خاص: قراءة – سماح عادل
لفهم علم النفس لابد للرجوع إلى كتب هامة تناولت تاريخ تطور علم النفس، من بداية التفكير في الإنسان، أفكاره ومخاوفه ومنظومة الأشياء الخفية غير الملموسة التي غالبا ما يطلق عليها مصطلح “النفس”، والتي تناولها المفكرون والمجتهدون على مر التاريخ الإنساني.
من أحد هذه الكتب كتاب (علم النفس في القرن العشرین.. الجزء الأول) للكاتب “د. بدر الدين عامود”، والذي يعد مرجعا هاما في فهم مصطلح “علم النفس”.
يوضح الكاتب في المقدمة أن مـؤرخ علـم الـنفس “ياروشيفسكي” وضع أول كتاب في “تـاريخ علـم الـنفس” عـام ١٩٦٦ .وقدم فيه صورة شاملة عن تطور الأفكار النفسية منذ ظهور الحكمـاء والأطباء الهنود والصينيين واليونانيين القدماء حتى قيام علم النفس كعلمٍ مـستقل مروراً بالفلاسفة والمفكرين الذين برزوا في ظلّ الحضارة العربية-الإسـلامية، ومن ثم فلاسفة عصور النهضة الأوربية. وتحدث بعـد ذلـك عـن المـدارس والنظريات التي نشأت وتطورت في مضمار علم النفس العالمي حتى منتـصف الستينيات من القرن العشرين.
مؤكدا أنه حاول الإحاطة قدر المستطاع بكافة المدارس والنظريـات والتيـارات النفسية التي ظهرت على الساحة العالمية على امتداد ما يربـو علـى القـرن.
مقدمات ظهور علم النفس..
في القسم الأول من الجزء الأول من الكتاب يبدأ الفصل الأول بسؤال هام لماذا علم النفس؟ ويجيب الكاتب أنه شهد هذا العلم، وما يزال يشهد، تبايناً في وجهات نظـر العـاملين فيه، مثلما عانى، ويعاني حتى الآن، مـن آراء بعـض المفكـرين والمثقفـين القاصرة حيناً، والسلبية أحياناً. وهذا ما يميز “مناخ” علم النفس عـن “مناخـات” العلوم الأخرى: الطبيعية منها والاجتماعية، ولو بدرجات متفاوتة.
ويوضح أن علم النفس- كعلم قائم بذاته- هو علم حـديث. وعلـى الرغم من حداثته فقد استطاع أن يطال باهتماماته معظم مناحي الحيـاة، إن لـم نقل جميعها على الإطلاق. ومضى قدماً في دراسة الخصائص النفسية لأوجه النشاط المختلفـة التـي يمارسها الإنسان وأثرها في سلوكه، ومحاولته الوصول إلى أدق القنوات التـي تربط الفرد بالآخرين خلال مراحل حياته. وهذا ما يعكسه تعدد فروع هذا العلـم وأقسامه.
إن ظهور هذه الفروع والأقسام لم يكن تجـسيداً لقـرار أو إرادة فـرد أو مجموعة من الأفراد، وإنما أملته الحاجة المتزايدة إلى معرفـة أشـمل وأعمـق وأدق بالنفس البشرية. فقد كان من نتائج التقـدم الـسريع للعلـم والتقنيـة فـي عصرنا، ونشوء ضروب جديدة من النشاط الإنساني، أن وقف علم النفس أمـام زيادة كبيرة في حجم اهتماماته تكافئ ما استجد من قطاعات إنتاجيـة وخدميـة وسواها وما سخر في سبيلها من أدوات ووسائل وآلات. وكان عليه أن يـنهض بمسؤولياته ويواكب، بل ويسهم، في تهيئة أسباب التطـور اللاحـق وتحـسين شروطه وأدواته. ومن خلال هذا المسعى ظهرت فروع علم الـنفس وتـشعبت استجابة لمتطلبات العصر وأهداف المجتمعات وحاجات الأفراد المتزايدة.
فروع علم النفس..
وهكذا يمكن تصنيف فروع علم النفس بالاعتماد على أسس ثلاثة، وهي: ١-النشاط الذي يمارسه الإنسان. ٢-النمو النفسي. ٣-علاقة الإنسان (الذي ينشط وينمو) بالآخرين.
فلقد أدى اهتمام علم النفس بدراسة الظواهر النفسية من خلال أوجه النشاط
الإنساني المختلفة إلى ظهور عدد من الفروع والأقسام، ومن بينها:
– علم النفس التربوي: الذي يدرس القوانين النفسية للنشاط التربوي
والتعليمي عبر محاولاته لحل المسائل المرتبطة بتوجيه عملية اكتساب المعارف والمهارات والقدرات والعوامل التي تؤثر في نجاحها، والفروق الفردية بين الدارسين… الخ. وينقسم هذا الفرع إلى: علم النفس التعليمي، وعلم نفس المعلم، وعلم نفـس الأطفال الشواذ وتربيتهم… الخ.
– علم نفس العمل: ويتناول دراسة الخصائص النفسية للنـشاط العملـي للإنسان والأساليب والأدوات الواجب استخدامها في تنظيمه تنظيماً علمياً.
– الهندسة البشرية: ويدرس هذا النوع نشاط العامـل فـي منظومـات
التسيير المؤتمتة، وتعيين الوظائف التي يؤديها كل من الإنسان والآلـة وسـبل إحلال الانسجام والتناغم إلى الحدود القصوى بينهما.
– علم النفس الطبي: ويهتم بدراسة نشاط الطبيـب وسـلوك المـريض.
ويشتمل هذا الفرع على عدة أقسام، منها: علم النفس العصبي (النيروسيكولوجيا) الـذي يــدرس علاقــة الظــواهر النفـسية ببنيـة الـدماغ، وعلـم نفـس الصيدلة (السيكوفارموكولوجيا) الذي يتتبع الآثار التي تتركهـا العقـاقير الطبيـة على سلوك الإنسان، والطب النفسي الذي يبحث في علاج الأمراض عن طريق إحداث التأثيرات النفسية.
– علم النفس العسكري: ويعنى بدراسة سلوك المقاتل وعلاقـة الـرئيس بالمرؤوس في ظروف السلم والحرب، وطرائـق تكـوين الـصفات الإراديـة
الإيجابية والمهارات والقدرات الضرورية عند أفراد الجيش والقوات المـسلحة، وزيادة كفاءتهم على تمثل الأسلحة العصرية واستخدامها بفعالية ونجاح. وتقـع “الحرب النفسية” أو “الدعاية والدعاية المضادة” ضمن اهتمامات هذا الفرع.
– علم نفس الطيران: ويدرس التغّيرات التي تطرأ على سـلوك الطيـار أثناء التدريب والقتال الجوي. ويعمل على الكشف عن أسبابها بقصد التخفيـف، ما أمكن، من آثارها السلبية.
– علم نفس الفضاء: ويبحث في الخصائص النفسية لنشاط رجل الفضاء،
وظهور حالات التوتر النفسي والعصبي في ظروف انعدام الجاذبية الأرضية.
– علم النفس التجاري: ويتولى البحث في مسائل الشروط النفسية
للإعلان وأساليب التأثير على الزبائن والخصائص السيكولوجية للطلب.
– علم نفس الإبداع الفني وعلم نفس الإبداع العلمـي: ويهـتم الأول
ببحث السمات النفسية لشخصية الفنان، والعوامل المؤثرة في نشاطه الفّني. بينما يهتم الثاني بدراسة هذه السمات عند العالم والعوامل التي تـؤثر فـي نـشاطه العلمي.
– علم النفس الرياضي: ويدرس الخصائص النفـسية عنـد الرياضـي،
ويعالج شروط ووسائل إعداده.
– علم النفس القانوني: وينظر في المسائل التي تضمن تطبيق القـانون
واحترامه. وينقسم هذا الفرع إلى أقسام عديدة، منها: علم النفس القضائي الـذي يهتم بدراسة الخصائص النفسية للمجرمين وأقوال الـشهود وسـلوك المتهمـين وكيفية إجراء التحقيق معهم، وعلم النفس الجنائي الذي يدرس سـلوك المجـرم والقضايا المرتبطة بتكوين شخصيته، ولا سيما الدوافع التي تكمن وراء ارتكابـه للجريمة، وعلم نفس الجانح الذي يدرس الصفات النفسية عند الأحداث الجانحين والعوامل الذاتية والبيئية التي تدفعهم إلى الجناح، وعلـم نفـس إعـادة تربيـة المجرمين الذي يهتم بالكشف عن السمات النفسية لدى السجناء ومعالجة القضايا السيكولوجية المتعلقة بتربيتهم.
ومن خلال متابعة علم النفس لسلوك الإنسان وتطور صفاته النفسية في
مختلف مراحل الحياة ظهرت فروع أخرى لعل أهمها ما يلي:
– علم النفس النمائي أو النشوئي: ويدرس الحالات والعمليات النفـسية
وخصائص شخصية الإنسان عبر مراحل نموه المتعاقبة. وتبعاً لهـذه المراحـل نجد الأقسام التالية: علم نفس الطفولة وعلم نفس المراهقة وعلم نفـس الـشباب وعلم نفس الرشد وعلم نفس الكهولة والشيخوخة.
– علم نفس الشواذ أو علم النفس الخاص: ويتفرع عنه علـم الـنفس
المرضي الذي يدرس الظواهر النفسية في ظل مختلف أمراض الـدماغ، وعلـم نفس الضعف العقلي الـذي يعنـى بدراسـة الإصـابات الدماغيـة (الموروثـة والمكتسبة) وأثرها في الحياة النفسية عند الإنسان، وعلم نفس العاهات الـسمعية والبصرية.
-علم النفس المقارن: وموضوعه مقارنة سـلوك الحيوانـات بالنـشاط
النفسي عند الإنسان، والوقوف على أوجه الشبه والتباين بينهمـا. كمـا يتـولى البحث في أنماط وأساليب الحياة النفسية عند الإنـسان عبـر تاريخـه المديـد.
ويتفرع عن هذا الفرع علم النفس الحيواني الذي تعتبر دراسة سلوك الحيوانـات على اختلاف أنواعها ومستوى تطورها (النحل، الأسـماك، الطيـور، الفئـران، الكلاب، القردة…) ومعرفة أصوله وآلياته موضوعاً رئيسياً له.
ومن الضروري الإشارة إلى أن تتبع الظواهر النفسية عند الإنسان وتحديد فترات نشوئها والأطوار التي تمر بها لا يعنيان إهمال الشروط والعوامل التـي تؤثر فيها. فمن مهمات الباحث أن يكشف عن العلاقة القائمة بين هذه الظـواهر من ناحية، وبينها وبين الظواهر الأخرى، البيئية والفيزيولوجية وسـواهما مـن ناحية ثانية.
وانطلاقاً من مبدأ علاقة الفرد بالمجتمع يمكن تمييز فرعين اثنـين، همـا: علم نفس الشخصية وعلم النفس الاجتماعي، ويحمل علم نفس الشخصية اسـم علم النفس الفارقي. وموضوع هذا العلم هو الخصائص النفـسية عنـد الفـرد كالطبع والمزاج ونمط السلوك والنشاط العصبي العـالي والـدوافع والقـدرات وغيرها، بالإضافة إلى العوامل المؤثرة فيها.
وتقع الظواهر النفسية التي تنشأ خلال تفاعل الإنسان مع الآخرين، سـواء أكان الآخر فرداً أم جماعـة (الأسـرة، الجماعـة المنظمـة، الجماعـة غيـر المنظمة…) ضمن اهتمام علم النفس الاجتماعي. ويتولى هـذا الفـرع أيـضاً دراسة الرأي العام والإشاعة والصرعة والقيم والمعتقدات والتقاليد الاجتماعيـة وأثر ذلك كله في سلوك الفرد.
مساحة واسعة تلك التي يغطيها علـم الـنفس. فهو، باختصار، يتولى دراسة النشاط النفسي للإنسان أينما وجد وأياً كان عملـه ومهما كان عمره الزمني وموقعه الاجتماعي. والباحث السيكولوجي من خـلال وجوده في المؤسسات الإنتاجية ومراكز الخدمات الثقافية والتربويـة والـصحية يتصدى لمعالجة موضوعات محددة متـسلحاً بالمنـاهج: العياديـة والتجريبيـة والرياضية ومستخدماً أدوات ووسائل عصرية. وهذا ما يطبع نـشاطه بطـابع العلمية، ويبتعد به عن التصورات مـا قبـل العلميـة والمـنهج الميتافيزيـائي والتأملية. وهو، إذ يقوم بنشاطه هذا، إنما يسعى إلى حلّ مشكلات الوعي عنـد الإنسان بهدف تطويره، وزيادة قدرته على العمل والعطاء والتعاون و الانـسجام
مع الآخرين.
علـم النفس العام..
إن تصنيف فروع علم النفس وأقسامه على نحو ما تقدم يطرح سؤالاً حول علم النفس العام وموقفه. فالإجابات التي يقدمها المشتغلون في علم الـنفس مـا زالت متباينة: حيث أنه في الوقت الذي يرى فيه البعض أن علم النفس العـام هو فرع من فروع علم النفس، يعده آخرون أصل هذه الفروع جميعاً. بينمـا يقف طرف ثالث موقفاً مخالفاً لهؤلاء وأولئك في ضوء نظرتهم إلـى أن علـم النفس العام، يعنى قبل كل شيء بتعميم القوانين والمفاهيم التي يتم الكشف عنهـا في إطار الفروع الأخرى والمبادئ التي تعتمد عليها، ومناهج البحث والطرائـق التي تستخدمها. إن مهمة هذا العلم، من وجهة النظر هذه، تنصب علـى تنظـيم نشاط العاملين في مختلف ميادين علم النفس والتنسيق بينها.
ولعـل أخـذ هـذه الخصوصية التي يتمتع بها علم النفس العام بالاعتبار يجعل من الأصوب أن لا ينظر إليه كفرع مستقل، مثلما هو الشأن بالنسبة لعلم النفس التربـوي أو علـم النفس النمائي أو علم نفس الشخصية… الخ أو كأصل تستمد منه بقية الفـروع وجودها.
والسؤال الثاني الذي يطرحه التصنيف السابق يتضمن العلاقة بين فـروع علم النفس المعاصر وأقسامه. إن هذه الفروع، وإن اتخذت من الظواهر النفسية موضوعاً لها- كما سبقت الإشارة إلى ذلك- فإنها تختلف مـن حيـث ميـادين عملها واتجاهها نحو العلوم القريبة منها، كالطـب وعلـم الحيـوان والتربيـة والرياضيات وغيرها. ويرجع السبب في ذلك إلى اختلاف هذه العلوم وتباعـدها بعضها عن بعض إلى حد يصعب معه إيجاد “قواسم” مشتركة فيما بينها.
وإلى جانب هذه السمة (التباين والاختلاف) تتـصف فـروع علـم الـنفس بالتكامل. فتبعاً للنشاط الذي يمارسه علماء النفس تقترب هذه الفروع أكثر فأكثر من العلوم المتاخمة، مثلما هو الحال بالنسبة لعلم النفس والطب من خلال الطب النفسي أو علم الطب النفسي، أو بالنسبة لعلم النفس وعلم الحيـوان عبـر علـم النفس الحيواني، أو بالنسبة لعلم النفس والأرغنوميا عن طريـق علـم الـنفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس الصناعي والهندسة البشرية، أو بالنسبة لعلم النفس والرياضيات والإحصاء لدى إخضاع ما يؤول إليه بحـث هذه الظاهرة النفسية أو تلك من معطيات للمعالجة الرياضية والإحصائية.
علاقـة علـم النفس بالعلوم الأخرى..
هذه العلاقة هي واقع لا يختلف، مـن حيـث المبدأ، حوله العلماء والباحثون اليوم، فإن دور علم النفس فيها لا يزال موضوع جدل وحوار. ويشير الكثير من المؤلفات إلى أن السبب في ذلـك يرجـع إلـى وجود اختلاف في فهم تـاريخ الفكـر الإنـساني وتطـور أدواتـه ووسـائله وموضوعاته كماً ونوعاً، والنظرة إلى القوانين التي خضعت لها عملية انعكـاس هذه المسيرة الفكرية في تراثه الثقافي.
مهمة علم النفس ودوره..
تبين النظرة المتأنية إلى بنية علم النفس المعاصر ونـشاطاته والنجاحـات التي أحرزها حتى الآن حضوره الإيجابي والفعال داخـل مؤسـسات الإنتـاج والمصالح العامة والخاصة، وفي المدارس والعيادات والمستـشفيات مراكـز التدريب المهني والعسكري وقواعد إطلاق الـصواريخ والمركبـات الفـضائية وغيرها. وهذا ما يعكس، من الناحية العملية، حاجة المجتمع المتزايدة إلى علـم النفس أولاً، وقدرة هذا العلم على تلبية هذه الحاجة ثانياً.
إن التطور العلمي والتقني بمـا يجـسده مـن آلات وأجهـزة إلكترونيـة ومركبات فضائية وأقمار صناعية، وما يخلّفه من “انفجار” معرفـي إعلامـي يطرح سلسلة من المشكلات المعقدة التي تتوقف ديمومتـه واسـتمراره علـى معالجتها وحلها. فما هي الجهة (أو الجهات) التي يترتب عليها القيام بذلك؟ ومـا هي العوامل التي تكمن وراء هذا التطور والشروط التي يضمن توافرها الحفاظ على إيقاعه ووتيرته؟.
لقد أصبح معروفاً أن مهمةً كهذه تقع على عاتق المؤسـسات والمـصالح والإدارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية… الخ. إذ بهـا جميعاً تناط مسؤولية تهيئة العوامل والشروط التي من شأنها أن تمهـد الـسبيل أمام تقدم العلم والتقنية. ومن بين هذه الشروط والعوامل تحتـل عمليـة تنظـيم الإمكانات البشرية والتحكم بها وتوظيفها بصورةٍ عقلانيةٍ أهمية قصوى. وعندما يدور الكلام حول هذه العملية، فإن ما يقصد به هـو قـدرة المجتمـع، متمـثلاً بمؤسساته وإداراته ومصالحه المتعددة، علـى الإفـادة مـن معطيـات العلـوم الإنسانية، وفي مقدمتها علم النفس.