26 ديسمبر، 2024 7:58 م

“علي الوردي” .. عالم كبير درس سمات المجتمع العراقي اعتماداً على التاريخ

“علي الوردي” .. عالم كبير درس سمات المجتمع العراقي اعتماداً على التاريخ

كتبت – سماح عادل :

كان “علي الوردي” معلماً من معالم الفكر الاجتماعي، ورائداً من رواد الفكر التنويري النقدي في العراق.. خلف وراءه ثورة فكرية من خلال مساهمات جادة في الفكر الاجتماعي وأفكار نقدية جريئة، فقد خلف 18 مجلداً ومئات البحوث والدراسات الاجتماعية.. ترجمت بعض كتبه إلى الألمانية والانكليزية والفارسية والبولونية والتركية، وأصبحت فيما بعد مرجعاً هاماً فتح باباً لإعادة إنتاج الوعي الاجتماعي، في فهم وإدراك الظروف المختلفة التي ساهمت في تشكيل المجتمع العراقي وتطوره.

مكانة علي الوردي..

حظي “علي الوردي” بمكانة متميزة بين الكتاب والمفكرين وعلماء الاجتماع في العراق، واكتسب تلامذة ومريدين، وجمهور من القراء في العراق والعالم العربي، فقد وصلت الطبعة الأولى من كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي”، الذي صدر 1965 إلى خمسة عشرة ألف نسخة، وهو أعلى رقم وصل إليه كاتب في العراق آنذاك.. إن طبيعة الفترة التي درسها “الوردي” وعايشها ونقدها منذ الحرب العالمية الأولى وما بعدها وخاصة عقد الخمسينيات كانت أهم وأخصب الفترات الفكرية والاجتماعية في تاريخ العراق الحديث وأكثرها إنتاجاً وازدهاراً.

عاصر “الوردي” سنوات ما بعد الحرب العالمية الأولى وما أفرزته من محاولات للاستقلال والتحرر الوطني وتأسيس الدولة العراقية مثلما عاش سنوات الحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج وما خلفته من محن ومآسي وحصار وخراب، ولقد أنتجت تلك الأحداث والتطورات والتحولات البنيوية التي مست البنى التحتية والفوقية، فكراً اجتماعياً نقدياً، وإرهاصات تمرد على المنظومة الاجتماعية والثقافية، وتحرر من الاضطهاد الفكري والاجتماعي وبخاصة منظومة القيم والتقاليد الاجتماعية القديمة.

كتب “الوردي” عن حياة الناس الاجتماعية، وعن قيمهم وعاداتهم وعصبياتهم وسلوكهم في الحياة اليومية، وعن مرجعية هذا السلوك وأصوله الاجتماعية والنفسية، بدون تحيز كعالم اجتماعي، وقد انتقده كثيرون في كتب ومقالات ومنتديات اجتماعية وثقافية انتقادات شخصية بينما هو لم يتعرض لنقد أحد.

دراسة المجتمع العراقي..

كان “الوردي” شاهداً على أحداث قرن تقريباً، من بدايات الحرب العالمية الأولى إلى حرب الخليج الثانية.. يعتبر أول عالم اجتماع درس المجتمع العراقي وشخصية الفرد فيه دراسة اجتماعية تحليلية رصينة، وأول من استخدم منهجاً “انثرو- سوسيولوجيا” في دراساته وبحوثه، وأول من غاص في جذوره الخفية مفتشاً عن الظواهر الشاذة والغريبة، التي ليس من السهل التعرض لها ونقدها، لشدة حساسيتها الاجتماعية، والدينية، والسياسية، وهو أول من شخص الظواهر الاجتماعية المرضية التي ينوء تحت حملها المجتمع العراقي سنيناً طويلة، واستطاع أن يضع يديه على الجرح العميق.

فقد حاول تحليل أنماط  الشخصية العراقية من خلال تتبعه للتحولات الاجتماعية، والتبدلات البنيوية التي حدثت في العراق، والعالم العربي والإسلامي، منذ نهاية القرن التاسع عشر، وما أفرزته من صراعات ونشاز اجتماعي، بين القديم والحديث، والبادية والحضر، شرحها في كتابه “شخصية الفرد العراقي” الذي صدر1951، وتعتبر مؤلفاته العديدة وخاصة “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” الذي صدر 1965، والذي ترجم إلى الألمانية وكذلك موسوعته “لمحات من تاريخ العراق الحديث” الذي صدرت في ستة أجزاء وملحقين بين عامي 1969 : 1979 بمثابة مراجعة جديدة وشاملة لتاريخ العراق الاجتماعي، وإعادة إنتاجه من جديد، مثلما وضع تصوراً واضحاً للتركيبة السكانية والمجتمعية، التي هي تشكيل لظروف وشروط تاريخية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية مازالت تعيد نفسها لليوم.

نشأته وحياته..

نشأ في أسرة فقيرة في حي الكاظمية، وهي ضاحية من ضواحي بغداد، ولد في 1913، وكان جده الأكبر يعمل في تقطير ماء الورد.. اضطر لترك المدرسة ليعمل في دكان والده الذي كان عبارة عن محل صياغة، وكانت المدرسة في ذلك الوقت تدعى “المكتب”، وكان محتكراً لأبناء الأفندية أي الموظفين الحكوميين، ثم عمل في دكان عطار، بعد أن طرد من محل العطارة بسبب نهمه للقراءة.. استأجر دكاناً صغيراً واخذ يقرأ بنهم الكتب والصحف، ثم أصبح يرسل مقالات للصحف لكنه لم يُقبل في البداية ثم نشرت له مقالة في 1930.

في 1932 دخل متوسطة الكرخ في بغداد، وتخرج من المدرسة المتوسطة 1935 وكان متفوقاً، وبسبب تفوقه حصل على مساعدة مالية من وزارة المعارف، مقدارها دينار ونصف، سرعان ما انقطعت بسبب وشاية أحد الموظفين الكبار، الذي حول هذه المساعدة إلى أحد أهالي بلدته.. ثم أصبح معلماً في إحدى المدارس الابتدائية لمدة عامين، وفي تلك الفترة خلال الثلاثينيات تشكلت ملامح شخصيته الفكرية، ودخل الثانوية المركزية ببغداد وحصل على شهادة البكالوريا 1936، وكان الأول على العراق، وبسبب كفاءته أرسلته الحكومة، على نفقتها الخاصة، إلى لبنان للدراسة في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم أكمل دراسته الجامعية عام 1943، وحصل على شهادة البكالوريوس مع مرتبة الشرف أيضاً.

ثم أرسلته الحكومة العراقية ثانية، وعلى نفقتها الخاصة أيضاً إلى أميركا، للدراسة في جامعة تكساس وإكمال دراسته العليا، وقد حصل على شهادة بكالوريس في علم الاجتماع 1948، ثم شهادة الدكتوراة 1950، وكانت أطروحته للدكتوراة حول نظرية “ابن خلدون” الاجتماعية التي طورها فيما بعد واستخدمها في دراساته.

مدرس في الجامعة..

عندما عاد إلى العراق عين مدرساً في كلية الآداب جامعة بغداد، بعد أن تم تأسيس قسم الاجتماع والرعاية الاجتماعية، ثم أصبح أستاذاً مساعداً عام 1953، ثم رقي إلى درجة الأستاذية في علم الاجتماع.

في عام 1970 أحال نفسه على التقاعد، ومنحته “جامعة بغداد” لقب “أستاذ متمرس”، وهو أول لقب علمي يحصل عليه أستاذ جامعي في العراق، وبموجب هذا اللقب يستطيع الأستاذ مواصلة عمله العلمي، والإشراف على طلبة الدراسات العليا، دون أن يقوم بإلقاء المحاضرات، ومنذ ذلك الوقت انصرف “الوردي” إلى البحث والتأليف ثم التأمل والاعتكاف، وفي نهاية السبعينيات دعته جامعة “وارسو” في بولونيا لإلقاء محاضرات في قسم الدراسات الإسلامية والعربية، ومن ذلك الوقت أصبح يقضي إجازته الصيفية في “وارسو”، وكانت شقته هناك ملتقى ثقافي للعرب والعراقيين من كافة الاتجاهات السياسية.

المنع من السفر والمراقبة..

في عام 1988 وبعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية أصيب “الوردي” بإحباط شديد لأنه منع من السفر إلى خارج العراق، ولم يستطع تلبية دعوات كثيرة وجهت إليه من جامعات عربية وأجنبية، وقد توسط له الدكتور “جليل العطية” وسمح له بالسفر إلى وارسو، وقد أثارت كتاباته وتعليقاته في الصحف العراقية السلطة السياسية ضده، واصفة تحليلاته الاجتماعية بعدم الدقة، وخاصة حول ازدواجية شخصية الفرد العراقي، وأفكاره حول الطائفية والمناطقية، كما شنت صحف النظام السابق حملات ضده حتى، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان معرضاً لمراقبة دقيقة.

 الوردي والاشتراكية..

تأثر الوردي بالأفكار الاشتراكية فمال إلى الاشتراكية الإسلامية في شبابه، ولقد انصب على نظرية “ابن خلدون” ومحاولة تطبيقها على المجتمع العراقي، وبعد سفره إلى أميركا تخلى الوردي عن الاشتراكية الإسلامية وتبنى اشتراكية كالتي تبناها حزب العمل البريطاني، فيما يعرف بـ”الاشتراكية الفابية” ثم في أيامه الأخيرة تركها بالتدريج، وقد كتب سلسلة من المقالات في جريدة “اليقظة” البغدادية عام 1950 تحت عنوان “مشكلة المجتمع الكاظمي”، حاول فيها تشخيص بعض الأمراض الاجتماعية التي انتشرت في المجتمع التقليدي.

الهجوم والثناء..

منذ الخمسينيات بدأ الهجوم عليه، وعلى كتبه وأفكاره وقد صدر ضده أكثر من 16 كتاباً ومئات المقالات، وكانت خمسة كتب منها ضد كتابه المشهور”وعاظ السلاطين” الذي صدر 1954، وثلاثة كتب ضد كتابه “أسطورة الأدب الرفيع” الذي صدر 1957، فيما أثنى عليه كتاب عرب وأجانب كثيرون، فمثلاً قال عنه المفكر الفرنسي المعروف “جاك بيرك” في كتابه “العرب وتاريخ المستقبل”: “الوردي كاتب يحلق إلى العالمية بأسلوبه الذي يضرب على الأوتار الحساسة مثل فولتير”.

إعتزال الكتابة..

أعتزل “الوردي” الكتابة والتأليف مرتين، الأولى بعد 14 تموز/يوليو 1958، وقد استمر توقفه خمس سنوات، لأنه كان يخاف الغوغاء، فقد كتب في خاتمة كتابه “دراسة في طبيعة المجتمع العراقي” الذي صدر 1965، بأن: “العراق شهد منازعات عنيفة إثر هزة الرابع عشر من تموز، تلك الهزة التي نبشت ما كان مدفوناً في داخل المجتمع العراقي، وكشفت ما كان غامضاً منها، وأعطت للعراقيين دروساً بمقدار ما أخذت من ضحايا”، وقد صنف الوردي العراقيين من حيث مواقفهم من العواصف السياسية إلى أربع فئات: “فئة فضلت الاعتزال والسكون ومنهم هو نفسه – فئة فضلت الاشتراك الفعلي في المعمعة السياسية فأخذت تقاتل بحماس شديد – فئة كانت في العهد الملكي انتهازية وبقيت كذلك ثم تحولت بعد ذلك فأصبحت ثورية بقدرة قادر – فئة غوغائية لم تكن تعرف ما تريد فاندفعت وبدون وعي منها مع الغوغاء”، ويعتقد الوردي بأن ما قام به أفراد الفئات الأربعة تلك لم يكن بإرادتهم واختيارهم، وإنما بحسب مزاجهم وتركيب شخصياتهم.

والمرة الثانية للاعتزال، كانت منذ بداية الثمانينيات، حيث انزوى ينجز ما تبقى من مشاريعه الكتابية والشروع في كتابة مذكراته التي لم ينجزها، تجنباً لبطش السلطة آنذاك، وهو رغم تجنبه للسلطة إلا إنه لم يتقرب إليها، ولم تربطه بها أية رابطة، وكان في منتصف الثمانينيات متبرماً من الوضع السياسي وآثار الحرب العراقية الإيرانية، مثلما كان تبرمه من الفتوى التي أصدرها مفتي الديار العراقية بقتل الأكراد، الذين حملوا السلاح ضد الرئيس “عبد السلام عارف” في الستينيات، وأشاد بفتوى السيد “محسن الحكيم” بتحريم قتل الأكراد باعتباره خروج عن الإسلام.

المنهج..

استخدم الوردي  في دراساته وبحوثه “المنهج التاريخي”، كطريقة بحث لفهم الظواهر الاجتماعية وتحليلها، مثلما استخدم في ذات الوقت “المنهج التأويلي”.. يقول الوردي في أحد كتبه: “أن زوال العهد العثماني عن العراق، ثم اختيار الملك فيصل ملكاً، قد حول المجتمع من حالة تشبه القرون الوسطى، من حيث الانحطاط الحضاري، وانتشار الأمراض والأوبئة حيث كافح الملك لينقذ العراق من حالته، وكان له دوراً هاماً في الانفتاح على الحضارة الحديثة”، وظل الوردي يدرس المجتمع العراقي عميقاً حتى اعتزاله في الثمانينيات.

توفي “علي الوردي” في بغداد 1995 عن عمر ناهز أثنين وثمانين عاماً، بعد إصابته بمرض السرطان، وقد عولج في الأردن حيث اهتم بعلاجه ملك الأردن وسافر إلى بغداد ليموت هناك.

  • استعنت فيما ورد من معلومات في هذا المقال، بكتاب إبراهيم الحيدري “علي الوردي.. شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية” وقد كان تلميذاً له.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة