قصة قصيرة
خاص : بقلم – مجدي بلال :
عندما انقلبت به السيارة أربع مرات وهو يسير بسرعته الكبيرة مندفعًا كعادته ينهل بها الطريق، شعر هذه المرة بأنها النهاية، حتمًا هي النهاية، نطق الشهادتين، فرح جدًا بأنه فعلها، لم يكن مذعورًا من مواجهة الموت، كان بكامل وعيه وهو ينطقها، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، شعر بإرتياح شديد، لم يمر أمامه شريط حياته في تلك الثواني أو ربما في ذلك الجزء من الثانية؛ كما كان يسمع في الحكاوي التي طالما سمعها ورددها الكثيرون، ولكنه بتركيز شديد وبوعي كامل كان شديد اللهفة للمعرفة، معرفة طبيعة المشوار القادم، أول شيء خطر على باله هو أن يرى ويتأمل مرحلة المرور بالبرزخ، ما هي طبيعتها ؟.. وما الذي ينتظره فيها ؟.. لم يستطع أن يُميز الكثير، لكنه يتذكر جيدًا أنه لم يرَ أشياء مخيفة أو مرعبة، فقط شغله سؤال تُرى هل نجحت في تلاوة الشهادتين قبل اعتلاء الروح إلى السماء أم أني نطقتها بعد تركها لجسدي وصعودها إلى بارئها ؟.. إستغرب نفسه من أن يكون ذلك جُل ما يشغله في تلك اللحظة، فلم يكن بذلك الشخص شديد الإيمان، بل ولم يلتزم يومًا بآداء أي طقس من طقوس دينه، كان دائم الشك، شديد الحيرة بين عقله الذي يقول له إنها الطبيعة وفقط، وبين قلبه الذي يُلح عليه دائمًا باستحالة أن يكون وجوده هو مجرد تلك الحالة العبثية التي نعيشها، لنُصبح نحن والعدم سواء بإنتهاء حياتنا ؟.. ثم فارقه الوعي، لم يُعد يتذكر شيء آخر.
جسده ممددًا بجانب الرصيف على الطريق، ناس كثيرة حوله، سمع البعض يرددون: “مازال حيًا، أطلبوا الإسعاف بسرعة”، فتح عينيه، مازلت حيًا بالفعل، بدأ يسترد وعيه تدريجيًا، نظر حوله ليرى السيارة قد تحولت إلى كتلة من الصفيح ليس لها معالم، كيف استطاعوا إخراجه من بين مخالبها ؟!.. كلما استعاد وعيه وتركيزه في من حوله؛ وماذا يفعلون، كلما أصيب بالدهشة واليقين في آن واحد؛ أنه مازال على قيد الحياة، البعض يردد: “الحمد لله.. انكتب لك عمر جديد”، البعض يفتش في السيارة عن أي شيء يتعرفون به على شخصه، البعض يلتقط بعض الأشياء ذات القيمة ويدسها بجيبه أو يكتفي بها كغنيمة ويتسرب بعيدًا بهدوء، آخرون يقومون بعمل تفتيش ذاتي له، لنفس الأغراض، كل واحد كان يؤدي دوره بمنتهى الهمة والإخلاص في الآداء.
حضرت سيارة الإسعاف بسارينتها المعهودة، سأله المسعفون أثناء وضعه على المحفة، تُريد الذهاب إلى مستشفى خاص أم ننقلك إلى مستشفى عام ؟.. رد عليهم، أعتقد أن لدي كسر في عمودي الفقري، فأنا لا أستطيع الحركة، يا ريت تنقلوني إلى أقرب مكان من هنا سريعًا.
إنطلقت سيارة الإسعاف به؛ مخلفة وراءها كل شيء يخصه، السيارة وما بداخلها وما يتساقط منه، انقض المارة كلًا يُريد أن يحصل على ما يتسنى له الحصول عليه من غنيمة الحادثة، لم يكن يشعر ساعتها بأي ألم، فقط شعر بسعادة أخفاها عن العيون خشية أن يظنوه مجنون أو أصابه شيء من جراء الحادث المروع.
تنبه في المستشفى عندما أفرغت سيارة الإسعاف ما في جعبتها وإستعجال المسعفون طاقم التمريض والتومرجية لاسترداد محفتهم استعدادًا للإنطلاق، والصراخ والضجيج المصاحبين لحركة الناس في قسم الطواريء بمستشفى عام على الطريق يستقبل الحوادث والحالات الطارئة، ثم حضور ذلك الطبيب الشاب الذي مكث معه أقل من دقيقة سأله خلالها عن اسمه؛ وطلب منه أن يُحرك ذراعيه وقدميه ثم فحصه ظاهريًا ليتأكد من عدم وجود جروح قطعية أو نافذة في أي موضع بجسده، تركه بعدها ليُعد تقريره، تأكد حينها أنه مازال بالفعل على قيد الحياة؛ وأن ما مر به خلال تلك الثواني التي أعقبت إرتطام سيارته ببوز الرصيف لم تكن سوى حلم جميل أو استراحة محارب.
من مجموعتي القصصية: (المجذوب)