عرض/د. محمد يسري أبوهدور
يؤكد الكتاب على عبثية الاعتقاد السائد الذي ينظر للحداثة بوصفها منتجاً أوروبياً خالصاً، في الوقت الذي يميل فيه لاعتبار الحداثة مشروعاً عالمياً.
استعان الغرب بالكثير من المؤثرات الحضارية من الخارج، ولا سيما تلك التي استوردها من الحضارة الإسلامية
مؤلفة كتاب “إعادة التفكير في الحداثة: نزعة ما بعد الاستعمار والخيال السوسيولوجي” هي أستاذة علم الاجتماع ومديرة مركز النظرية الاجتماعية، وقد شغلت منصب أستاذة زائرة في الولايات المتحدة الأميركية في تخصص الفكر الاجتماعي النقدي، كما حصلت على جائزة تذكارية في عام 2008. وتنحصر اهتماماتها البحثية في مجال علم الاجتماع التاريخي، ودراسة نزعة ما بعد الاستعمار، ومن مؤلفاتها، الكوزموبوليتانية وحالة نزعة ما بعد الاستعمار، علم الاجتماع التاريخي والحداثة ونقد نزعة ما بعد الاستعمار، وإمكانيات وجود علم اجتماع العولمة.
أوروبا والاستعمار: تنافر أم تكامل؟
ترى المؤلفة أن عصر الاستعمار الأوروبي قد شكّل منعطفاً تاريخياً خطيراً، حيث أن العلاقة الاستعمارية تسببت في تشكيل واحدة من العلاقات الجوهرية بين أوروبا من جهة وافتراضاتها عن الآخرين من جهة أخرى.
تضرب بامبرا مثالاً على ما تعتقد، وهو ذلك الذي يدرس العلاقة بين الاستعمار الإنجليزي والثقافة الهندية في القرن التاسع عشر، حيث تذكر أن الخطاب الاستشراقي المتزامن مع فترة الاحتلال البريطاني للهند كان يروّج للفكرة القائلة إن الهند لم تكن تمتلك الأدوات الصالحة لتأريخ ماضيها، وأن الهنود لم تكن لديهم مطلقاً أي معرفة بثقافتهم الخاصة أو أنهم يستطيعون تطوير إحساسهم بالقومية على أسس ذاتية.
وتبرز الباحثة رأي بعض المؤرخين الذين يرون أن الهنود لما حاولوا التعبير عن سخطهم ضد المحتل الإنجليزي، فإنهم قد استخدموا مصطلحات أوروبية، مثل القومية وثورة البروليتاريا، وهي المصطلحات التي تبيّن عمق تأثير الثقافة الإمبريالية الأوروبية في تشكيل ثقافة الهنود.
هذه المنهجية أثّرت كثيراً في تطور علم الاجتماع، فبحسب ما تذكر المؤلفة، صار الغرب محوراً، وصارت الحداثة هدفاً ومقياساً معيارياً، بل إن دراسة علم الاجتماع نفسه قد تأثرت بتلك النظرة الاستعمارية، حيث “اتبع التراث الكلاسيكي لعلم الاجتماع تبنّي نظرية التحديث كفكرة لتغيير المفهوم المعياري للحركة الخطية من ماضٍ تقليدي إلى مستقبل حديث، واستقرت تفسيرات عمليات التحديث أساساً في سياق الفهم التاريخي للمجتمعات، وأن كل شكل يُحل بشكل أكثر تقدماً، وقدمت المجتمعات التقليدية، أو مجتمعات ما قبل الحداثة للمقارنة مع مجتمعات بديهياً حديثة، وكانت المشكلة تأسيس وصف للتحول التاريخي من واحد إلى آخر”.
وتلاحظ بامبرا أن المنافسة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية إبان فترة الحرب الباردة، قد عطّل إلى درجة معينة من الاتفاق التام على الشكل المعياري للحداثة، وهو الأمر الذي تغير تماماً بعد سقوط الشيوعية، حيث ظهر الكثير من المثقفين الذين أعلنوا من النموذج الأميركي، نموذجاً معيارياً نهائياً، ومن أهم هؤلاء فرانسيس فوكوياما في أطروحته المشهورة حول نهاية التاريخ.
تهاجم بامبرا ذلك المنهج الاستشراقي، وتستعين بكتابات بعض المؤرخين الذين ذهبوا إلى أن المادة التاريخية والوعي التاريخي، كانا موجودين ومتأصلين في المجتمعات التي جرى استعمارها، ولكن حضورهما كان بمزاج مختلف عن ذلك الذي يميّزه الغربيون.
وتسلّط المؤلفة الضوء على بعض النظريات التي عملت على تفسير ظهور الحداثة، بافتراضها عملية اجتماعية شاملة شكّلت نمطاً عاماً، وعالمياً، حيث تبدو الحداثة في مرحلتها الأولى وكأنها منبثقة في المقام الأول كنتيجة للديناميات الداخلية للمجتمعات الغربية. كما أن العديد من العلماء قد رفضوا القول بأن الحداثة يمكن أن تكون بديلاً للتراث في الجانب المتخلف من العالم، وناقش بعضهم الاعتقاد بأن الناتج من عملية التحديث في تلك المناطق، قد يتشكل من مزيج ما بين التراث والحداثة، بحيث يشتق كلاهما الدعم من الآخر، بدلاً من رؤيته بكونه اصطداماً بالمتعارضات.
ويرى الباحثون المؤمنون بذلك التوجه أن الحداثة التي ظهرت في الغرب لا يمكن أن تظهر بنفس الشكل في أماكن أخرى، وأن أهداف التحديث في أوروبا وأميركا لا يمكن أن تكون هي نفس الأهداف التي نتوقع ظهورها في أفريقيا وآسيا.
هل هناك مجتمع عالمي؟
من النقاط المهمة، التي تشير إليها المؤلفة في معرض دراستها لعلم اجتماع الحداثة، أن ذلك المفهوم قد تسبب في الإلحاح على إعادة التفكير في إيجاد أسس معرفية عامة لتاريخ الحداثة، حيث تذكر أن المجتمعات لا تتغير أو تتطور كهويات مغلقة، لكن كجزء من سياق عالمي أكثر اتساعاً، ومن هنا فإنه يمكن تفنيد ادعاءات الغرب بوجود تاريخ مميّز له.
وترى بامبرا أن استدعاء الأرشيفات العالمية والعلوم الجغرافية والقراءات التاريخية المقارنة، قد يمكننا من فهم التطور التاريخي الغربي فيما يخص الحداثة، باعتبارها ظاهرة نسبية قد تعرضت للتأثير والتأثر المتبادلين، لا كظاهرة منفردة تشكلت في معزل عن السياقات العالمية المعاصرة.
هل يمثّل عصر النهضة حداً فاصلاً بين الحداثة وما قبل الحداثة؟
في سياق دراستها لظاهرة الحداثة، تناقش المؤلفة بعض الأقوال والمعتقدات التقليدية التي ارتبطت بالتقدم الغربي، وصارت قوالب محفوظة يرددها الباحثون من دون إعمال النقد أو التشكيك فيها.
أولى تلك المقولات هي تلك التي تروّج لدور عصر النهضة الرائد في إنتاج الحداثة الأوروبية.
تذكر المؤلفة أن عصر النهضة قد عُرف على نطاق واسع بأنه كان مبشّراً بميلاد أوروبا الحديثة، وذلك بناء على كثرة الاختراعات والاكتشافات العلمية والصناعية التي ظهرت فيه، وأيضاً لكونه العصر الذي اتسعت فيه رقعة الكشوف الجغرافية، وتطورت فيه الحركة التجارية، ولكونه العصر الذي ظهر فيه المذهب الإنساني المتشكك في كل ما حوله، وما نتج عن ذلك من قيام حركة مراجعة شاملة لكل المفاهيم اليقينية التي سبقته.
ترى بامبرا أن عصر النهضة لم يمثّل قطيعة معرفية مع العصور التي سبقته، بل إنه في الحقيقة كان محاولة لإحياء المعارف والعلوم التي ظهرت وتم اكتشافها في الفترات التاريخية الأقدم، حيث نظر العديد من علماء الإنسانيات في القرن السادس عشر الميلادي إلى العصور الوسطى بكونها “منبع جميع أنواع المعرفة الهادفة، واستندوا إلى مواردهم الضئيلة لدعم الدراسة وتقييم التراث، وقد طوروا بعملهم هذا أنماطاً جديدة للتفكير وفروعاً جديدة للدراسة”. فالمذهب الإنساني في عصر النهضة كان علمياً وأدبياً وتعليمياً مستنداً إلى دراسة العصور القديمة الكلاسيكية.
كما أن المؤلفة تلفت النظر هنا إلى ملاحظة شديدة الأهمية، وهي أن العلوم الإنسانية المتشككة التي ظهرت في عصر النهضة، قد ظهرت بوصفها علوماً مستقلة عن علوم اللاهوت، ولم تُعرّف نفسها في تلك المرحلة بأنها علوم مضادة للدين.
وترى الباحثة أن العلاقة بين العصور القديمة وعصر النهضة علاقة وثيقة جداً، “فإذا كان العلماء الإنسانيون في العصور الوسطى قد عملوا على تراكم المعرفة فقط، فإن علماء العلوم الإنسانية في عصر النهضة قد ميّزوا بين هذه المعارف”.
وتؤيد بامبرا الرأي الذي يذهب أصحابه إلى أن التغيّر المعرفي الذي وقع في بدايات عصر النهضة لم يكن تغيّراً كيفياً بالمقام الأول، ولكنه كان في الكثير من جوانبه تغيّراً كمياً أيضاً. وهي ترى أن معرفة تقنيات طباعة الكتب قد ساهمت في تسهيل استنساخ الكثير من المخطوطات والمؤلفات المهمة، ومن ثم كان من السهل على الدارسين والطلاب أن يقتنوا نسخهم، وبذلك تم توفير وقت الاستنساخ وإعادة الكتابة، وتمت الاستفادة من ذلك الوقت في القراءة المتمعنة للنصوص، وهو ما أتاح الفرصة للنقد والتحليل، والظهور بنظريات جديدة لم تكن معروفة سابقاً.
بالإضافة إلى ذلك، تشير بامبرا إلى أن تقنيات الطباعة قد سهّلت مجموعة من الحلول البحثية التي كانت غريبة وصعبة قبل ذلك. فمثلاً صار من السهل على الباحثين أن يقتبسوا بعض الأقوال التي وردت في الكتب، وأن يحيلوا إليها بشكل سهل وسلس، مستخدمين في ذلك أرقام الصفحات وأرقام الأجزاء والفصول والأبواب، وهذا كله تضافر مع بعضه البعض في إنتاج ثقافة أكثر تعقيداً وثراءً، تختلف بشكل كبير عن الثقافة التي كانت معروفة ومنتشرة في العصور الوسطى.
النقطة الثانية، التي تستند إليها المؤلفة، هي أن الغرب لم يتطور إلى ثقافة النهضة بشكل ذاتي، بل أنه استعان بالكثير من المؤثرات الحضارية من الخارج، ولا سيما تلك التي استوردها من الحضارة الإسلامية القائمة والمزدهرة على الجهة المقابلة من البحر المتوسط.
فلسفة أرسطو، على سبيل المثال، لم تنتقل إلى الغرب إلا على يد العرب المسلمين، فالفلاسفة المسلمون –وبالأخص ابن رشد – قد قدموا دراسات وافية لفلسفة أرسطو، كما كتبوا وصنّفوا مؤلفات مهمة في شرح كتبه والتعليق عليها. ومن هنا فإن بامبرا تؤكد على “أنه من خلال مثقفي العالم العربي، فإن كثيراً من التعليم في العصور الكلاسيكية الأوروبية قد عاود طريقه مرة أخرى إلى تيار النمو الثقافي الأوروبي”.
التأثير الإسلامي في حركة النهضة لم يقتصر على مجال العلوم الفلسفية فحسب، بل إنه امتد كذلك ليصل إلى العلوم الطبيعية، فنظريات غاليليو وكوبرنيكوس قد استعانت ببعض التجارب الفلكية التي قام بها العلماء المسلمون في الأندلس، كما أن التقدم في مجالات الطب والهندسة قد استند إلى بعض المؤلفات القيّمة التي صنّفها بعض العلماء العرب.
أما بالنسبة إلى الفن الأوروبي، والذي يشاع أن التطور الكبير الذي لحق بخصائصه وأساليبه في عصر النهضة، كان بفعل الخصائص الأوروبية المميّزة وحدها، فإن المؤلفة تؤكد على خطأ تلك الفرضية، لأن العالم في تلك المرحلة التاريخية كان متقارباً من بعضه بشكل كبير، والسجلات التاريخية تنقل لنا أخبار وتفاصيل الكم الهائل من الزيارات التي قام بها الرحالة الأوروبيون إلى أفريقيا وآسيا، وهو ما يظهر معه أن إسطنبول وبلاد فارس والصين واليابان والهند وغير ذلك من المراكز الحضارية، كانت مرتبطة بشكل وثيق مع بعضها البعض، بمعنى أن المؤثّرات الفنية التي صاحبت عصر النهضة، لم تكن مؤثّرات أوروبية خالصة كما يروّج لذلك، بل إنها في الحقيقة كانت مؤثّرات عالمية.
هل ظهر مفهوم الدولة القومية اعتماداً على الثورة الفرنسية وحدها؟
تذكر المؤلفة أن الاعتقاد المترسخ لدى دوائر البحث الغربية، يربط بشكل ما بين الثورة الفرنسية التي اندلعت في عام 1789 من جهة، والحداثة من جهة أخرى، وذلك على اعتبار أن أحداث تلك الثورة قد شهدت ظهور لبعض المبادئ والقيم الجمعية، والتي أُقيمت على أساسها المجتمعات المدنية الحديثة فيما بعد، ومنها الديموقراطية والحرية والمساواة والحق في المشاركة السياسية وحرية التعبير، ومن هنا فإنه “بإنشاء تاريخ الثورة الفرنسية على أنها قصة لأصول العالم الحديث، قد أدى إلى أن يصبح هذا التاريخ أيضاً خطاباً للهوية الأوروبية بوصفها حديثة”.
تعتقد المؤلفة أن رؤية السنوات السابقة على الثورة، تثير جدلاً واسعاً ومناقشات للتساؤل حول التطور الذي لحق بتشكّل الحكم الشرعي في فرنسا، فالصعود السريع والقوي للطبقة البورجوازية الفرنسية في القرن الثامن عشر، أدى إلى زيادة الاهتمام بالتأثير داخل نطاق المجال السياسي، ومن ثم فقد انهار النسق الاستبدادي أخيراً بعد أن تم نشر ميزانية الدولة، وتم الاتفاق بعدها على إلغاء الامتيازات المالية.
ترى المؤلفة أن الحقبة النابليونية التي أعقبت نجاح الثورة الفرنسية، قد مثّلت الحاضنة السياسية والثقافية لظهور فكرة الدولة القومية، وانتقالها من حيز الفكر إلى نطاق التطبيق العملي، وتبرّر ذلك بأن غزو نابليون لمساحات شاسعة من القارة الأوروبية قد استنفر العامل المميز عند كل شعب، فظهرت القومية كنتاج لانصهار عوامل اللغة والعرف والمخاطر المشتركة، “فقد ألهمت المقاومة الشعبية التي نشأت كرد فعل للغزو عن طريق جيوش نابليون عدداً من المفكرين ليبدأوا التفكير في الدولة بمصطلحات قومية، وقد قويت لغة التماسك القديمة والمجتمع المحلي والدين، وحدث عقب هزيمة نابليون تأكيد على الولاء للملكيات والحكومات التقليدية، وشهدت السنوات التالية لهزيمة نابليون تورط أوروبا بأكملها في صراع بين الأيديولوجيات الليبرالية، والقومية، والاشتراكية وممارسات قوى الرجعية”.
من هنا، فإن المؤلفة تعارض الزعم بأن الثورة الفرنسية وحدها كانت السبب في ميلاد الدولة القومية الحديثة، حيث تؤكد على أهمية الأحداث السياسية والاجتماعية التي أعقبتها في ترسيخ تلك الفكرة وإعطائها الفرصة المناسبة للتنفيذ عملياً “فيمكن رؤية الحداثة السياسية –التي يكون توجيهها بمؤسسات حديثة للدولة –الأمة- على أنها نشأت في أوروبا عقب الثورة الفرنسية، ومن ثم أصبحت عالمية بمرور الوقت”، وهو ما يعني أن الكثير من بلدان العالم قد اشتركت في صناعتها وصياغتها من خلال رفض الهيمنة الإمبريالية التي عمل الغرب على فرضها في أوقات مختلفة من تاريخ توسعاته العسكرية والسياسية.
ومن النقاط المهمة المرتبطة بفكرة الدولة القومية أن التغيّرات الإدارية التي طرأت على أنظمة الحكم في أوروبا، تلك التي يسمّيها الفيلسوف الفرنسي المشهور ميشيل فوكو بالحوكمة، قد ساهمت فيها دول العالم الثالث التي توجد خارج أوروبا أكثر بكثير من مساهمة القارة البيضاء في صياغتها وتشكيلها.
ترى بامبرا أن الأوروبيين في مرحلة الاستعمار، قد طبقوا العديد من التجارب في مستعمراتهم في أفريقيا وآسيا، وأن تلك المستعمرات كانت في تلك الحقبة وكأنها معمل كبير لتطبيق نظريات وأفكار الأوروبيين، ولا سيما في ميادين الصحة والموارد والإنتاجية والتنظيمات وأهداف الحكم، وبعد أن وصلت تلك التجارب إلى مرحلة النضوج والكمال، قام المستعمرون بنقلها بصورتها وشكلها النهائي إلى أوطانهم الأم.
من الأمثلة، التي تضربها بامبرا في سبيل إثبات وجهة نظرها، هو أن استخدام بصمة الإصبع لم يُعرف أبداً كوسيلة لتحديد الهوية الشخصية، قبل استخدامه في الهند إبان حقبة الاستعمار البريطاني لها، وفيما بعد تمت الاستعانة به في بريطانيا نفسها وفي باقي أنحاء العالم الغربي، ومن ثم صار معلماً مائزاً من معالم الحداثة والتقدم.
من الموضوعات المشابهة، التي تلفت الباحثة النظر إليها، هو أن دراسة الأدب الإنجليزي لم يكن معروفاً داخل إنجلترا نفسها، رغم أن جميع المستعمرات البريطانية كانت تقرر دراسة منهج الأدب الإنجليزي على طلابها بانتظام، وظلت تلك المفارقة الغريبة قائمة حتى تم إقرار دراسة الأدب الإنجليزي داخل بريطانيا في 1813.
من هنا، فإن بامبرا تؤكد على إدراك أهمية النزعة الاستعمارية في تشكيل الدول الغربية، بحيث تُعاد قراءة تاريخ الأمم الأوروبية “كنتاج للعلاقات الاستعمارية”، بل إن المؤلفة تقدم طرحاً أكثر جرأة عندما تشكك في الفكرة التي تذهب إلى أن بداية الدولة القومية قد وقع في أوروبا، ومن بعدها انتقلت نسخ تلك الدولة إلى أماكن أخرى من العالم، حيث تقول إن نظرية الأصل والنسخ المتعددة، تنبثق بالأساس من الاعتقاد بالهيمنة الغربية والتفوق الحضاري الهائل للعنصر الأبيض.
هل يمكن نسبة الثورة الصناعية إلى أوروبا وحدها؟
تذكر المؤلفة أن أحد الاعتقادات الراسخة في العقل الغربي، هو ذلك الذي يذهب أصحابه إلى أن الثورة الصناعية – تلك التي وقعت في القرن الواقع ما بين عامي 1750 و1850- هي أحد المعالم التي رافقت التطورات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي أعقبت الثورة الفرنسية. ومن هنا فإن الاتجاه إلى التصنيع يحمل صبغة أوروبية بامتياز.
وبحسب ما يذكر عدد من المؤرخين، فإن جذور الثورة الصناعية تمتد إلى القرن السادس عشر، في إنجلترا على وجه الخصوص، وفي أنحاء متفرقة من أوروبا بوجه عام. وكان السبب في ظهورها يعود بالأساس لتوافر عوامل متعددة، منها نمو المراكز الحضرية، والتقدم التقني، وزيادة عدد السكان، وتوسيع شبكات الري، وانتشار الأعمال المصرفية والمالية.
تستند بامبرا إلى مجموعة من الباحثين الذين يشككون في أن عملية التحديث الاقتصادي التي وقعت إبان عصر الثورة الصناعية، تنبثق من الخصائص الداخلية لأوروبا وحدها، حيث يرى هؤلاء أن تلك المزاعم تتجاهل “تدفق الثروة من المستعمرات التي ساهمت إلى حد كبير في الانطلاقة المبدئية للثورة الصناعية، والمساهمة الإجبارية للعبيد في هذه العملية، ولا الطريقة التي قُضي بها على التصنيع في مناطق مثل أفريقيا وأميركا اللاتينية والهند والتي أُفقرت عمداً من أجل ضمان تفوق السوق للسلع البريطانية والأوروبية”.
من هنا فإن المؤلفة تقدم وجهة نظر جديدة، مفادها أن عملية التحديث التي ميّزت عصر الحداثة الأوروبية، لم تكن بأكملها نابعة من داخل القارة، بل إنها في الكثير من جوانبها قد اُقتبست من الخارج الأفريقي والآسيوي، خصوصاً وأن تلك المناطق قد شهدت صناعات متعددة في فترات متقاربة مع ثورة التصنيع الأوروبي، حيث اشتهرت الهند على سبيل المثال بالصناعات القطنية. كما عُرفت بصناعة كبيرة لتعدين الفحم، وهي الصناعات التي تم توجيهها بفعل القوى الاستعمارية لخدمة الأهداف الصناعية والاقتصادية للدول الأوروبية.
المصدر/ صحيفة الميادين