17 نوفمبر، 2024 12:40 ص
Search
Close this search box.

على الشوك.. أبدع في الموسيقى والرواية وسعى لكتابة اللامكتوب

على الشوك.. أبدع في الموسيقى والرواية وسعى لكتابة اللامكتوب

خاص: إعداد- سماح عادل

“على الشوك” كاتب عراقي، اشتهر في الوسط الثقافي العراقي منذ خمسينيات القرن الماضي، وانطلقت شهرته في العالم العربي مع كتاب “الأطروحة الفنطازية”، الصادر عام 1970. اعتقل في العراق خلال الخمسينيات، وترك عدة مؤلفات منها “كيمياء الكلمات وأسرار الموسيقى”، “الأوبرا والكلب”، و”مثلث متساوي الساقين” و”فتاة من طراز خاص”، ورواية “فرس البراري”، بالإضافة إلى مقالاته الصحافية الكثيرة.

حياته..

ولد “على الشوك”  في جانب الكرخ من العاصمة العراقية بغداد، ودرس الهندسة المعمارية في البداية في بيروت عام 1947، ثم قرر الانتقال إلى الرياضيات التي غيرت حياته بعد أن صار مدرساً لها لمدة عشرين عاماً في العراق. تسببت ميوله اليسارية بهجرته خارج العراق عام 1979، نحو براغ عاصمة دولة التشيك، ومن ثم بودابست، حيث عمل مع منظمة التحرير الفلسطينية وأنجز عدداً من الكتب التي ساعدته في الانتقال إلى لندن عام 1995، ليستمر في الكتابة من هناك.

يعتبر “على الشوك”  كاتبا عراقيا متنوعا، عصيا على الحصر والتصنيف، فقد كانت الكتابة بالنسبة له تمس كلّ شيء في الحياة. كان روائياً، وعالم رياضيات، وباحثا في الموسيقى والميثولوجيا أيضاً!

كتب «الأطروحة الفنطازية» بداية سبعينيات القرن العشرين ثم بـ”الداداءية بين الأمس واليوم”، كما كتب الرواية، ومنها رباعيته الروائية «السراب الأحمر. سيرة حياة هشام المقدادي»، ولتكون «فتاة من طراز آخر» الحلقة الرابعة والأخيرة من مشروعه الروائي هذا. وسيرته الذاتية الحياتية التي أصدرتها (دار المدى) سنة 2017 وحملت عنوان «الكتابة والحياة» وهو آخر ما كتب.

كتابة اللامكتوب..

في مقالة بعنوان (قصتي مع الكتابة) يقول  “علي الشوك”: “في العام 1947. كانت دراستي تتيح لي الفرصة للقراءة المسعورة. كنت أريد أن أقرأ كل شيء لئلا يفوتني القطار. فهناك مئات وآلاف الكتب تنتظرني قبل أن أجرب حظي مع الكتابة، فأنا لا أعتقد أنني سأكون جاهزاً للكتابة قبل قراءة «رسالة الغفران»، و«كتاب الأغاني» لأبي الفرج، و”الأخوة كارامازوف”، و «آنا كارانينا»… آه، و «الأحمر والأسود». مع ذلك كنت متعجلاً على ما يبدو. ففي لحظة ما، عندما كنت أتمشى وحدي في حرم جامعة بيروت الأميركية، في يوم من أيام 1947، اتخذت قراراً في أن أصبح كاتباً! أما الرياضيات التي كنت أدرسها، فستكون وسيلة لحصولي على شهادة. وستكون نزهتي في حياتي، ووسيلة لتفرغي للقراءة، ثم الكتابة. اتخذت هذا القرار وأنا لا أملك زمام اللغة. وعندما جربت الكتابة لاحظت أن لدي أسلوباً جميلاً، أسلوباً متميزاً، لكن لغتي التعبيرية كانت ضعيفة أو ضعيفة جداً. بدأت أكتب إلى صديق ونحن كلانا نقيم في بغداد. أنا أكتب إليه وهو يقرأ. في 1958، عندما بدأت أكتب لغير قارئ واحد. وأصبحت أحد كتاب مجلة «المثقف» المهمين. لكن طريق الكتابة طويل ووعر. نحن كلنا، في عالمنا العربي، لم نكن كتاباً نملأ العين، باستثناء نجيب محفوظ في ثلاثيته وفقط. ليرمنتوف كتب رائعته «بطل من هذا الزمان» وعمره خمسة وعشرون عاماً. أنا أكتب عن نفسي الآن بعد أن أصبحت كاتباً معروفاً. وأنا أعترف بأنني بقيت على مدى سنوات محدود الإنتاج. كتابة المقالات في الدوريات لا تعني شيئاً. بقيت أسائل نفسي: ماذا أنا؟ كنت قد أصبحت غزير الثقافة، وما زلت أراكم معلوماتي في ذهني وعلى الورق. جمعت معلومات واسعة عن الرواية، بأمل أن أؤلف كتاباً عن الموضوع. تلك كانت عملية التفاف إذ كنت عاجزاً عن كتابة الرواية. لم أكتب هذا المشروع، لأن انقلاب 1963 أحرق كل شيء، بما في ذلك أوراقي وكل ما أحتفظ به من كتابات. وكاد يقضي علي أيضاً، لكنني أمضيت عامين في الاعتقال أحالا حياتي جحيماً. هل ألقي السلاح؟ حاولت الحصول على جواز سفر مزور للسفر إلى خارج العراق، ففشلت المحاولة.. ولم أسترجع أنفاسي إلا بعد سنوات. وتخليت عن كل شيء «طبيعي». وأصبحت أبحث عن اللاطبيعي، بما في ذلك الموسيقى الإلكترونية. وقررت أن أكتب عن الدادائية. وكتبت عنها شيئاً، وذلك بدافع الفضول، لأنني كنت أريد أن أعرف ما هي. واكتشفت أن في آدابنا القديمة أشياء لا تختلف عن «الحماقات» الدادائية. فتطرقت إلى ذكرها”.

ويواصل: “وفي تلك السنة، 1970، شطحت مخيلتي كثيراً. كنت أريد أن أكتب اللامكتوب. كنت ما أزال أحيا في أجواء الدادائية. قلت فلأكتب شيئاً بلغة الرياضيات، لغة المعادلات والمنحنيات الهندسية. وأتعامل مع الأشياء من خلال مضاداتها، من خلال المنفي آتي بالموجب، وبالعكس. هل أستطيع، مثلاً، أن أحدث انطباعاً منحنياً من خطوط مستقيمة فقط؟ نعم في وسعي ذلك! أستطيع، مثلاً، أن أرسم وجه إنسان من خطوط مستقيمة فقط. ورسمت عينين، وأنفاً، وشفتين، من خطوط مستقيمة فقط. هورا. سأكتب كتاباً من مثل هذه المغامرة. وكتبت «الأطروحة الفنطازية». كانت أجمل من قوس قزح. وكنت في حال غير منقطعة من الضحك. كنت أريد أن أؤلف كتاباً من الضحك بلغة المعادلات. ورحلت إلى مملكة اللامكتوب. وصرت أنتقل من شطحة إلى أخرى، إلى أن وجدتني في مخزن أوروزدي باك. (لم أكن أعلم يومذاك أن كلمة أوروزدي باك من الإنكليزية our day’s bag). كانت جولتي في مخزن أوروزدي باك أجمل شطحة من شطحات حياتي، لا سيما بعد دخولي الجناح الميتاأوروزديباكي، حيث استحال كل شيء إلى «meta». كنت أريد أن لا أكف عن الضحك. الصور كانت تتلاحق. في الجناح الأوروزديباكي كان كل شيء طبيعياً، ربما باستثناء الكلمات المائلة. أما في الجناح الميتاأوروزديباكي فقد أصبح كل شيء ينتمي إلى عالم آخر. المرأة التي ألفيتها تعلك بإيقاع المتدارك (من أوزان الشعر)، صارت تعلك بإيقاع الميتامتدارك في الجناح الميتاأوروزديباكي. كنت أريد أن ألبد في مخزن أوروزديباك إلى الأبد، لأهرب من آيديولوجيا الواقع، لكنني لم أستطع سوى أن أكتب كتاب «الأطروحة الفنطازية»، الذي قرأ أدونيس مخطوطته بسرور. كنت أريد أن أشير فقط إلى معادلة الابتسامة قبل أن أودع هذا الكتاب، لكن الجريدة لا تحبذ التعاطي بلغة المعادلات”.

وعن الرواية يضيف: “ثم جاء موسم الرواية. كانت دنياي الروائية ممحلة طوال كل تلك السنين، ثم هطلت عليّ سيول الرواية على حين فجأة. اتركوني، إذاً، مع الرواية، حتى لو كتبتها لنفسي فقط. ولعل هذا انطباع كثير من القراء. لا ضير. لكنني أريد أن أكتب عملاً روائياً متألقاً. عملاً واحداً متألقاً يكفي. ودخلت في دورة من التجريب. لكن النقاد (كانوا) يتحدثون عن الأبطال النموذجيين في الرواية (المتميزة)، مثل جوليان سوريل في رواية «الأحمر والأسود». فهل الفتاة المتألقة جداً في مادة الفيزياء شخصية نموذجية؟ أنا لا أستطيع أن أختلق شخصية نسائية مذهلة في جنونها الرومانسي، كماتيلد. فلجأت إلى الفيزياء، والجمال أيضاً. كل البطلات المذهلات جميلات. وكتبت رواية «فتاة من طراز خاص». وبكيت لمحنتها النفسية عندما «خانت» شريك حياتها مع صديق لها ولشريك حياتها. لكن الرواية مرت ولم تترك أثراً، سوى أنها أذهلت أخي وابنتي زينب. وتمنى أخي لو تترجم إلى لغة أجنبية. طيب، ما زال في القوس منزع. وأنا لا أزال أريد أن أكتب عن المرأة كقوة هائلة في سحر جمالها. هذا الموضوع شغل بالي منذ أن قرأت رواية «تاييس» لأناتول فرانس، التي ذكر فيها أن الجمال أكبر قوة على وجه الأرض. المرأة تدوخ، الجميلة طبعاً. وسيزداد سحرها إذا كانت راقصة. لكنني لن ألجأ إلى الرقص، الآن، لأنني لم أرد أن أصبح ذكورياً فأجعل من المرأة ساحرة تذهب بعقول الرجال، بل إنها هي أيضاً يمكن أن يصرعها الرجل. وكتبت رواية «تمارا»، أكدت فيها أن المرأة هنا كانت صارعة ومصروعة. وأظهرت فيها أن الحب أخطر قوة على وجه الأرض. ونُشرت هذه الرواية. لكنني اكتشفت أنني جعلت المرأة أكثر انسحاقاً أمام الرجل. وهذا لم أرده. فقررت أن أكتب العمل من جديد في صيغة ثانية أنتصر فيها للمرأة. وأنا أصبحت قادراً على أن أتوسع في هذا الموضوع. وسأبقى أضرب على وتر مَنْ الأقوى في الساحة، المرأة أم الرجل؟ ودخل في روعي أنني سأكتب الرواية التي كنت أحلم في كتابتها. هناك امرأة، وهناك رجل. امرأة أمام رجال. هذا هو مشروعي الجديد. أردت أن أعود إلى مقولة أناتول فرانس، لكن في إطار آخر. عند أناتول فرانس يتحول القديس الذي دوخته تاييس إلى مسخ. وتتطهر هي بتحولها إلى قديسة. أنا لا تهمني هذه الخلفية أو الثقافة المسيحية، مع إعجابي الكبير بها، أنا أردت أن تبقى تمارا شامخة، وتنتصر على الرجال حتى في سقوطها. وفي فترة سقوطها تتعلم فن الرقص الشرقي وتصبح أعظم فنانة في العالم. لكن تمارا، التي انتصرت على الرجال، لم يهدأ لها بال، لأنها مارست السقوط يوماً ما. ولم يهدأ بالي أنا أيضاً. يا إلهي، كيف أعالج هذه المشكلة التي ستنال من قدر تمارا في آخر المطاف، مع أنني أردت لها أن تبقى شامخة؟ بعد أن أنهيت كتابة الرواية، وسأعترف بأنها جاءت ملبية لطموحي، رحت أكتب خاتمة في إثر خاتمة لكي أرد الاعتبار إلى تمارا التي ظلمتها، مع أنني كنت أريد لها الرفعة. ومن بين الحلول جعلتها تبتلى بداء الكآبة، لكنني لم أقتنع تماماً بذلك. وقبل أيام وجدت أمامي حلاً مذهلاً لهذه المعضلة. فتبنيته، وأنهيت الرواية. سيكون عنوانها «فرس البراري»”.

تحول المدينة..

في مقالة بعنوان (علي الشوك ومراثي المدينة) يقول “علي حسن الفواز”: “علي الشوك ذاكرة حية للمدينة، ولروح بهجتها، ولتحولاتها الكبرى، فهو يهجس تفاصيل تلك التحولات، يستشرف أفقا غائرا، أو موتا يصنعه الاستبداد، وهذا الموت الانطولوجي هو المجال السردي الذي ظل يلاحقه الشوك، بوصفه موتا للمدينة، وموتا للمثقف الحر، الرومانسي والثوري، والمهووس بالبحث الضدي عن الحياة، ليس بمعناها الإيديولوجي، والطبقي، بل معنى الرحيل إلى إنسانية تلك المدينة.. عوالم الشوك هي عوالم جيل ثقافي كامل عاش ارهاصات تحول المدينة، وخروج من عتمة “الاستعمارات” الثقافية، مثلما هي عوالم انفتاح حضري لسيرورة المدينة، في قيم حريتها وتحول عمرانها.. هذه العوالم هي عوالم المثقف أيضا، المثقف الحالم، والمتسائل، والوجودي، ومدوّن سيرة المدينة، وحين يستشرف الكاتب العراقي المغترب علي الشوك فضاءات السيرة الذاتية، فانه يستعيدها سيرة لعوالمه المتخيلة، وسردياته التي تستكشف يوميات المكان/المدينة، وحيواته التي يسري القلق في عوالمها وفي علائقها بالمكان، إذ يجد في لعبة الاستعادة تلك محاولة للهروب من الزمن ومن مثيولوجياته “المحلية” والتي تتركه دائما عند الكثير من البواعث النفسية المضطربة التي تنبشها التساؤلات، والتي تتحول في روايته “مثلث متساوي الساقين” الصادرة عن دار المدى إلى ما يشبه البحث في المصائر المتقاطعة، واليوميات التي تغوي على استكناه محمولاتها المحسوسة، والتي يستعيد من خلالها الشوك ذاكرة المدينة التي تسكنه هاجسا مقلقا، والتي يستعيدها مدينة دافقة، حميمية رغم قسوتها ووحشتها. في هذه الرواية ينحني الشوك على ذاكرته بوصفها خزّانا للسيرة، وفضاء متخيلا لاستعادة زمنه الشخصي المجدب، ولاغترابه الذي يطلقه إلى إحالات تضعه عند سردية المدينة/ بغداد وهي تتكشف وتتعرّي عبر ثيماتها الصراعية الحاشدة برعبها السياسي، ووقائعها التي تترسم هزيمة الإنسان، وخواء الانتلجنسيا العراقية وهي تواجه قمع السلطة، واستلابها الداخلي، مثلما تواجه موتها الرمزي وخراب أحلامها وعلائقها الممسوخة. تقودنا هذه الرواية إلى استقراء سيرة تاريخية ومتخيلة لمثقف عراقي استغور فضاءات سيرة الأمكنة العراقية وعاش الكثير من عوالم صراعاتها، إذ تبدو هذه الصراعات وكأنها محمولات رمزية تعبّر عن حراك أبطاله المثقفين واغتراباتهم، والذين يعيشون أزمات وعيهم الشقي للحرية والمكان المستعاد، مثلما يعيشون أزماتهم الوجودية في مدن المنفى، حيث لا تبدو تلك المدن إلا متاهة يتقصى فيها أسرار وجده، وبحثه التعويضي عن وظائف إشباعيه، وعن لحظات وجودية تعيده إلى فكرة الكائن قبل اغترابه، وبما يجعل الروائي أمام الرغبة الدائبة في أنسنه هذه المدن التي يكثر حضورها مثل براغ ولندن وبرلين، إذ يبدو تكرار هذا الحضور نوعا من الاستشعار القلق الذي يدفعه إلى البحث عن المدن التي هرب إليها الكثير من المثقفين العراقيين، مثقفي الايدولوجيا واليسار، والذين يصطنعون لهم في هذه المدن صراعات تشبه تلك التي كانوا يعيشونها في المدينة الشاحبة، والحاضرة بقوة استعادية في سيرته السردية”..

ويضيف: “رواية “مثلث متساوي الساقين” عمدت إلى تكون شهادة أو سيرة لزمن اغترابي عاشه المثقف العراقي، واطلّ من خلاله على سيرة الأمكنة “أمكنة النوستالجيا والمنافي المتعددة” مثلما هي تعبير عن شحوبها، وعن متاهة أصدقائه الذين عاشوا في سيرته اغتراباتهم الداخلية والخارجية، فضلا عن نزوع الروائي إلى فضح سيرة السلطة الشوفينية، تلك التي أسهمت في إنتاج هذا الرعب الإنساني، وهذه المنافي التي تحولت إلى شتات والى أوطان طارئة يعيش فيها المثقفون على المعونات والرواتب التي تدفعها جهات دولية سياسية أو حزبية معينة، وحتى جهات مشبوهة أحيانا، إذ يظل أبطاله الواقعيون يعيشون أزماتهم الوجودية والإنسانية بنوع من الفوبيا القهرية، وكأنهم أبطال الجحيم الذين تقتادهم أقدارهم إلى مستويات غرائبية من العذاب والموت والإيهام بالخلاص”..

وفاته..

توفى ” على الشوك في 11 يناير 2019 عن عمر 89 عاما.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة