13 أبريل، 2024 7:33 ص
Search
Close this search box.

علم نفس(13).. دراسة ظاهرة انتقال الثقافة الاجتماعية عبر الأجيال

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: قراءة – سماح عادل

نواصل القراءة في كتاب (علم النفس في القرن العشرین.. الجزء الأول)  للكاتب “د. بدر الدين عامود”، والذي يعد مرجعا هاما في فهم مصطلح “علم النفس”.

علم النفس الثقافي والاجتماعي..

الثقافة والمجتمع ودورهما في تـشكل وعـي الفـرد وشخـصيته ليـست موضوعات طارئة أو مستجدة على ساحة الفكر الإنساني. بيد أنها، مع ذلك، لم تلق من الاهتمام ما يكفي لكي ينظر إليها كموضوعات مستقلة ويوجـه الكـلام فيها وجهة علمية اعتماداً على أدوات موضوعية يكفل استعمالها جمع المعطيات والوقائع المتعلقة بها قبل القرن التاسع عشر.

فلم يمض من هذا القـرن عقـدان حتى أصبحت ثقافات الشعوب والتجمعات البـشرية موضـوع حـديث المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا واللغة والاجتماع. وبدا لهم هـذا الموضـوع آنذاك أمراً يكتنفه الغموض ويحيط به الكثير من الأسرار.

ومهما يكن من أمر فإن كيفية تشكل النتاج الثقافي وعوامله مع ما يحملـه من بعد نفسي تعتبر الموضوع الأول الذي حفز هؤلاء المؤرخين والعلماء إلـى البحث في هذا الميدان الرحب. وقد ارتبطت بدايات تناوله بمحاولات كـل مـن ويتنر وستينتال ولازاروس في ألمانيـا، التـي تكللـت بـالإعلان عـن قيـام “سيكولوجية الشعوب”.

ويجد القارئ في المقالة الافتتاحية للعدد الأول من مجلة “دراسـة مقارنـة للغة” الذي صدر عام ١٨٥٢ أول عرض للمبادئ والمفاهيم الرئيسية لهذا العلـم. كما يجد شرحاً مفصلاً لها على صفحات مجلة “سـيكولوجية الـشعوب وعلـم اللغة” التي تعاون ستينتال ولازاروس على إصدارها عام ١٨٦٠.

إن الفكرة المركزية التي ينطلق منها مؤسسو سيكولوجية الـشعوب هـي وجود اختلاف بين ثقافات شعوب الأرض وإن كل واحدة منهـا تعكـس “روح الشعب” التي تقوم على اللغة والأساطير والعادات والتقاليد.

وبعد انتشار فلسفة كونت أقبل الباحثون على دراسـة الظـواهر النفـسية وعلاقتها بثقافة المجتمع وهم مزودون، بدرجات متفاوتة، بمفاهيم تلـك الفلـسفة وأفكارها. فها هو سبنسر يقيم نظرته إلى المجتمع على أسـاس القـانون العـام للتطور، ويعرف المجتمع البشري في مؤلفيه “مبادئ علـم الاجتمـاع” و”علـم الاجتماع الوصفي” بأنه كائن حي نام. ويمر خلال نموه بمراحل متعددة تكـون المرحلة اللاحقة منها أكثر تركيباً وأشد تعقيداً مـن سـابقتها.

ويعتقـد بعـض المؤرخين أن سبنسر في نظرته هذه يتفق مع الأنثروبولوجي أ. ب. تايلور فـي موقفه من الحضارات، بل ويدعم استنتاجاته بشأن الـسمة المركزيـة لـسلوك الإنسان البدائي المتمثلة في الأحيائيةِ، حيث وجد تايلور في كتابـه “الحضارة البدائية” أن الإنسان القديم يخلع على كل مـا حولـه صـفة الحيـاة، ويتعامل مع الأشياء الخارجية كما لو كانت “تحس وتفكر”. ولهذا فقد كان يسعى لكسب ودها واستدرار عطفها وتجنب غضبها ما أمكنه ذلك، لتحقيق قـدر مـن الاستقرار والطمأنينة.

واعتماداً على ملاحظاته وقراءاتـه اسـتنتج أن تجليـات السلوك الأحيائي لم تنته مع نهاية الإنسان البدائي، وأن بعضاً منها بقي محتفظـاً بدوره في المعتقدات الدينية وبعض التقاليد والأعـراف الاجتماعيـة، وزيادة على هذا الاتجاه الأنثروبولوجي ثمة اتجاه آخر ارتبطـت دراسـة أصحابه لسلوك الفرد وعلاقته بالمؤثرات الاجتماعية، بتطور علم الأعصاب في فرنسا حتى بداية القرن العشرين.

فمدرسة نانسي بزعامـة ليبـو وبرنغهـايم، ركزت في تفسيرها ومعالجتها للأمراض الهـستيرية علـى الجانـب النفـسي والاجتماعي، أي على قابلية الشخص للإيحاء سواء أكان هذا الإيحـاء ذاتيـاً أم صادراً عن إنسان آخر، مع الإشارة إلى أن ذلك يتم بصورة لا واعيـة. ولمـا كانت أعراض التنويم الاصطناعي شبيهة بأعراض الهستيريا، فإن التنويم فـي رأي أنصار هذه المدرسة هو حالة خاصة من حالات الإيحاء الطبيعي.

قانون الايحاء..

ولقد شغلت هذه المسألة بما تحتويه من مقدمات وفرضـيات وتـصورات حول الشخصية ودوافعها وساحاتها (الـوعي، اللاوعـي) والعوامـل المحـددة لها (العامل الاجتماعي والعامل العضوي..) حيزاً كبيـراً فـي أعمـال علمـاء فرنسيين آخرين، أمثال جانيه وبينيه وريبو. ومـن المؤكـد أن تـأثير الحلـول والتفسيرات التي قدمها هؤلاء لم يقتصر على المهتمـين بالجانـب النفـسي أو الجانب العضوي من الشخصية فحسب، بل امتد إلى أبعـد مـن ذلـك ليطـال المهتمين بجانبها الاجتماعي أيضاً.

فليس من المستبعد أن تكون تلـك الحلـول والتفسيرات، ومن بينها قانون الإيحاء، هي التي أوحت لعالم الاجتماع الفرنـسي غابرييل تارد (١٨٤٣-١٩٠٤م) بطرح مبدأ التقليد ليفسر به مختلـف ضـروب العلاقات الاجتماعية وسلوك الأفراد. ولإثبات فعالية هذا المبدأ وصدقه اسـتعان تارد في كتابه “قوانين التقليد” ١٨٩٣  بعشرات الأمثلة والشواهد التـي تظهـر كيف أن الفرد يتمثل القيم والمعايير الاجتماعية والأخلاقية عن طريـق تقليـده للآخرين، مثلما تفعل الجماعات والمجتمعات حـين تنتقـل العـادات والتقاليـد والصراعات من جماعة إلى جماعة ثانية، ومن مجتمع إلى آخـر.

فالـضعيف منها (فرداً كان أم جماعة أم مجتمعاً) يقلد القـوي، والمهـزوم يقلـد المنتـصر، والمتخلف يقلد المتقدم. وقد عد تارد التقليد مبدأً أساسياً وقانوناً عاماً يسري على مختلف مستويات التفاعل الاجتماعي. وفـي ضـوء ذلـك يقـرر أن الأفكـار والمشاعر التي يستوحيها الفرد من محيطه هي التي تحدد نشاطه النفسي.

ولعلنا نجد في اتجاه العلاقة بين ما هو داخل الفرد وبين ما هـو خارجـه على هذا النحو الذي حدده تارد تأكيداً على ضرورة الابتعاد عـن التفـسيرات العضوية للسلوك الإنساني، أو حرصاً على فصل ما هو اجتمـاعي عمـا هـو عضوي في هذا السلوك. ويواصل تارد معالجته لهذه القضية بصورة تفصيلية فـي كتابـه الثـاني “المنطق الاجتماعي”١٨٩٥. فيجد أن بمقدور الإنسان القيام بكثير من الأفعـال والنشاطات دون أن يقتدي بأحد أو يقلد غيره، مثلما هو الحال بالنـسبة للأكـل والشرب والمشي والانفعال وغير ذلك مما يعزى إلى الجانب الفيزيولوجي مـن نشاط الإنسان. غير أن الواقع يبين أنه عندما يقـوم الفـرد بتلـك النـشاطات الحيوية، إنما يسلك مسلكاً محدداً ويستخدم أسلوباً معينـاً. فهـو، أثنـاء تناولـه لطعامه وشرابه، يراعي قواعد معروفة ويستعين بأدوات محددة. كما أنه يعبـر عن فرحه أو حزنه بأساليب مألوفة. وتؤلف تلك القواعد والأدوات والأسـاليب الجانب الاجتماعي من سلوك الفرد. ما يمكن أن ندعوه بالوراثة الاجتماعيـة.

وبعد تارد جاء ج. بلدوين أحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي، ودأب على تطوير هذه الفكرة. ولقد قادته دراساته إلى القول بوجود نوعين مـن الوراثة: الوراثة الطبيعية والوراثة الاجتماعية. ويقـصد بالوراثـة الاجتماعيـة عملية انتقال الثقافة الاجتماعية مبنى ومعنى عبر الأجيال. وكيما يحدث هـذا لا بد وأن يولد الإنسان وهو مزود بالقدرة على التعلم. وتتجسد هـذه القـدرة فـي توافر الشروط العضوية (الحسية والحركية) التي تمكن الطفل من محاكاة أفعـال الآخرين وتصرفاتهم، وبالتالي تمثل العادات والقيم وكل ما تشتمل عليـه خبـرة المجتمع.

فالطفل، منذ لحظة ولادته، يكون محاطـاً بـشبكة مـن “الإيحـاءات الاجتماعية”. ولا يتحقق نموه إلا بفضل الاستجابات التـي تحـاكي تـصرفات الآخرين وسلوكياتهم.

وهكذا فإن اهتمام تارد وبلدوين انصب على معرفة شروط وعوامل تـشكل الشخصية ضمن إطار الثقافة الاجتماعية، وتحديد آليات استيعاب الفرد لعناصر تلك الثقافة. وإذا كان طرحهما لهذه المسائل بالصيغة المذكورة والآراء التي أدليا بهـا حولها قد شكلت تياراً حقق في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العـشرين قدراً من النجاح، فإن هناك تياراً آخر ظهر فـي نفـس الفتـرة، ولعـب دوراً محسوساً في توجيه الأنظار نحو أهمية حل تلك المسائل وفق قواعـد وقـوانين جديدة. ولقد تزعم هذا التيار عالم الاجتماع الفرنسي إميـل دوركهـايم.

حدد دوركهايم المهمة المركزية التي ينبغي على الباحث أن يـضطلع بهـا في تخليص الدراسة الاجتماعية من الطابع السيكولوجي الذي اتسمت بـه فـي حالات عديدة، ووجد أنها تتمثل في التركيز على الظواهر الاجتماعية وتحليـل انعكاساتها في وعي الجماعة. وقد بنى دوركهايم اقتراحه هـذا علـى أسـاس تصور جديد للعلاقة بين الظاهرة الاجتماعية والظاهرة النفسية، بـين المجتمـع والشخصية، الذي بسطه في مؤلفاته، وخصص له مساحة كبيـرة فـي “قواعـد المنهج السوسيولوجي”١٨٩٤و”التصورات الفردية والجماعية”١٨٩٨.

الوعي الاجتماعي..

قابل دوركهايم الوعي الاجتماعي بالوعي الفردي، وشـدد علـى أسـبقية الأول، الذي يشتمل، حسب رأيه، على تجليات الثقافة الاجتماعية مـن عـادات وتقاليد وأعراف ومعتقدات… الخ. ولما كان وجودها علـى شـكل تـصورات جماعية، فإنها تعتبر وقائع موضوعية تتشكل في المجتمع وتتطـور بتطـوره، دون تدخل من جانب الفرد وبمعزل عن وعيه وإرادته.

لقد حمل هذا المدخل في طياته معاني ودلالات جديدة ذات قيمـة علميـة على صعيد التقريب من القضايا الاجتماعية المطروحة وفهمها. فهو، بالإضـافة إلى كونه رداً على المذهب المثالي الذاتي، يقترب من حـل معـادلتي تكامـل الفيزيولوجي والاجتماعي والنفسي وتفاضل الفردي والاجتمـاعي. وهـذا مـا يتجلى في انطلاقة دوركهايم من الشروط الاجتماعية والتاريخية للثقافة.

بيـد أن تلك النقطة الإيجابية يجب أن لا تحجب عنا رؤية الثغرة المنهجيـة التـي بنـى عليها دوركهايم تفسيراته وأحكامه. فقد نظر إلى الثقافة الاجتماعية علـى أنهـا العامل المحدد والعلة الأولى لكل ما يصدر عن الجماعة والفرد. ومـن زاويـة النظر هذه بدت “التصورات الجماعية” وكأنها كيان مستقل تـدين لـه الوقـائع الاجتماعية والنفسية جميعاً بوجودها ويناط به مصيرها. بينما تدلل وقائع الحيـاة الاجتماعية أن الوجود الاجتماعي يحدد الوعي الاجتمـاعي، وأن “التـصورات الجماعية” شأنها شأن أي نتاج أيـديولوجي، مـا هـي إلا انعكـاس للمـستوى الاقتصادي والمادي للمجتمع.

وإلى جانب تلك النظريات الاجتماعية التي راعى فيها تـارد ودوركهـايم “التقاليد الأيديولوجية” الفرنسية لدى دراستهما للظواهر الإنـسانية، كـان هنـاك مفكرون ألمان يعالجون نفس الظواهر انطلاقاً من إرثهم الفكري الألماني. فلقـد ترك عمانويل كانت وويلهلم هيغل منذ نهاية القرن الثامن عشر وبدايـة القـرن التاسع عشر بصماتهما البارزة على ذلك الإرث.

ولاقت فلسفة كل منهما صدى إيجابياً لدى المفكرين والباحثين داخل ألمانيا وخارجها. فانكـب هـؤلاء علـى تطويرها في اتجاهات متعددة. وتجيء دراسة هـ. مونـستيربرغ وو. ديلتـي وهـ. ريكيرت للنفس الإنسانية، والساحة الانفعالية منها تحديـداً ضـمن هـذا السياق.

المدخل الفيزيولوجي..

انتقد مونستيربرغ المدخل الفيزيولوجي في معالجة المظاهر السلوكية عنـد الفرد انطلاقاً من تعاليم الفلسفة الكانتية، وطرح مقولة القيم كبديل يجنب الباحث السيكولوجي الوقوع في معالجة النفس والنظر إليها كما ينظـر إلـى ظـواهر الطبيعة. ويتفق ريكيرت ود. وينديلباند مع مونستيربرغ إلى حد بعيد فـي الموقـف من المذهب الترابطي. فقوانين هذا المذهب، من وجهة نظرهم، لا تصلح لتقـديم تفسير صحيح لكافة القضايا المطروحة على بساط البحث الـسيكولوجي. فهـي تقف عاجزة أمام متابعة الارتقاء الاجتماعي وتأثيره على خصائص الشخصية.

ومن رؤية هيغلية إلى النفس أو (الروح) صاغ الفيلسوف الألمـاني ديلتـي مشروعه لتأسيس علمين للنفس “سـيكولوجيتين” كـرد فعـل على النجاحات التي أحرزتها العلوم الطبيعية. ولقد سبقت الإشارة فـي مناسـبة سابقة إلى أن علم النفس استطاع بفضل الأفكار والمنـاهج العلميـة الطبيعيـة المتقدمة، أن يتجاوز النظرة الآلية لموضوعاته، ويستبدلها بأخرى تناسب طبيعة تلك الموضوعات. إلا أن تأثير ذلك لم يكـن إيجابيـاً علـى بعـض البـاحثين والعلماء، ولا سيما ديلتي الذي كـان متـشبعاً بـآراء هيغـل حـول “الـروح الموضوعي”.

فقد أعلن في مقالة نشرها عام ١٨٩٤ تحت عنوان “أفكار حـول علم النفس الوصفي” عن عزمه على إنشاء مدرسة سيكولوجية تكـون مهمتهـا إقامة علم نفس جديد خالٍ من عيوب علم النفس الرسمي ونقائصه. وبما أن علم النفس “الرسمي” يدرس الظاهرة النفسية كما تُدرس الظاهرة الطبيعية، فإن علـى علم النفس المقترح أن يتخذ من “الروح الموضوعي” الذي يتجلى في الحـالات النفسية (الانفعالات والعواطف والمشاعر) مادة لدراسته.

وعلى الرغم من أن ديلتي وأتباعه (إ. شبرانغر، ت. إريسمان، إ. أيوالد) لم يتمكنوا من نفي دور المنهج التجريبي في الدراسات النفسية، فإن أعمالهم جاءت خالية من كل ما يشير أو يوحي باستخدامه. وعلى العكس من ذلك فقـد لجئوا إلى إتباع سبل أخرى غير حسية مبنية أساساً على التأمل والاستبطان بحجة أنها الوسائل الوحيدة التي تحقق الغاية المتمثلة في “وصف” العالم الـداخلي للفـرد، وأن المعرفة الحسية التي توصلنا إليها التجربة هي ملك للعلوم الطبيعية وحدها.

وليس من الغرابة أن تتعرض آراء ديلتي إلى هجوم عنيف من جانب أنـصار الفكر الترابطي والمتحمسين للمنهج التجريبي وتطبيقاته في الدراسات النفسية وفـي مقدمة هؤلاء ابنغهاوس. فقد رفض فكرة “علم الـنفس الوصـفي” بالـشكل الـذي عرضه ديلتي رفضاً قاطعاً، واعتبرها ضرباً من ضروب الوهم أو الخيـال، ونفـى أية إمكانية لإقامة هذا العلم، طالما أنه يغلب البديهيات والمسلمات، ويتجـاوز أهـم حلقات المنهج العلمي، وهي الفرضية، مع ما ترتبه على البحث من مهمـات.

كمـا اعترض بشدة على موقف ديلتي من جمع المعلومات المتعلقة بالحياة الواقعيـة عـن طريق الإدراك الداخلي لكل ما يعتمل داخل الفرد ويشعر بـه بـصورة مباشـرة. فإجراء كهذا يعني، بالنسبة لابنغهاوس، إغفالاً لكل المحكات والمعـايير والمقـولات الموضوعية التي يفترض أن تكون جزء هاماً من مبادئ وأدوات النظرية العلميـة عن الإنسان، والاكتفاء، عوض ذلك، بالحدس والاستبطان اللذين يعكـسان النظـرة الميتافيزيقية لموضوع البحث، ويعجزان عن تقـديم نتـائج ذات صـبغة إيجابيـة وصحيحة باستثناء بعض الحالات النادرة.

خـصائص الـسلوك الإنساني..

ويشير ياروشيفسكي إلى الفكرة الإيجابية التي تـضمنتها نظريـة ديلتـي، واعتمد عليها إ. شـبرانغر وأ. ف. بفينـدر وكروغر في صياغة نظريـاتهم حـول خـصائص الـسلوك الإنساني. وتتجسد هذه الفكرة في الآثار الكبيرة التي تحدثها ثقافة المجتمع وقيمه الروحية في البنية النفسية للفرد.

وهذه الفكرة هي التي أوحت لشبرانغر بتقسيم البشر إلى النماذج أو الأنماط الستة التي تحدث عنها بإسهاب في كتابه “أشكال الحياة” المنشور عـام ١٩١٤ . وهذه الأنماط هي: النظري والاقتصادي والجمـالي والاجتمـاعي والـسياسي والديني.

إن تصور ديلتي وتلاميذه لعلاقة الفرد بالمجتمع هو تصور قاصر وعـاجز عن الإحاطة بخطوط هذه العلاقة واتجاهاتها. ذلك لأنه لا يـذهب بعيـداً فـي تقصي الأسباب الفعلية التي تكمن وراء القيم الروحية وأشكال الثقافة الاجتماعية من ناحية، ولا يقيم أي وزن لتحليل عمليات التأثير الاجتماعي علـى مختلـف جوانب الشخصية من ناحية ثانية. فليس من باب المبالغة أو العسف الحكم بـأن دوركهايم قد خطا أكثر من خطوة وقدم آراء أكثر ايجابية وتقدماً بالمقارنة مـع ديلتي وغيره من المفكرين الذين انطلقوا من القيم الثقافيـة باعتبارهـا الإطـار الوحيد لتفسير النظام الاجتماعي ودوره في تشكل سـمات الشخـصية.

وربمـا يصح الحكم ذاته لدى مقارنة اتجاه دوركهايم باتجـاه آخـر تنـاول، بـدوره، الظواهر النفسية والاجتماعية، ولكن على أساس من وجود قوة عمياء تحركهـا وتطورها. وقد تزعم هذا الاتجاه ليبون (فرنسا) وماكدوغال (الولايـات المتحـدة الأمريكية). فقد أولى عالم الاجتماع الفرنسي غ. ليبون جل اهتمامـه نحو دراسة خصائص التجمعات البشرية ومرتسماتها على سـلوك أعـضائها.

ولعله أراد بهذا الاهتمام أن يشارك مواطنيه مناقشاتهم وحواراتهم ويقترح حلوله بشأن المسألة المطروحة. ذلك ما يستشفه القارئ لدى اطلاعه على كتابه “علـم نفس الجماهير” الذي عرض فيه ملاحظاته وأدلته على صورة حوادث ووقـائع.

ومما أبرزه في هذا العمل هو أن الغوغائية واللاإرادية واللاعقلانية ما هـي إلا صفات مميزة لسلوك الحشد. وتبعاً لذلك وجد أن الحشد يـسلب الفـرد حريتـه وإرادته، ويعيده إلى حالة من البدائية يفقد فيها الققدرة على المحاكمة والتفكير.

أما مكدوغال فقد اعتمد في تفسيره للسلوك الاجتماعي على الغريزة. حيث وجد أن الكائن البشري يولد وهو مزود بطاقة تقرر المـدخرة العـضوية سـبل تفريغها وكيفية المحافظة على الاحتياطي منها. فالغريزة، بهذا المعنى، هي سـر التنظيم النفسي المعقد، والمحرك الوحيد لكل نشاط معرفي أو وجداني يمارسـه الإنسان. إن ما يجمع ليبون ومكدوغال هو ابتعادهما عن المحددات الحقيقية للوعي.

فقد عزلا الفرد والجماعة عن التراث الثقافي المتنامي، فتحول المجتمع إلى مـا يشبه القطيع الحيواني الذي تحركه قوى عمياء. وصار الفرد مسيراً بفعل تلـك القوى الداخلية (الغرائز عند مكدوغال) والخارجية (لا عقلانية الحشد أو الجمهور عند ليبون .

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب