خاص: إعداد- سماح عادل
“عناية جابر” شاعرة وكاتبة صحيفة لبنانية.
حياتها..
ولدت “عناية جابر” عام 1958 في بيروت وهي من قرية تدعى “السلطانية” تقع في قضاء “بنت جبيل” إحدى مدن “جبل عامل”، في الجنوب اللبناني. درست في الجنوب، وحصلت على إجازة في العلوم السياسية من الجامعة اللبنانية.
نشرت أعمالها الصحفية في صحيفة “القدس العربي”، وفي الصفحة الثقافية في صحيفة “السفير”، حيث كتبت في الشأن الثقافي والفني. كما أنها كانت فنانة تشكيلية ومغنية أحيت عدة حفلات منها في دار الأوبرا المصرية، إيطاليا، الاونسكو، الجامعة الأمريكية، مسرح المدينة – لبنان، وبعدة عواصم عربية وأجنبية.
الجسد بؤرة وجودية..
في مقالة بعنوان (عنايـة جـابر في «جميع أسبابنا») يكتب الكاتب “صالح دياب”: ” تتقدم الإستراتيجية الشعرية التي تتوسلها الشاعرة عناية جابر في مجموعتها الأخيرة «جميع أسبابنا» على اشتغالها الشعري السابق. ففي قصائد المجموعة الجديدة تتجلى خلاصة كامل التقنيات والأسلوبيات التي استخدمتها الشاعرة في مجموعاتها السابقة. القصائد تطرح اسم الشاعرة لا كواحدة من أهم تجارب شعر المرأة العربية فحسب بل تتجاوز ذلك لتتحدد بوصفها أحد الأسماء الشعرية النسائية القليلة جدا التي مع كل مجموعة جديدة تقنعننا بأن قوة التجربة وحقيقتها تخترق مقولة الانتماءات الجنسية، وتشكل رافدا لحركة الشعر العربي الذي يكتب الآن. بالمقابل تتعكز غالبية الأسماء النسائية العربية على مقولات استعراضية باهتة عن الجسد، وخرق المقدس لتحقيق حضور هو في جوهره غير شعري، وهذا برأيي فخ عام قليلات هنّ الشاعرات اللواتي نجحن في الإفلات منه. عناية جابر أحد الاستثناءات القليلة التي يمكن أن نضربها على ذلك”.
ويضيف: “تقول القصائد الكثير عن الحب والجسد من دون أن نشعر بأن ما هو جسدي، مقحم إقحاما على الخطاب الشعري، أو أنه استعراض ينفي الحياة، عبر الصور المصطنعة التي تحول ما هو حسي إلى استعراض سطحي.
تضيء الشاعرة المطارح الحميمية وتنقلنا مباشرة إلى استخلاص وجيز للحياة اليومية المعيشة الحارة، وما تحمله من بعد إنساني، هذا البعد الذي نستخلصه عبر الشعر القابض على الجوهري: «تتكدس المتعة منفرجة/ نصهل في لحمنا الرقيق/ من دون أن نشوش العتمة/ أو/ نشعث شعرها». (ص 26)
ورغم أن قاموسا كبيرا يحيل على الجسد يعبر القصائد: «رائحة لحمك، صدرك و فخذاك، حضن وجسد يد، أصابعك» فضلا عن مفردات مثل «الحب، حبيبة حبي» التي تتكرر في القصائد مرات، وهذه الكلمات الكبيرة تستخدم هذه من دون أن تقع جملتها في هالة المفهوم المجردة. إضافة إلى أسماء الأعضاء التي تأتي بشكل طبيعي وتنشغل داخل النص دون أن نشعر أنها مقحمة أو فجة. فالجسدي الذي نجده في القصائد، ليس نتاج البهرجة الصورية. فالشاعرة لا تستظهر ذاتها استظهارا بل تترك اللغة تستبطن الذات في علاقتها بنفسها وبالعالم جاعلة من الجسد بؤرة وجودية، تدفع إلى الأمام، وتقبض على الجوهري. ما هو جسدي يتجلى لبا للعالم الواقعي . لا تنحو عناية جابر أبدأ، إلى أي صياغات تزيينية. فجملتها تنبثق من عمق التجربة، وكثافتها. المعيار الجمالي لديها مرتبط ارتباطا بحرارة التجربة وصدقها.. تكتسي الصور الشعرية التي تصوغها الشاعرة بأبعاد نفسية، تطل على الثنائيات التي تشكل التصورات الحياتية الكبرى. إننا أمام قصائد في الحب لا عن الحب، فنحن لا نجد فيها أسى يتولد من الغياب، كما لا نرى فرحا عارما باللقاء. ثمة ما هو أوسع من الاثنين، تلك الحيوية التي تحتضن الحالتين النفسيتين و تتجاوزهما، نحو حالة ثالثة في سبيل كشف الحب شعريا، الحب الذي يتبدى غير مفهوم وغير قابل للتعيين والتحديد”.
وحيدة..
وفي مقالة بعنوان (عناية جابر المتعددة المواهب.. رحلت وحيدة) كتبت “واصف عواضة”: “عرفت عناية جابر أول مرة في أواسط الثمانينات في فرقة نبيه الخطيب للموسيقى العربية كواحدة من مطربي الفرقة التي ذاع صيتها في لبنان والعام العربي. لكن عناية الصبية الحلوة المرحة التي تعددت مواهبها، ككاتبة وشاعرة وفنانة تشكيلية، بقيت صورتها في خيالي وذهني في دار الأوبرا المصرية في القاهرة وهي تؤدي رائعة أم كلثوم “غنيلي شوي شوي” وسط جمهور يتمايل طربا وتصفيقا وإعجابا.
هذا الصباح صدمني نبأ وفاتها في اتصال من الزميلة دلال قنديل ،فاتصلت بصديقنا وزميلنا المشترك عبيدو باشا الذي أكد لي النبأ المفجع، حيث وجدت ليلا وقد هوت في أرض منزلها جثة هامدة. رحلت عناية وحيدة بعدما ملأت ساحتها ضجيجا، وأتحفت أصدقاءها الكثر بمواهبها لأكثر من أربعة عقود من الزمن”.
عروض الحديقة..
في مقالة (عناية جابر في «عروض الحديقة») كتب “قزحيا ساسين”: “قلم يعتمر أناقته في أعراس الجسد في جديدها الشعريّ «عروض الحديقة» تكتب عناية جابر أنثاها بكلّ ما فيها من قلب وجسد. وتؤرّخ حكايتها مع الرّجل بكثير من الجماليّة الموشومة بالألم.
كم هو رائع أن تكتب المرأة القصيدة وتقفز من البرواز إلى الحياة، ذلك البرواز الذي يكرّسها موحية للرّجل الشاعر. وكم هو رائع أن يكون الرّجل مطلاًّ من نافذة الوحي على امرأة تحاول تسييله في حبر قلمها، تحاول أسره في قطيع حروف وتحت سقف من المعاني يبدأ ولا ينتهي”.
ويواصل: “أمّا على مستوى الأداء التّعبيري فجابر، حين تريد، تؤدّي الصورة الإيحائيّة وتنظّف لغتها الشعريّة من الهدر، كأن تقول: «أصابعي سمعت / كم قويّ صوت ألمك»، أو «حنان مرتبك في قمصاننا»، أو «أتيتَ عندما أطفأوا المصابيح / هذا ما فتن العتمة»… وهي حين تريد أيضاً تحرّر لغتها من الشّعريّة أحياناً وتترك الكلمات تسير وراء بعضها البعض بعفويّة الحديث على شرفة بين صديقين، فيغيب الإيحاء، ويتوارى الرّمز، ويصادر الوضوح المحتاج إلى امتلاء مساحة المشهد: «كتبتُ في البيت شيئاً من يوميّاتي / وغسلت قميصي الأبيض / ثمّ تأمّلت طويلاً جدّاً / صورتك التي أحضرتَها معي من بيروت»…
في «عروض الحديقة» كتبت عناية جابر فصلاً من حكايتها مع الحبّ بعيداً من المشاعر المستعارة وبحرّيّة عصفور يغمس منقاره في منقار عصفورة في أعلى الشجرة…هناك، في آخر الغابة”.
بوح ذاتي..
في مقالة بعنوان (عناية جابر تكتب للحب والطبيعة والناس) يكتب الكاتب اليمني “عبد العزيز المقالح”: “يبدو لي أن الشعراء العرب، في هذه المرحلة من حياة أمتهم، يحاولون استقطار آخر ما في عروقهم من الدم الشعري، وأن يرتقوا بالنص الإبداعي إلى درجة لا تجعله يعكس معاناتهم فحسب، وإنما معاناة شعبهم أيضاً، كما لم يحدث من قبل، وتتجلى هذه الخاصية بصورة أوضح وأعمق عند شعراء القصيدة الأجد (قصيدة النثر) هذه التي كان يراد لها أن تكون دعوة إلى الخروج من المباشرة وتطليق كل ما له علاقة بالواقع ومناسباته، بوصفها- أي قصيدة النثر- كما يقولون ويكتبون: بوحاً ذاتياً منطلقاً في الشكل والمعنى، لكن يبدو أن عواصف الواقع وما تتركه هذه العواصف في النفوس أقوى وأعمق من كل الرغبات والأحلام التي تسعى بالشاعر إلى الابتعاد عن التماهي مع واقعه، بعد أن يوهم نفسه بذلك ثم يجدها غارقة من دون أن تدري في بحر الواقع، وتقلباته المثيرة للقلق والدهشة والخوف، وهي التي بدأت تمسك الشاعر من وجدانه ومشاعره وتتحكم في وعيه الخفي ذلك الذي يصدر عنه الشعر في أنقى تجلياته وأصفاها.
وفي المجموعة الشعرية الأخيرة للشاعرة اللبنانية عناية جابر «عروض الحديقة- دار الساقي، 2012» يتجسد هذا المعنى الذي قصدت إليه، فهي كما أقرأها منذ سنوات، شعراً ونثراً، شاعرة متمردة ثائرة، ظلت ترنو في إبداعها الشعري إلى آفاق جديدة تلامس النفس الإنــسانية بشغف، قبل الاصطدام بالواقع المباشر للحياة اليومية وإمعان التحديق في الفضاء المسكون بالآهات والجروح، والمطلي بدم الضحايا الذي لا يتوقف عن الانثيال.
ومهما كان ذلك منافياً بعض الشيء لما تمنته في بداية مشوارها الشعري، فإن الواقع بدا لها أكبر بما يطرحه من عروض يومية جارحة، وما يقدمه من مشاهد تتناقض مع كل ما حلمت به وحلم به جيلها الذي حاول أن يدفع بالشعر بعيداً من صورته الحالية والخالية من تعابير الرفض والغضب، ولأنها تصغي بقلب الأم لما يحدث حولها فقد جاء جانب كبير من شعرها صدى راعفاً غاضباً وإن خلا من الصراخ والتفجع والوقوف عند التفاصيل المملة في الشعر خاصة”.
ويؤكد: “لم يعد الشعر معنياً بقول الحقيقة، لأن الحقيقة في هذا الزمن الذي اخـتلطت فيه مفاهيم الأشياء لم تعد مهمة للكثيرين من ساكني هذه الأرض. يكفي الشعر أن يمر بالحقيقة أو يوحي بوجودها في مكان ما، وعلى الإنسان أن يخوض معركته الخاصة للعثور عليها أو الاقتراب منها.
وهذا ما أظن أن شعر عناية جابر يقوله ويفعله. نصوصها لا تحدثنا عن الحقيقة الغائبة أو الحاضرة، ولكنها تحدثنا عنها أحياناً بلغة غير واثقة، لغة تعـكس بتلقائية واقعها أولاً وواقعنا ثانياً، من دون ادّعاء وبعيداً عن البلاغة اللفظية أو تصوير فوتوغرافي حيث يتم تجسيد الواقع وتجميده في كلمات. عناية جابر لا تفعل ذلك بل تبدو في نصوصها الشعرية وكأنها تمارس لعبة النرد حيث تلقي كلماتها من دون تمثل المعنى أو تصور مسبق.
لا تبدو «عناية جابر» في مجموعتها هذه امرأة قوية وشجاعة قادرة على المواجهة كما أتخيلها دائماً، بل ألمح كثيراً من لحظات الضعف تسري في الكلمات تجاه الحب خاصة، ذلك القهر العاطفي الذي تصعب منازلته أو التعالي عليه. وفي بوح شجي يتدفق الاعتراف الآتي:
«بعد آهة صغيرة/ الآن روح الحياة الصامتة/ مغسولة/ بطراوة اللحظة/ ذهبت بك/ كنت في الحب وما من شيء أقوى/ يجعلني أذهب بك/ كنت أنا من بدأ/ ليس أنت، كنت/ أنا، وكان عليّ أن/ أفعل ذلك» (ص60).
تجربة مميزة ومثيرة في مبناها ومحتواها وفرادتها، هي تجربة الشاعرة «عناية جابر». وما هذه الإشارات العابرة سوى التعبير عن الامتنان لما غمرتني به مجموعتها هذه من بهجة وانسجام”.
أعمالها: (طقس الظلام- مزاج خاسر- ثم أنني مشغولة- استعد للعشاء- أمور بسيطة- ساتان أبيض- جميع أسبابنا- لا أخوات لي- عروض الحديقة).
وفاتها..
توفت “عناية جابر” في يوم الاثنين 10 أيار – مايو 2021، بعد صراع مع المرض، في منزلها الكائن في منطقة الحمرا في بيروت.