتها والاجتهادات عليها لا تتم إلا عبرهم.. وهنا تضخمت ثروات تلك الطبقة وتسيدت مجتمعيًا بالهيمنة على النص واحتكاره لخلق مجتمع طبقي يتم استغلاله طوعًا (فغلاء الأسعار مثلاً هو بلاءً من السماء، والأوبئة والأمراض هي كذلك عقاب من الله لأخطاء عباده، والأمثلة متعددة بتعدد بلايا الحياة اليومية)، وبالتالي تم هضم كافة التناقضات الطبقية والمجتمعية بداية من استئثار فئة قليلة ومحددة بالثروات والحكم وحتى التمايز العنصري بين الذكر والأنثى مرورًا باستغلال القاعدة الشعبية الأعرض في خانة الفقر والعوز والإجهاد العملي.. ومع تقوية النفوذ الاجتماعي/السياسي لطبقة رجال الدين بمرور الوقت بزغت صور “الكهانة” – لدينٍ جاء في الأساس لمحو الكهانة وتقدمية فكر المسلم (العربي وبعده من جنسيات أخرى)؛ بنفي الوساطة في تعبده بينه وبين ربه الأعلى – التي تحتكر النص المقدس واجتهاداته لتضع معايير العمل الصالح وتصف تراخيص دخول الفردوس وتُفتي بأدق أمور المؤمن اليومية فضلاً عن عمومياتها؛ فهي التي ترسم مظهره الخارجي في الملبس من لحية وحجاب وكيفية قبول صلاته وتقربه إلى الله وطريقة تفكيره في مستقبله سواء العملي أو التعليمي وهكذا أرادت كهانة رجال الدين محاصرة/تغطية الحياة الآنية للمسلم بتفاسيرها واجتهاداتها للنص وإفتاءاتها باسمه حتى أورثت الكسل الذهني لوحدات المجتمع المسلم عن “التعبد” عبر طريق البحث والدرس والمقارنة والمناقشة في تشريعات الله والقياس عليها وبالتالي إعمال العقل واختيار الاجتهادات الذاتية الملائمة له، فضلاً عن انتشار فتاوى كهانة طبقة رجال الدين وتدفق اجتهاداتهم وتفاسيرهم لأدق شؤون المؤمن الحياتية بآليات وصور مادية مباشرة لتقريبها إلى عقلية جمعية كسولة سطحية الفهم صُبغ المفهوم الجمعي للدين بصبغة مادية قحة (حينما تُحسن إلى الفقير لك قصرًا في الجنة وحينما تفعل كذا تشرب لبنًا وعسلاً في الفردوس وعند أدائك الفريضة تكتسب عدد كذا من الحسنات أو حينما تفعل هذا تصعد كذا درجة من التقرب لجنة الله وهكذا)، حتى توارت روحانية “الدين” الحقيقية لدى المؤمن ودافعه الذاتي للتعبد والتقرب إلى الله كعلاقة نفسية خاصة جدًا ثنائية الأطراف بلا شريك أو تدخل من طرف ثالث، وظهرت العلاقات الدينية مجتمعيًا في إطارها المادي البحت (أخذٍ وعطاء.. عملٍ يُقابله مكافأة أو عقاب)؛ تحت رعاية كهانة رجال الدين الذين تمادت اجتهاداتهم وقياساتهم الفقهية التي تُأطر الدين في الحدود المادية الملموسة وأمتدت إلى دروب العلوم وشتى المشاهدات الطبيعية لتفسيرها فظهرت ما سُمي بالتفسيرات العلمية للقرآن أو اجتهادات الإعجاز العلمي للقرآن لتُخضع النص المقدس الثابت دينيًا إلى متغير علمي؛ فأمتحنت الخالق الأعلى ونصه الكريم في أمور وظواهر علمية سُنت على التغير والتطوير باستمرار؛ ومع التغييب المتعمد للبحث العلمي الحقيقي المجتهد في النص بمنهجية علمية؛ بترهيب الباحثين وتهديدهم وإبعاده عن المشهد المجتمعي لصالح كهانة رجال الدين السلفي كصوت أوحد، تبلورت العلمانية في شكلها السطحي الشعبوي كمرادف عقيدي أمام عقيدة سلفية تتمركز وتدور في محورها التأصيلي المنفصل طوعًا عن متغيرات زمانها وتطورات عصرها؛ كما تقول الدكتورة “بثينة الجلاصي”، في معرض بحثها عن آلية القياس لدى بلاغي القرن الرابع الهجري: “إن القضية تكمن بكل بساطة، في أن الفكر البلاغي لم يجرؤ على تمحيص هذه المرجعية التي أصبحت مرتبطة بإطار زماني معين، هو زمن السلف، وأصبحت مرتبطة بأشخاص معينين، هو السلف، مما جعلنا نُدرك أن هذه المرجعية التي تمسك بها الفكر البلاغي والأصولي عامة، ونزهها عن الأخطاء والشوائب، هي مرجعية صنعها التصور والمخيال، مخيال المتأخر عن المتقدم، وصاغها وفق مطامح ذاتية وجماعية بددها الواقع السياسي والاجتماعي” (3).
ومع قوة الساعد السياسي لطبقة كهانة رجال الدين ونتيجة احتكارهم لشؤون النص ومفهومه؛ ظهرت المذهبية والطائفية محملة النصوص المقدسة من أحاديث نبوية ومرويات سلفية ظرفية ذاتيًا وموضوعيًا لزمانها التأريخي المنصرم؛ ليتم سحبها وقياسها على كافة الأزمنة وبالتالي على وقتنا الحاضر ليتم شحن جذوة الخلافات المذهبية؛ (بين السُنة والشيعة كمثال بين المسلمين)، والطائفية بين المسلم وأبناء الديانات الأخرى… إلخ، وهنا تستمر بوتقة الخلافات السياسية التأريخية السلفية منذ قرون تتقد مشتعلة إلى يومنا الحاضر بتخريجات ترسم معالم ومعايير الكافر والفاسق والمرتد؛ حتى بنفس المسميات التاريخية السالفة: الروابضة والخوارج والمعتزلة وأهل الذمة وهكذا إلى نهاية المصطلحات “السياسية/المذهبية” التي ظهرت في القرون الأولى من الألفية الهجرية الأولى.
سلطة خطاب كهانة رجال الدين..
ولتفكيك الخطاب الديني المهيمن لدى كهانة رجال الدين؛ نجد أنه كأي خطاب عام مندس في علاقات متشابكة يصعب تبينها، كما ترى “بثينة الجلاصي”، إلا أن بعض الفلاسفة حاول أن يتتبع وقع هذه العلاقات وأن يحصرها في إثنتين: تتمثل أولاهما في “السلطة” وثانيهما في “الحقيقة”، ذلك أن الخطاب الحقيقي حسب “ميشال فوكو”: “هو الذي في جزء منه يُقرر وينتشر ويُمرر آثار السلطة”.
وعلى هذا الأساس أضحى الخطاب صوت السلطة، يُروج لنجاعتها وأهميتها فكريًا وعمليًا، ويدعي بشكل من الأشكال امتلاك الحقيقة، والظفر بالمعنى الأصلي في قراءته النصوص، ويعمل على احتكار هذا المعنى لأنه يُعِد ما سواه مهمشًا فيسِمه بمعايير مختلفة (نقصد بالمعايير المختلفة تغيرها من مجالٍ إلى آخر، ففي مجال العقيدة يُعتبر المهمش كافرًا أو زنديقًا أو فاسقًا؛ وفي مجال التشريع يُعتبر خارجًا عن الجمهور؛ وفي مجال المنطق يُعتبر فاسدًا إلى غير ذلك من المعايير المتصلة بمجالات مختلفة)، وهو ما يضمن انتشاره وسريانه باعتباره يُمثل الرسمي. وبالاضافة إلى ذلك يضطلع الخطاب بدور حساس، إذ يُمثل الوسيط بين الباث والمتقبل، أو بعبارة الأصوليين بين الشارع والمكلف، سواء أكان هذا الشارع غيبيًا متعاليًا يُخبر بما حوى عليه النص الشرعي، أو كان إنسانيًا ممثلاً في الأصولي المجتهد في أحكام الشرع، وهو ما يجعل العملية أكثر تعقيدًا لتنوع قنوات الوساطة، وتعدد مصادر التشريع؛ ذلك أن الرسول ينتصب في المقام الأول وسيطًا بين الوحي والمكلف، ثم يخلفه الصحابة في القيام بهذا الدور، وكذا التابعون وتابعوهم لينتهي الأمر في الأخير إلى الأصولي (4).
وتحدث الأصوليون عن خطورة الوساطة في تبليغ الوحي، يقول “الجويني”: “فأما خطاب الله عز وجل، فأعلم أنه يتصل بذوي الألباب على وجهين من غير واسطة ولا تخلل مؤدٍ ورسول مبلغ (…)، فأما الوجه الثاني فهو الذي يتصل بالمخاطبين من جهة الرسل المبلغين فما هذا سبيله ترتب معرفته على العلم بصدق المرسل أولاً ووجوب عصمته من الخلف في التبليغ (…)؛ ثم صيغ الكلام تنقسم إلى نصوص ومحتملات (…)” (5).
ولو أردنا فهم سلطة الخطاب الديني المهيمن من الناحية السياسية؛ يستوقفنا ملاحظة “الجلاصي” بشأن توحد “الأمة” الذي يتشكل بدءًا بتوحد نصوصها، ومركزية النص إنما تُخبر عن مركزية الدولة، فكلاهما متعالق الوشائج مع الآخر، إذ النص نتاج المؤسسة وحال لسانها، ولذلك فإنها لا تتوانى عن إعادة إنتاجه حسب المصالح التي تُحركها.
وهذه الإعادة تستوجب وسيطًا يُروج خطاب النص ويعتبره جهة الحقيقة والمعنى الأصلي، فيشحذ له الهمم بما أوتي من كفاءة المحاججة، وهذا هو الدور الذي يضطلع به في النهاية جمهور الأصوليين.
………………………………………………………….
(*) بالطبع واقع تلك الفئة من التنويريون يُستثنى منهم العلماء والدارسين الجادين من الباحثين الأكاديميين والمثقفين أصحاب المنجزات الفكرية ذات المناهج العلمية المتماسكة والرؤية البنيوية؛ من أمثال: “حامد نصر أبوزيد” و”محمد عابد الجابري” وغيرهما من المفكرين المعتبرين.
(1) حرب الثلاثين عامًا؛ هي حرب مسيحية مذهبية استمرت بين أعوام: 1618 إلى 1648، في كافة أرجاء “أوروبا”، بين: الكاثوليك والبروتستانت، وقضى في تلك الحرب نحو: 12 مليون أوروبي، تمكنت “السويد”؛ حينها من هزيمة “الدنمارك”، وضم “فنلندا”، ومقاطعات شمال “ألمانيا”، وجمهوريات “البلطيق” الحالية؛ (إستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا)، ومع نهاية الحرب أضحت “السويد” قوة عظمى في شمال “أوروبا”.
(2) تدوينة عبر صفحته على (فيس بوك)؛ المعنونة بـ”جلجامش لوكالباندا”، في 09 شباط/فبراير 2022.
(3) “بثينة الجلاصي” – (محنة العقل: النص والقياس من اختلاف التفريع إلى ائتلاف التأصيل) – الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ 2017، ص 132.
(4) “بثينة الجلاصي” – (محنة العقل) – مصدر سابق ص: 07، 08.
(5) يُراجع (التلخيص في أصول الفقه)، تحقيق “محمد حسن إسماعيل” – دار الكتب العلمية، ط. 1، بيروت، 2003، ص: 55.