خاص : دراسة بقلم – د. مالك خوري :
بعض نقادنا تعجبوا هذا العام للنجاح الشعبي الواضح للمسلسل الرمضاني “جعفر العمدة” !
إذ كيف يجوز لمسلسل هم استفاضوا في وصف مشاكله في الكتابة، والإخراج، والتمثيل، وفي وصف تحويره “لحقيقة” البيئة الشعبية لمنطقة السيدة زينب والتي جعل منها المسلسل مسرحًا للفوضى والبلطجة والاستكانة أمام حكم الأقوى ؟!
وهؤلاء طالما تباكوا أيضًا، هذه السنة وقبلها، على تحول الدراما المشابهة لـ”جعفر العمدة” إلى عامل للجذب الأقوى لمشاهدات الأكثرية السّاحقة من متابعي مسلسلات رمضان، وكل الإنتاج التلفزيوني والسينمائي في السنوات الأخيرة !
ما يخفق هؤلاء في فهمه، أن الأفكار والتوجهات التي تكتسّب “شعبية” واسعة هي عادة تلك التي تُحاكي وتتناغم مع الحسّ العام لما هو سائد إيديولوجيًا، أو على الأقل ما لا يُمثل تحديًا جذريًا لها. وبالتالي، فإن مدى تعبير أي مسلسل عن تناغمه مع الأفكار السّائدة والمقبولة إيديولوجيًا يُسّهم إلى حدٍ كبير في تحديد نوعية وشكل قراءة العمل وتلقفه جماهيريًا، وبالتالي يُساعد إلى حدٍ كبير بتحديد مدى نجاح أو سقوط أي عمل. ويبدو أن المسلسل الذي اقترن تسّويقه هذا العام بالمشاركة الرئيسة للممثل محمد رمضان، قد اكتسب بوضوح العديد من النقاط التي جعلت منه بالنهاية محطًا لاهتمام ومتابعة أكثرية واضحة من المشاهدين والمهتمين بالدراما الرمضانية.
فالناقد الانطباعي لا يستوعب كيف يتحول “التوافق الفكري العام” على موضوع معين في أي مجتمع إلى عامل مفصلي يحسّم إلى حدٍ كبير ما يُصبح مقبولاً أو مفضلاً أو متناغمًا مع “الذاتية” (subjectivity) الشعبية الجماعية (بعمقها الإيديولوجي) لمتابعي أي عمل فني أو ثقافي. ولا بد من التوضيح هنا أن استعمالي لتعبير “التوافق الفكري العام” يُحاكي التعبير الذي استعمله المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي والمعروف بـ”common sense”، والذي يوصف لنوعية من التوافق الاجتماعي العام على “منطقية” فكرة أو أفكار محددة. وهذا النوع من التوافق هو توافق سّائد في الشكل وإن لم يكن بالضرورة له أساس علمي أو منطقي حقيقي له. لذا فإن هذا التوافق هو بطبيعته توافق إيديولوجي يُعّزز من قوته توافق الطبقات المهيمنة على المجتمع في مرحلة معينة حوله وتدويرها له.
بيد أنه من الطبيعي وجود عوامل أخرى كثيرة تتقاطع مع التناغم الإيديولوجي العام، وتحسّم بالنهاية العديد من مظاهر “الغلبة” لأحد المسلسلات فوق الآخرين. فالاهتمام الشعبي بمسلسل معين قد يعتمد بحيز صغير منه على ما يفضله النقاد ويكتبون عنه، لكن هناك عوامل كثيرة ترفد هذا الاهتمام وتعطيه زخمًا، وهذه دائمًا تتنوع ويتمايز وقعها بحسّب الظروف التي تتم فيها مشاهدة أي منتج فني.
المسلسل الرمضاني كحالة شعبية
وعلى سبيل المثال، لا يمكننا أن نغفل أنه في حالة المسلسلات الرمضانية، فإن العامل المتعلق بالمشاهدة الجمعية يلعب دورًا هامًا في توسّيع رقعة الاهتمام بالعمل، حيث تتحول عوامل التسّلية والضحك وتبادل التعليقات الساخرة إلى ديناميات مادية فاعلة في رفع مستوى التفاعل الجماهيري، خاصة في إطار جلسات السّمر المسائية خلال شهر رمضان على المقاهي الشعبية. وفي حالة “جعفر العمدة” هذا العام، فقد تميز بأسلوب سّردي “خفبف الظل” وناجح في تشجيع المشاركة اليومية لموضوعة تُثير فضول المتابعة والتعليق والتهكم لدى المشاهد. وهذا أسّهم بطبيعة الحال بتوسّيع الرقعة الاجتماعية لمشاهدته سواء طبقيًا أو عمريًا أو ثقافيًا.
في زيارة ليّ لأحد المقاهي الشعبية التي كانت تعرض المسلسل يوميًا في منطقة قريبة إلى شارع الهرم، كان الحضور منوعًا إلى درجة كبيرة وشمل شبانًا من خلفيات شديدة التفاوت: طلبة جامعيين، إلى عمال من السكان المحليين، إلى “سينيفيليين”، كلهم يجمعهم جو أقرب إلى أجواء مشاهدة مباراة لكرة القدم التي يُشجع فيها المشاهد فريقه المفضل بكل ما يختزنه من حماس وطرافة في التعليقات والفضول، واعتمادًا على “التأييد” والتناغم الجمعي الذي يسّتمده من المحيطين به من رواد المقهى.
ويمكن القول بتجرد بالنسّبة للنواحي الفنية أن “جعفر العمدة” شابه في مستواه ما شاب معظم المسلسلات التي طرحت هذا العام، والتي عانت من الهبوط المزمن في مستوى حرفية الكتابة والإخراج والتمثيل والتدقيق (سواء في خلفيات التصميم العام أو الوضعي التاريخي). وهذا الواقع يبقى معنا للأسف على الرغم من التقدم في الإمكانيات التقنية الجيدة التي أصبحت متوفرة بشكلٍ واسّع والتي من المفترض أن تكون قد سّهلت توفير الإمكانيات الأفضل للفنانين والمنتجين للقيام بما هو متوقع منهم في التركيز على الأبعاد الفنية الأشمل لعملهم.
إلا أنه من الضروري أن نُلفت النظر أيضًا إلى أن “جعفر العمدة” نفسه تميز عن الكثير غيره (بما في ذلك الأعمال التي كان يحتفي بها بعض النقاد في مصر مثل “الهرشة السابعة” وحتى المسلسل الهام “تحت الوصاية”) بالتشويق المستمر للأحداث، وهذا بالتالي رفع من قدرة المسلسل على جذب ترقب واهتمام المشاهد بشكلٍ يومي. وسّاهم هذا أيضًا بجعل المسلسل ومسّارات تطوراته الدرامية محطًا لاهتمام الشرائح الأوسّع من المجتمع المصري هذا العام. وأحكم هذا النجاح توجه المسلسل إلى استخدام نوعية مميزة في الإخراج جعلته يتسّم بالطرافة والخفة.
“الكامب” كعامل تجديدي
فالمبالغات في رسم الأحداث وتواترها وردود الفعل عليها من قبل شخصيات المسلسل لم يُضعف من جاذبية “جعفر العمدة”. بل على العكس، فإن تلك المبالغات الشبيهة بما أصبح معروفا بأسلوب الـ”camp” والذي يستعمل مرجعيات نمطية في الأداء التمثيلي والإخراج بقصد “اللعب” بها والتخفيف من “جدية” تلقف المشاهد لبعض مناحيها الميلودرامية، لعبت بدورها حيزًا في التخفيف من وطأة بعض النقد “المترفع” (High Brow) تجاه المسلسل، وحتى تسّخيفها. فهذا الأسلوب يستجلب المبالغة والإفراط في “المزايدة” في الأداء، بما يُضيف مساحة تفاعل “طرية” للتسّلي وتبادل تعليقات “النميمة” “غير الجدية” من قبل المشاهد تجاه مجريات الأحداث من قبل المشاهد.. وكأن المخرج هنا يُحرض المشاهد على أن يكتفي بالتلهي العبثي بما يراه بغض النظر عن اقتناعه أو عدم اقتناعه بمنطقية ما يقدمه. نرى هذا بوضوح في مشهد تشفي عائلة العبدلله بعائلة “العمدة” بعد دخول الأخير السجن، حيث تتواتر ظهور “الأعمال الشريرة” لأفراد من العائلة، كي يبدوا بالنهاية كمن دخل في “سوق مزايدة” لإثبات مدى “سفالته” و”خساسته” بالمقرنة مع الآخرين.
أمثلة أخرى في هذا السياق، هو ما يمكن وصفه بماراثونات البكاء بعد أن يذهب جعفر لشقيقه سيد ويُعيد عليه السؤال حول ما إذا هو الذي خطف ابنه وأجهض زوجته دلال أم لا ؟ فيبكي سيد مستنكرًا شك شقيقه فيه، ولكن جعفر يطلب منه أن يحلف اليمين على المصحف إذا كان صادقًا واستجابة سيد لطلب جعفر، ليتعانق الاثنان ويبكيان. مثال “الماراثون” الآخر الأكبر والأهم هو حين يلتقي جعفر بزوجاته في الحلقة 24 ويقول لهم أنه لم يُعد قادرًا على حمايتهم وأنه يظلمهم، متابعًا: “اللي عايزة منكوا تحمل تتفضل مش همنع أي واحدة منكوا تعمل كده” ثم يُخاطب شقيقه سيد، معبرًا له عن أسفه لشكوكه الدائمة تجاهه: “أنا بس نفسي ألاقي ابني ويعيش معانا، وأنا خايف على عيالي من قبل ما ييجوا” ويُضيف أنه سيترك زوجته الرابعة عايدة متسائلاً عن السبب وراء حصول كل ما يحصل له: “أنا مش عارف بيحصل معايا كده ليه يارب ارحمني وشيل عني يارب أنا معملتش حاجة وحشة في حد يارب”، ثم ينهار في البكاء، لتتلقف الكاميرا بقية شخصيات المسلسل الحاضرين وهم يبكون بحرارة عبر لقطات بعيدة وقصيرة مبالغ في ميلودراميتها وتكرارها. وكذا يبدو أداء محمد رمضان والمسلسل بشكلٍ عام بخفته وعبثيته هذه أكثر تماشيًا مع ما ذكرته من قبل عن الروح “الكامبية”، التي تُحاكي المشاهد عبر “المبالغات” المتوازنة والهادئة الأشبه برمي “غمزة” من طرف العين، وكأنها تقول له: “أنا أدرك ما يدور في خلدك، فلا بأس من أن تتمتع بما تشاهد ولا تتعامل معه بجدية كثيرة” !
لكن هذه الجرعات التي تفتح طريقًا لتحويل المسلسل إلى ممارسة وأداء درامي “يُحاور نفسه” أو يُشكك بطروحاته الفكرية العامة، لا ترقى لأكثر من استثارة ابتسامة عابرة هنا وهناك أو بعض الفضول لدى المشاهد العادي. وضمن “خفر” المسلسل في استعماله لهذه لتقنيات التلاعب، فإن “الكامبية” هنا لم يكن بإمكانها أن ترتقي لتتحول إلى توجه متكامل يطال العمل ككل ويُشابه بعض الألعاب العبثية الخفيفة التي طبعت وتطبع العديد من الأفلام والأعمال التي تحنو باتجاهات تتلاعب بمرجعيات سينمائية جنرية أو تاريخية. فمثل هذه المحاولات كثيرًا ما تنجح في التشكيك بالمقولات الفكرية الرجعية أو “مداعبتها” ومحاورتها بشكلٍ أو بآخر. لكن هذه الجرعات الصغيرة من العبثية في السّرد والثيمة والأداء، والقادرة (لو تكاملت أو تبلورت أكثر) على أن تفتح طريقًا لمحاكاة “محاورة” أو رديفة للنص، كانت أبعد ما يكون عن طبع “جعفر العمدة” بمفاعيلها.
فالتوجه “الكامبي” العميق والمُلتزم في مسلسل مثل “جعفر العمدة” كان من الممكن أن يفتح بوابات عديدة “لمداعبة”، أو مساءلة، أو حتى تحدي المقولات الفكرية الرجعية التي يحفل بها هذا المسلسل. بيد أن التبني الشكلي والمجتزأ لهكذا توجه في العمل لم يرقى لأكثر من قدرته على رسم ابتسامة عابرة أو بعض الفضول أو عدم الفهم لدى المشاهد العادي والغير معتاد على هذا الأسلوب. وهذا ما جعلها لا تعدو أن تكون جزءًا من مساحة للعب العبثي وغير الهادف الذي اعتدنا على مشاهدته بأشكال متباينة وأكثر وضوحًا في أفلام وأعمال كانت يُطلق عليها خلال الحقبات الأخيرة التوصيف “المطاط” لما “بعد الحداثة”. ويتحول “العمدة” بالنهاية إلى أساس فعال لإعادة تدوير قيم إيديولوجية تُقدس البطولات الفردية وتحتفي بفاعلية البلطجة في حسّم الخلافات، وبالذكورية وتعددية الزوجات، وقمع المرأة والعائلة البطريركية، وبالمقابل تهمش دور العلم والثقافة والتخصص، وتقرن كل هذا “بوطنية” و”تدين” زائفين.
فمثل هذا الأسلوب “الكامبي” في التعاطي، وحين يتكامل مع كتابة و”تخريج” واضحين على مستوى الوعي والالتزام السياسي المغاير طبقيًا، هو قادر، من حيث المبدأ، على أن يُدين، أو على الأقل يُشكك جذريًا بالطروحات الفكرية العامة التي يرسم العمل الفني ملامحها بهدف نقدها. وهذا بالظبط ما كانت تنجح بتحقيقه مجموعة مميزة من أفلام المخرج الأميركي الكبير ميل بروكس في السبعينيات من القرن الماضي، حين كانت “محاكاته الساخرة” (parody) للجنرات التقليدية لهوليوود تُسّهم في فضح وكشف مظاهر عديدة من الفحوى الإيديولوجية الطبقية لعنصرية وذكورية هذه الإيقونات الجنرية الأساسية والناجحة مثل “الويستيرن” والرعب، و”الميوزيكال” وغيرها في حينه.
حول ضبط المفاصل السّردية للبُعد الإيديولوجي
لكن “جعفر العمدة”، كان في النهاية دائمًا يميل إلى ضبط المفاصل الأساسية التي تضمن تدوير قيم إيديولوجية عديدة للميلودراما المصرية والعربية الرجعية الطابع والمحتوى والتي تجتر الاحتفاء بالبطولة الفردية، وتهمش دور العمل والتعليم والثقافة بالمقارنة مع النجاعة العملية “للبلطجة” والعنف في حسّم الخلافات، والذكورية المفرطة، والتعددية “المتوازنة” و”العادلة” للزوجات، وأهمية العائلة البطريركية كأساس للمجتمع الأقرب للمثالية.
بالتالي فإن أهمية مسلسل مثل “جعفر العمدة” تكمن في قراءته كمكون ثقافي شعبوي إيديولوجي. وهكذا قراءة بدورها تُساعدنا على تميّيز واستيعاب طبيعة وديناميات العديد من المسّلمات الفكرية التي تحكم مجتمعاتنا بشكلٍ عام، وفي هذه المرحلة من تاريخها بشكلٍ خاص. فبغض النظر عن الركائز الفنية السّلبية والإيجابية للمسلسل، فإن تقييّم موقعه كمكون ثقافي يرتبط بقدرتنا على فهم حيثيات وأشكال تفاعله مع الواقع الإيديولوجي السّائد في مجتمعاتنا، وكذلك استيعاب عمق دوره في إعادة تفعيل وتدوير الأسّس الفكرية الواعية واللاوعية التي تدعم وتكرّس هيمنة هذا الواقع السّائد.
فنحن هنا نتحدث عما يتخطى موضوع التعاطف مع شخصية مثل جعفر وما يُمثله ذلك في خضم الواقع الاقتصادي والسياسي الصعب للكثير من العرب والمصريين، وفي خضم فقدان الكثيرين من هؤلاء لثقتهم بنفسهم وبالمجتمع وبالدولة وبإمكانية أي من هذه العوامل على التجاوب مع قضاياه وطموحاته. ونحن أيضًا نتحدث عما يدفع إليه مثل هذا اليأس من تكريّس للتعاطف مع شخصية البطل الشعبي الذي يرد بيده المظالم عن نفسه وعن مجتمعه !
البطل الشعبي كبطل فردي
فلنأخذ على سبيل المثال موضوع البطل الفردي: فكلنا مُدرك أن مسلسل “جعفر العمدة” يعتمد على أحد أكثر أعمدة الجاذبية في المسلسلات والأفلام الشعبية. ففي المجتمعات البرجوازية تكتسّب فكرة دور الفرد في حسّم إمكانية تحقيق النجاحات والانتصارات (في تطوير نفسه وفي تخطي ومجابهة الصعوبات على الصعيد الشخصي والاجتماعي والاقتصادي) مركز الصدارة على كل الأصعدة السياسية والفنية والتعليمية والتحليلية، وعلى كافة أشكال السّردية السّائدة، الشعبية منها كما الرسّمية والإعلامية والدينية وغيرها.
فموضوعة أولوية الدور الذاتي للإنسان في حسّم مصائر ما يُجابهه في الحياة، تبقى إحدى أكثر الأفكار قبولاً واستعمالاً في سياق الخطاب السّردي للتاريخ وللتحليل الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات البرجوازية بشكلٍ عام. وفي نفس الإطار تأتي أيضًا فكرة الدور الفردي في إنقاذ المجتمع والعالم من “طغيان الأشرار وجبروتهم وظلمهم”.
إن الفكرة الأساسية وراء “بطولات” محمد رمضان وشعبيته، والتي تكرسّت تدريجيًا عبر استخدامها المكرر في العديد من الأفلام والمسلسلات (ومنها بالطبع “جعفر العمدة”) بالإضافة إلى استعراضاته الغنائية والراقصة، تمحورت في معظمها حول كونه أيقونة فردية “مثالية” وناجحة. وأضاف اجترار محمد رمضان لنفسه كشخصية عامة (في الإعلام والمقابلات وفي الأداء) كمثال لما يمكن أن يُحققه “كل من يعمل” بجدية من أجل النجاح قوة وقع وجاذبية إضافية لما يُقدمه فنيًا من تنويعات حول نفس الثيمة. كيف لا والتنويعات التي طالما طالت شكل ومضمون شخصيات رمضان اعتمدت في أكثريتها السّاحقة على إعادة تدوير وصياغة وتخريج السيناريو التقليدي لكل النماذج المعروفة في أفلام البطولات الفردية التي هيمنت تاريخيًا وما زالت تُهيمن على الحيز الأكثر “شعبية” من عروض السينما (واليوم، المنصات) الهوليوودية والمحلية وشركات الإنتاج الفني الأضخم في العالم. ومعظمنا يعرف أن هذا النوع من السينما معروف ومستمر منذ بدايات السينما وفي أنجح نماذجها سواء في إطار جنر “الويسترن” التقليدي أو الجديد، وكذلك ضمن أفلام الآكشن المعروفة، سواء بنسّخها الفجة أو بنسّخها الأكثر تعقيدًا (سلسلة “جون ويك” مثلاً).
الجدعنة والفهلوة كمثال أعلى
إن مقاييس النجاح والقيادة البطولية التي يُمثلها “العمدة” ترتبط أيضًا بفكرة تطوير الذات عبر منطق “الجدعنة” المرتبط بدوره بقدرة الفرد على حيازة الخبرة في التعايش والتعاطي مع ما يجري تقديمه في بعض المسلسلات كصراع دائم لا يرحم ساحته شوارع المناطق الشعبية المصرية. ويجري تصوير هذا الصراع كواقع مهيمن ومتنوع الأشكال هدفه إثبات الذات والتفوق والبقاء، ضمن عالم لا يُجدي فيه العلم أو التخصص أو اكتسّاب الحرفة أو حتى العمل “الشريف” ! والبديل لكسّب الصراع هو الإندثار والتهميش ! ومن المفارق، أن الكثير من الدراسات السوسيولوجية تقول في معرض رسّمها للواقع الاجتماعي في المناطق الشعبية بأنها تتسّم في كون معظم شبابها لا يتحدثون عن الحرفة والعمل والعلم أو التخصص كهدف يطمحون إليه. وأن هؤلاء في معظمهم يُجيرون السؤال حول طموحاتهم إلى جواب يُعبرون من خلاله عما يحلمون أن يقتنوه من الرفاه الاستهلاكي الذي يمكن لهم من خلاله البقاء ضمن حلقة لا تنتهي من الاستهلاك العبثي. وحتى حين يُحدد بعض هؤلاء مهنة معينة، فهم لا يتكلمون عن المهنة نفسها (طبيب، مهندس ، محامي، الخ) بقدر ما يسّتلهمون ما تُمثله الحرفة لهم من تحسّين لإمكانية المساعدة في تحريك وتسّهيل دوران عجلتهم الاستهلاكية.
ضمن هكذا “منطق” شعبي مهيمن، يُصبح من الطبيعي أو المقبول مثلاً في أحد المشاهد من الحلقة الخامسة من مسلسل رمضاني آخر هذا الموسم (“تحت الوصاية”) أن يقول الجد للأم أن “تبذير فلوسها على التعليم الجيد لابنها لا يجب أن يكون أولوية”، لأنها بذلك تُبذر المال الذي ورثه الأب لأبنائه !
إن هيمنة طبقات برجوازية تتبنى نسّخة مسّخ للرأسمالية الكومبرادورية غير المُنتجة والتي تعتمد مرجعية “الاستيراد والتصدير” والفهلوة الريعية كأساس “لأخلاقياتها” على صعيد العمل، سّاهمت في اضفاء نوع من التناغم والتوافق حول أن “النجاح” في الحياة مرتبط عضويًا بالقدرة على التماشي مع والانخراط في لعبة الاقتصاد العبثي القائم على مراكمة الأرباح بأي وسيلة، والذي يميل إلى تهميش منطق تشجيع الاقتصاد الصناعي أو الزراعي المُنتّج أو المتخصص. لذلك تُصبح شخصيات مثل شخصية محمد رمضان في “جعفر العمدة” وياسر جلال في “خيانة مشروعة” وغيرهما أمثلة مقبولة (إن لم تكن مفضلة إذا ما أزيلت منها بعض الشوائب) “للرجل الناجح” في الشطرين الأكثر أيقونية لمجتمعنا: مجتمع المناطق الشعبية، ومجتمع “الكومبوندات”.
كل هذا، يُذكرنا بمنطق “جعفر العمدة” الذي يُعاد تدويره من خلال المسلسل كما من خلال مقابلات واستعراضات محمد رمضان الإعلامية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي: ما يُحقق “النجاح” (طبعًا بمفهوم المجتمع الاستهلاكي) يكمن في كيفية الانخراط مع اللعبة الاستهلاكية كهدف أعلى وأوحد للحياة وللعمل.
لذلك فإن الإطار الإيديولوجي العام لشعبية رمضان يكمن في ما تُحاكيه شخصيته في لا وعي ووعي المشاهد والمتلقي. وهنا، فإن ما كان يُركز عليه بعض المنّظرين السينمائيين لجهة مماثلة تعاطف المشاهد مع الشخصية الرئيسة (“البروتاغونست”) كتشبيه مجازي لما يطمح إليه في حياته، قد تنطبق إلى حدٍ كبير مع ما تُمثله شخصية محمد رمضان كما أضحت عليه في المخيلة الشعبية: البطل الناجح، الذي بدأ حياته من مناطق شعبية ثم استطاع أن يتسّلق سلم الشهرة “والنجاح”.
كل هذا مقرون بأن “الوصول” إلى مثل هذا النجاح لا يحتاج لا إلى ثقافة أو علم أو أي جهد طويل الأمد، أو حتى موهبة مميزة في الفن والتمثيل. و”الدليل” بالطبع هو أن رمضان نفسه استطاع تحقيق ما لم يستطع غيره تحقيقه حتى بعد سنين من الجهد والمثابرة. فما وصل إليه رمضان يُثبت (طبعًا طبقًا لهذا المنطق) أن “الجدعنة” و”الفهلوة” و”إعطاء المشاهد ما يُريده” لناحية الأدوار النمطية للرجل الذي يتحول إلى البلطجة حين يُلزم الوضع، هو (على الأقل) أحد الطرق الأكثر نجاعة لهذا النجاح.
الشرعية الدينية كبوصلة ثابتة
طبعًا هذا كله لم يكن ليُمثل الحالة الإيديولوجية المهيمنة بشكلها الأوسع والأكثر عمقًا، لولا اضفاء الشرعية الدينية على كل ما يحدث في المسلسل. فالخطاب الديني عن صراع الخير والشر (وهو الإطار الذي يُغلف كل التناقضات “المعترف بها” في كافة صراعات الأقاصيص المتداولة في المجتمعات الطبقية)، يبقى حاضرًا على الدوام سواء من خلال شخصية جعفر نفسه وترداده الدائم للتعابير والمقارنات الدينية والمعبرة دائمًا عن “عمق تدينه”، ومن خلال تدين كل شخصية يُقدر لها أن تلعب دورًا “إيجابيًا” في المسلسل. إذ من غير المقبول ترك أي فراغ لجهة تناغم كافة مجريات القصة بكل أبعادها مع ما هو مقبول به شرعيًا.
فمن المفارقات خلال عرض المسلسل على سبيل المثال حدثت بعد إحدى الحلقات المفصلية والتي شهدت إعلان زواج عدو جعفر اللدود من زوجة شقيقه بعد أن كانت قد خلعت زوجها سّرًا. فقد ضجت شبكات التواصل الاجتماعي بالانتقادات لهذا التصرف “غير المقبول دينيًا”. وبالنهاية، فإن نفوس المتفرجين والحاضرين على وسائل التواصل الاجتماعي لم تهدأ قبل توضيح المسلسل بأن هذا النوع من الخلع غير المعلن قد حدث فعليًا من قبل، وأنه كان تصرفًا مقبولاً من قبل رجال الشّرع !
وفي نفس السّياق، فإن علاقة الشاب سيف (ابن جعفر) مع ابنة صاحبة الملهى الليلي كان لا بد لها أن تنتهي قبل أن يتعرف جعفر على حقيقة هوية سيف وقبل انتهاء المسلسل. إذ لم يكن من المقبول استمرار الصداقة بين الاثنين إذا ما قيد لسيف أن يكون الابن “البار” “للجدع” الذي يستظل حدود الدين في كل ما يفعله. وكذا كان حرص المسلسل على أن يتخلى جعفر عن الإقراض بالفائدة قبل انتهاء الحلقة الأخيرة، وذلك بعد استشارته مع الشيخ في الجامع.
ومن الطرائف التي رافقت عرض المسلسل كان خلال مقابلة تلفزيونية مع المخرج محمد سامي والذي سألته مقدمة البرنامج عن الرسالة الأخلاقية لـ”جعفر العمدة”. وبعفوية المُصّر على استلهام الخطابية واللفظية “الدينية” في جوابه، لجأ المخرج إلى استعمال كلمة لم يسمع بها أحد: “رسالة المسلسل هي “البرور” ! وبعد تساؤل المذيعة عن معنى الكلمة، حاول سامي استجماع كلامه ليُفسّر “الماء بعد الجهد بالماء”: “البرور بالأسرة، البرور بالأب، البرور بالأم والبرور بالأخ عشان إحنا في شهر كريم”.. طبعًا ما كان محمد سامي يُحاول ترجمته هو كلمة “البِر” ببُعدها الديني المعروف !
إن ما يُعبّر عنه المسلسل من هيمنة شبه مطلقة لمنطق الأولوية الشرعية المسّتقاة مما تعتبره الفتاوى والمنطق الديني مقبولاً، لا يُمثل طرحًا خاصًا بهذا المسلسل وحده. فهكذا طرح يُشكل مروحة إيديولوجية مهيمنة ومرجعية عامة لأي عمل فني هذه الأيام. وبغض النظر عما إذا كانت الأعمال الفنية عندنا تتناول بشكلٍ أساس مواضيع وثيمات دينية، أو دراما اجتماعية أو آكشن، أو غيره، فالفكرة نفسها تبقى أساسًا لما أصبح متعارفًا عليه (مع وجود استثناءات قليلة تكتسّب من وقتٍ لآخر بعض الاهتمام كما جرى في مسلسل “تحت الوصاية” هذا العام حين جرى طرح موضوع ذكورية قوانين الوصاية التي تُغلف نفسها بالشّرع والدين، مما أدى إلى احتجاجات عديدة من قبل بعض الأوساط “المتدينة” أو المؤيدة لجهات سّلفية).
إن أي مسّح جدي لمسلسلات رمضان في مصر هذا العام يخّلص إلى نفس النتيجة: ما هو مقبول “شرعًا” وبناءً على “الفتاوى الدينية” المتفق عليها، يُصبح مرجعية إيديولوجية ليس للمسلسل نفسه بل لما هو موضع (consensus) بين مكونات “التحالف الطبقي المهيمن تاريخيًا” في هذه المرحلة (يطلق غرامشي على هذا التحالف المهيمن تعبير: “The Historical Bloc”). وهذا التحالف هو الذي يضمن بالنهاية سيّطرة الطبقة المهيمنة على مجتمعاتنا في هذه المرحلة من خلال التقاءها حول “common sense” “منطق مقبول” إيديولوجيًا لا يتعارض مع مصالحها وإن كان متأثرًا إلى حدٍ كبير بما درجت الحركات الإسلامية طوال العقود الماضية على تسّويقه كمنطق “طبيعي” يفوق منطق الدولة المدنية.
خاتمة
مع تراجع الاهتمام بالثقافة وتقاطع ذلك مع تصاعد هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي كأداة وحيدة لاستقاء المعلومات والتعرف على العالم، فإن التفكير المهيمن يتحول إلى إطار عشوائي للنظر إلى الحياة والواقع الاجتماعي والسياسي السّائد. وهذا الفهم يرتكز بطبيعته على ما هو مهيمن في وسائل التواصل من مزيج من “الترندات” العبثية التي يغلب عليها خليط من التحليل الديني الشديد المحافظة، والقبلية الطائفية، والذكورية، والشبق الجنسي، بالتقاطع مع “ترندات” تسّويق استهلاكية لبضائع تتجاوز قيمتها الشرائية قدرة الغالبية العظمى من الشعب. كما يقترن هذا بطبق يومي من الأنباء “المفلترة” عما يحدث في بلادنا وفي العالم، ومن خلال منظار يرتبط مباشرة بما تُقدمه وسائل الإعلام في الدول الإمبريالية ودول الخليج.
لهذا فإن ما يُكرر محمد رمضان تدويره لا يتجاوز ولا يتطاول على أي من المسّلمات المتفق عليها، ليس فقط بين الطبقات المتوسطة والعُليا من هذه المجتمعات، لكن خصوصًا بين الفئات العاملة والمهمشة من مجتمعاتنا، وذلك بغض النظر عن اختلاف الشكل والملبّس الذي يتخذه هذا المنطق بين سكان المدن الجديدة والمناطق المعزولة لبرجوازيات البلاد وبين سكان المناطق الشعبية والعشوائيات. ما يُجسّده رمضان إذاً ما هو إلا تدوير لحالة “الأدلجة” الفكرية المهيمنة والتي تفرض نفسها كحالة “توافق فكري عام” مهيمنة في المرحلة الحالية على واقع التحالفات الطبقية في بلادنا.
لقد حولت الرأسمالية الإمبريالية عوالمنا الثالثة إلى مرتع للاستهلاك العبثي، وجعلت من أحلام الشباب أساسًا لأوهام محدودة الآفاق والرؤية. هذه الإمبريالية التي قيّدت عوالمنا بالديون بعدما نهبت كل ما استطاعت إليه من المكونات المُنتجة لاقتصادياتنا، لم يُعد لديها ما تُقدمه لنا سوى الأوهام. لذلك فإن ما يُهيمن إيديولوجيًا على قناعات شرائح كبيرة من الطبقات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة هو “المثل الأعلى” القادر على “التعامل” مع هذا الواقع والتحايل عليه وتطويعه بكافة الوسائل ليُجني منه ما يكفيه للتمتع بدورة الاستهلاك التي لا تنتهي.
في هذا الإطار، فإن الشخصيات “الشعبية” المقترنة بمثال محمد رمضان (سواء بوجهه “البرجوازي” كما في “جعفر العمدة”، أو في تجلياته ضمن البيئات الطبقية المهمشة)، تُمثل نسّخًا محلية “للحلم الأميركي” القديم. لكن هذه النسّخ تبقى نسّخًا مفرغة من أي مقومات مادية تدعمها كما كانت تدعم إلى حدٍ ما أحلام البرجوازية الصاعدة في شمال أميركا في القرون الثلاث الماضية. فواقع بيئة “الحلم الأميركي” في بلادنا مكبل بمحدودية الاقتصاد الريعي الاستهلاكي وغير المُنتج. وبالتالي فإن الحلم الأميركي عندنا هو “حلم” يتسّم أكثر من أي وقتٍ مضى “بأدلجة” تتناقض جذريًا مع الواقع الحقيقي لشعوبنا.
- نشرت هذه الدراسة لأول مرة بالمجلة السينمائية المتخصصة (سومر).