29 مارس، 2024 10:02 ص
Search
Close this search box.

علم نفس (17)..  هو شكل من أشكال الوعي الاجتماعي

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: قراءة – سماح عادل

نواصل القراءة في كتاب (علم النفس في القرن العشرین.. الجزء الأول)  للكاتب “د. بدر الدين عامود”، والذي يعد مرجعا هاما في فهم مصطلح “علم النفس”.

تعدد مدارس علم النفس..

“ما إن مضى على استقلال علم النفس نصف قرن من الزمن حتى ظهرت مئات المدارس والجماعات السيكولوجية” عبر هـ. ويلس بهذه الكلمـات عن واقع علم النفس خلال العقود الأخيرة من القـرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين.

إن الشهادة التي أدلى بها الكثير من علماء النفس البارزين والأدلة والوقائع التي جمعها المختصون تؤيد قول ويلس وتثبت موضوعية وصفه. فانشقاق علـم النفس عن الفلسفة والعلوم الأخرى لم يحد من تأثيراتها عليه، ولم يلـغ تمـسك الباحثين السيكولوجيين بالنظريات الفلسفية والطبيعية والاجتماعيـة والاعتمـاد على قوانينها ومقولاتها. وظل الفرض السيكولوجي يصاغ في ضـوء الرؤيـة الفلسفية للمشكلات المطروحة.

فتعدد الاتجاهات والآراء وتنوعها على نحو مـا رأينا سواء في مرحلة التمهيد لاستقلال علم النفس، أو في المرحلة التي أعقبتها يعكسان المواقف المتعارضة من الظاهرة النفسية. وهذه المواقف تعبر، بدورها، عن الأصول الفلسفية التي تعين هوية أصحابها.

ويبدو من المنطقي، أن تنشأ المئات من المدارس والجماعات والتيارات السيكولوجية في غضون الفترة القصيرة التي بدأت مـع ولادة علـم النفس. وهذا ما عناه عالم النفس الألماني كلوفر في حديثه عن وضع علم النفس الفيزيولوجي في مطلع القرن العشرين حين قال: “إنه، أي علم الـنفس، ما زال يعمل لفائدة الفلسفة ويخضع لمتطلباتها”. وإلى نتيجـة مـشابهة توصـل مواطنه لامبريخت، حيث وجد أن العديد من علماء النفس التجريبي يعالجون في أعمالهم قضايا نظرية بحتة.

وعلى الرغم من الأدلة القاطعة والحقائق الدامغة التي تتحدث عـن تـأثر التيارات السيكولوجية بالنظريات الفلسفية، فإن بعض السيكولوجيين لـم يـأبهوا بها، وذهبوا إلى إنكار انتماءاتهم الفكرية وخلفياتهم النظرية. وربما قصدوا مـن وراء ذلك إخفاء مواقفهم التي تغاير أو تناقض، وتعادي فـي بعـض الحـالات، مواقف الآخرين.

وفي الوقت ذاته عمل أًصحاب اتجاهات وممثلو جماعات على استغلال علم النفس ومناهجه في تبرير صـحة معتقـداتهم ومـواقفهم العرقيـة والعنصرية بينما استعان آخرون بمعطيات العلوم الفيزيائية والكيميائية للبرهـان على صحة منطلقاتهم الفكرية تحت ستار الدقة والموضوعية اللتين زعموا أنهـم يضفونهما على استنتاجاتهم وتفسيراتهم.

لم يكن الهدف من تلك المحاولات خافياً على فئة العلماء الـذين يتمتعـون بقدر من الموضوعية والجرأة. فحينما يردد ودورث عبارته: “إن المدارس فـي علم النفس تضاهي المدارس في علم الفلسفة”. إنما يشير إلى تلك الحقائق، ويكشف عن بطلان ادعـاءات أولئـك العلمـاء الـذين يحاولون إيهام الآخرين باستقلال نظرياتهم وعدم ارتباطها بأية خلفيات فلـسفية.

إن تفحص التراث السيكولوجي يبـين الـصلة القويـة للمـدارس والتيـارات السيكولوجية بالنظريات الفلسفية السائدة. فلا نكاد نجد نظرية فلسفية إلا وتركت بصماتها على تعاليم مدرسة من المدارس أو تيار من التيارات التـي ظهـرت على ساحة علم النفس قبل استقلاله وبعده. ولهذا فإن الفرق بـين علـم الـنفس الحديث وعلم النفس القديم يكمن، في رأي ودورث، في المـنهج ولـيس فـي النظرية” ويتضمن هذا القول، إلى جانب المنـاهج الخاصة بعلم النفس التي ظهرت وتطورت بعد استقلاله، إشارة إلـى اسـتمرار الخلاف حول تحديد مشكلة البحث. وهو الأمر الذي يستمد أسبابه وأدواته مـن الصراع المذهبي الفلسفي.

ثمنت جهـود المفكـرين والبـاحثين علـى اختلاف نزعاتهم الفكرية، وتنوع مجالات اهتمامهم، وما آلت إليه على صـعيد تطور المناهج والأفكار. إلا أن التطور الحاصل لم ينـه أو يخفـف مـن حـدة الخلاف في وجهات النظر حول موضوع علم النفس، بل لعله ساعد على بروز واتساع شقته. ولما لم يجد بعض العلماء بداً من الاعتراف بهذا الواقع، راحـوا يبحثون عن مبرراته. فادعوا أن الوعي، بوصفه موضوع العلم الجديد، يحمـل من الخصوصية ما يجعله متميزاً عن موضوعات العلوم الأخـرى، ناسـين أو متناسين حقيقة أن خلافاتهم حول هذا الموضوع كانت وما تزال التعبير المباشر عن تعدد واختلاف الأسس والمبادئ النظرية التي أقاموا عليها تصوراتهم.

فمـن المرجح أن يكون التماثل أو التشابه بين القـديم والجديـد فـي علـم الـنفس، واستمرار الصراع النظري اللذين عناهما ودورث بصورة غيـر مباشـرة قـد أملتهما البيئة الثقافية التي عاشت فيها ونهلت وتشبعت منها أجيال الباحثين عبـر عقود طويلة من الزمن وضمن حدود جغرافية معينـة. ومـن الطبيعـي، مـن الوجهة الأخرى للرؤية ذاتها، أن تنشأ نظريات سـيكولوجية متعـددة ومختلفـة متعارضة تبعاً لتعدد البيئات الثقافية واختلافهـا وتعارضـها.

فعلمـاء الـنفس الفرنسيون، مثلاً، انطلقوا من خلفية سوسيولوجية في تناول قضايا النفس وكـان اهتمامهم منصباً بالدرجة الأولى نحو إبراز دور المؤسسات والدوائر الاجتماعية في تكوين سمات الشخصية السوية والمرضية على حد سواء.

والمدارس التي ظهرت في ألمانيا حتى صعود النازية إلى الـسلطة كانـت تنظر إلى النفس كجوهر خاص متميز عن الظواهر الطبيعية. ولذا فإنها كانـت تؤكد دوماً أن آليات نشاطها وقوانينه لا تملك أي شيء مشترك مع آليات حركة تلك الظواهر وقوانينها. أما المدارس الأمريكية فقد شددت على دراسة الـسلوك وضرورة التفكير في تعديله وتطويره.

إن نزعة علماء النفس في كل بلد من هذه البلدان لم تك إن نزعة علماء النفس في كل بلد من هذه البلدان لم تكن مجـرد صـدفة، وإنما هي نتيجة لقوة الجذب التي يمتلكها الاتجاه الفكري السائد فـي المجتمـع. فاهتمام العلماء الفرنسيين بالعلاقة بين الفرد والمجتمع بشكل خاص يرجع إلـى سيادة فلسفة كونت الوضعية والمركز المتميز الذي تحتله الظواهر الاجتماعيـة فيها. ونظرة العلماء الألمان إلى النفس ما هي إلا انعكاس لفلسفة هيغل وبرنتانو وهوسرل. وانشغال السيكولوجيين الأمريكيين بمعرفة قـوانين تـشكل الـسلوك ونموه لم يكن إلا استجابة لتعاليم الفلسفة البراغماتية.

إننا نبني اعتقادنا هذا على أساس أن علم النفس هو شكل من أشكال الوعي الاجتماعي. فهو، كغيره من العلوم الإنسانية والاجتماعية، يعبر عـن التطـور الثقافي والاجتماعي للمجتمع. ومن غير الممكن، في رأينا، أن يدرس تاريخ هذا العلم دراسة موضوعية خارج الإطار الثقافي والاجتماعي. ونحن إذا كنـا قـد أبرزنا صلته بالفلسفة بوجه خاص، فما ذلك إلا مراعاة وتقديراً للـدور الكبيـر الذي تضطلع به الفلسفة ومكانتها المتميـزة بـين سـائر أشـكال التعبيـرات الاجتماعية، فهي تقوم، وتلك مهمتها الأولى، بجمع معطيـات العلـوم الطبيعيـة والإنسانية والتكنولوجية وتعممها على شكل مفاهيم ومقولات وقـوانين عامـة.

ومن ثم تعمل، وهذه مهمتها الثانية، على استشراف آفاق المـستقبل فـي شـتى ميادين الحياة. إنها، باختصار، تتمثل التجربة الاجتماعيـة بجوانبهـا المختلفـة لتصوغ قوانين تطورها اللاحق، وتحدد مجراه واتجاهه. وفي ضوء هذا الفهـم فإن ربط علم النفس بالفلسفة يتضمن بالضرورة علاقته بالـشروط الاجتماعيـة والاقتصادية والسياسية وغيرها. وهذا ما نجد فيه جوهر الإجابة علـى الـسؤال عن أسباب ظهور هذا العدد الكبير مـن المـدارس والتيـارات الـسيكولوجية. بالإضافة إلى أنه يؤلف، مدخلاً مناسباً لتناولهـا عرضـاً وتحلـيلاً ونقداً.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب