خاص: قراءة- سماح عادل
المرض النفسي قد يكون مرضا وراثيا، ورثه المريض عن عائلته دون رغبة منه، وهو يعاني اختلالا في خلايا المخ تؤدي إلى تأثيرات نفسية سيئة وأعراض مرضية، وتفهم الأمراض النفسية وتقبلها شرط ضروري لمعالجتها وتخفيف وطأتها، وللأسف في بلدان العالم الثالث لم نصل بعد إلى درجة من التحضر تتيح لنا التعامل مع الأمراض النفسية وتفهمها، بل ومعالجتها وتوفير مؤسسات علاجية مناسبة، وتوفير خدمات علاجية للجميع وبأسعار مناسبة.
في كتاب “عقل غير هادئ- سيرة ذاتية عن الهوس والاكتئاب والجنون” للكاتبة الأمريكية “كاي ردفيلد جاميسون” ترجمة “حمد العيسي” تحكي الكاتبة تجربتها مع مرض قاس يطلق عليه “ذهان الهوس الاكتئابي” أو “الاضطراب الوجداني ثنائي القطبية”، وقد تم تصنيف هذا الكتاب كواحد من أفضل الكتب مبيعا على قائمة جريدة “نيويورك تايمز” عند صدوره عام 1995 وسوف نقرأ هذا الكتاب.
ذهان الهوس الاكتئابي..
ظهر مصطلح “ذهان الهوس الاكتئابي” أول مرة عام 1958 وفي السنوات الأخيرة أصبح له اسم مرادف أكثر شعبية هو “الاضطراب الوجداني ثنائي القطب”، والمرض عبارة عن اضطراب عقلي يتميز بنوبات هوس واكتئاب متكررة يتأرجح فيها مزاج الشخص ومستوى نشاطه بشكل عميق، الذهان هو اضطراب عقلي خطير وخلل كامل في الشخصية يجعل سلوك المرء مختلا ويعوق نشاطه الاجتماعي، ويفقده الاتصال بالواقع، ومن أهم أعراضه اضطراب السلوك وتفكك الشخصية الأصلية والتشوش وتذبذب المزاج، وعدم معرفة المريض بعلته واضطراب الإدراك ووجود الضلالات والهلاوس والانفصال عن الواقع، ولا يلزم وجود كل هذه الأعراض معا.
أما نوبة الاكتئاب فتتميز بهبوط حاد في المزاج وانخفاض في الطاقة والنشاط والحيوية، إلى حد عدم القدرة على أداء العمل أو القراءة أو الكتابة، فيبدى فيها الشخص عادة ضيقا وتوترا وبطئا بالغين، مع فقدان تقدير الذات وعادة ما تكون الأحاسيس بعدم الفائدة أو الذنب بارزة، ويمكن أن تصاحبها الضلالات والهلاوس وتصبح نظرة المريض للحياة سوداوية قاتمة، ويمثل الانتحار خطرا محتملا في الحالات الشديدة.
وتبدأ نوبات الهوس في العادة فجأة وتستمر لفترة تتراوح ما بين أسبوعين وأربعة شهور، أما الاكتئاب فيميل إلى الاستمرار لفترة قد تطول في المتوسط إلى ستة شهور، ويتابين معدل حدوث النوبات ونمط التحسن والانتكاس كثيرا، وإن كانت فترات التحسن تقصر مع مرور الوقت كما تصبح الاكتئابات أكثر شيوعا وأطول استمرارا بعد منتصف العمر، وذهان الهوس الاكتئابي مرض خطير جدا إذا ترك بدون علاج وتبلغ نسبة المنتحرين بسببه ثلاثة أضعاف نسبة المنتحرين بسبب الاكتئاب الحاد، وتصل إلى عشرين ضعفا بالنسبة إلى عامة الناس في الولايات المتحدة، وتشير الإحصائيات إلى أن هناك ستة ملايين أمريكي تقريبا يعانون هذا المرض.
الجنون..
تقول الكاتبة عن مرضها في بداية الكتاب: “خلال شهر واحد من توقيع أوراق اعتمادي كأستاذة مساعدة للطب النفسي في جامعة كاليفورنيا كنت في طريقي إلى الجنون، كان ذلك عام 1974 وكنت في الثامنة والعشرين من عمري، خلال ثلاثة شهور كنت مهووسة فوق قدرتي على الوصف، وعلى وشك البدء بحرب شخصية ومكلفة وطويلة ضد دواء، سوف خلال سنوات قليلة أشجع الآخرين على تعاطيه بقوة، إن مرضي ونضالي الطويل ضد الدواء الذي في النهاية أنقذ حياتي وأعاد عقلي كان لا يزال في بداياته، لقد كنت دائما أسيرة حالات مزاجية، مرعبة رغم أنها دائما مدهشة، كنت عاطفية جدا كطفلة ومتقلبة المزاج كفتاة ومكتئبة من الدرجة الأولى كمراهقة، ثم سجنت بقسوة في دورات من ذهان الهوس الاكتئابي، في الوقت الذي بدأت فيه حياتي المهنية، ولأنني اعتقدت أنني يجب أن استطيع السيطرة على الزيادة في التأرجح الحاد لمزاجي النفسي، فلم أنشد أي نوع من العلاج في السنوات العشر الأولى، وحتى عندما أصبح وضعي حالة طوارئ كنت أقاوم الأدوية، التي كنت أعلم عبر تدريبي الطبي وبحثي الأكاديمي أنها الطريقة الوحيدة لمعالجة المرض الذي أعانيه”.
وتواصل: “إن نوبات هوسي في مرحلها الأولى كانت حالات اهتياج ذات نشوة، أعطت باعثا على سرور شخصي عظيم، وتداعيا لا يضاهي للأفكار وطاقة غير منقطعة. الأدوية لم تسبب فقط قطع هذه الحالات المحلقة عاليا والمتدفقة بسرعة، ولكنها أيضا جلبت معها على ما يبدو أعراضا جانبية لا تحتمل، الهوس الاكتئابي يشوه الأمزجة والأفكار يحرض على تصرفات مروعة، يدمر أساس التفكير العقلاني، ويحدث تأكلا للرغبة والعزيمة على الحياة، إنه مرض أصله بيولوجي ومع ذلك يشعر الشخص أن سببه سيكولوجي عندما يجربه، إنه مرض فريد لأنه يمنح ميزة وسرورا ومع ذلك يجلب في يقظته معاناة لا يمكن تحملها، وتؤدي إلى الانتحار في كثير من الحالات.
الحب والمرض..
تقول الكاتبة عن الحب وقدرته على المساعدة على محاربة المرض: “لا يوجد مقدار من الحب مهما كان يستطيع أن يعالج الجنون أو أن يجعلك سعيدا أثناء نوبات الأمزجة السوداوية، الحب يستطيع أن يساعد ومن الممكن أن يجعل الألم أكثر تحملا، ولكن دائما يكون المرء معتمدا على الأدوية، التي قد تنجح أو لا تنجح، ومن الممكن أن تكون محتملة أو غير محتملة، وفي المقابل الجنون يستطيع بكل تأكيد أن يقتل الحب وغالبا ما يفعل ذلك من خلال سوء الظن والتشاؤم القاسي، والسخط والسلوك غير الطبيعي، وخصوصا بسب الأمزجة العنيفة. نوبات الاكتئاب الأكثر تعاسة والأكثر بطئا والأقل اهتياجا يمكن فهمها بالحدس، ويمكن التعامل معها بصورة أسهل، التجربة والحب علمتني عبر وقت طويل الكثير عن التعامل مع “ذهان الهوس الاكتئابي”، ولكن إذا لم يكن الحب هو الترياق الشافي فإنه بكل تأكيد يمكن أن يعمل كعلاج مساعد ومؤثر جدا”.
توصيفات شائعة للمرض النفسي..
تؤكد الكاتبة أن : “في اللغة التي نستخدمها لمناقشة ووصف المرض العقلي هناك أمور عديدة، الابتذال والخوف من وصمة العار والدقة الطبية تتقاطع لتخلق تشوشا، ونحتا تدريجيا لكلمات وتعبيرات تقليدية، لم يعد من الواضح معرفة كلمات، مثل مجنون، معتوه، مختل، مخبول، مجذوب، عبيط ،غريب الأطوار، في مجتمع أصبح حساسا بصورة متزايدة بخصوص مشاعر وحقوق المرضى العقليين، لاشك أن السماح لمثل هذه اللغة أن تستعمل بدون ملاحظة أو تصويب لا يؤدي إلى الألم الشخصي فقط، ولكنه يؤدي إلى التمييز في الوظائف والتأمين والمجتمع عامة، كما أن هناك حاجة عميقة لتغيير الانطباع الشعبي عن المرض العقلي. القضية هي مسألة سياق للعبارات، وتأكيد على المعنى.. أنا اعتقد بقوة أن الدراسات العلمية والطبية لكي يتم انجازها بدقة وموثوقية يجب أن تكون مبنية على نوع من اللغة الدقيقة، ومعايير التشخيص الواضحة، مثل الذي يتكون منها جوهر دليل التشخيص والإحصاء. ليس ثمة مصلحة للمريض في استعمال لغة أنيقة ومعبرة إذا كانت غير دقيقة وغير موضوعية”.
الوراثة..
وبخصوص كون المرض وراثي تحكي الكاتبة: “ذهان الهوس الاكتئابي حدث تكرارا طوال الأجيال الثلاثة التي عرفتها في سلالة أبي من العائلة، وفي المقابل كانت سلاسة أمي لا تشوبها شائبة، إن حقيقة كون ذهان الهوس الاكتئابي مرضا جينيا يجلب معه، بدون مفاجأة، مشاعر معقدة وصعبة، فهناك مشاعر الخجل والذنب التي يجد الشخص نفسه أمامها”.
وعن مخاطر المرض على الأطباء توضح: “اضطرابات المزاج غير المعالجة تنتج عنها مخاطر ليس للمرضى فقط، ولكن للأطباء أنفسهم، هناك الكثير من الأطباء يقدمون على الانتحار سنويا، استنتجت دراسة حديثة أنه حتى وقت قريب جدا خسرت أمريكا سنويا ما يعادل دفعة كاملة في كلية طب متوسطة الحجم، بسبب الانتحار وحده، أغلب حالات انتحار الأطباء بسبب الاكتئاب أو ذهان الهوس الاكتئابي، وكلاهما يمكن علاجهما بصورة ممتازة، الأطباء لسوء الحظ لا يعانون فقط نسبة عالية من الاضطرابات المزاج مقارنة بالناس العاديين، ولكن لديهم أيضا سبيل إلى وسائل انتحار فعالة”
حياة في الأمزجة..
تلخص الكاتبة مرضها وأعراضه في: “كل منا يتحرك ضمن قيود مزاجه ويعيش حسب احتمالاته، ثلاثون عاما من العيش مع ذهان الهوس الاكتئابي جعلتني أكثر إدراكا لكل من القيود والاحتمالات التي تأتي معه، المزاج المشئوم والقاتم والمهلك موجود دائما، ومشدود بطريقة ما مع جمال وحيوية الحياة. الكآبة جزء مكمل لشخصيتي والأمر لا يحتاج لجهد تخيلي من جانبي لتذكر شهور قاسية من الظلمة، والاستنزاف والمجهودات الرهيبة التي بذلتها للتدريس، والقراءة، والكتابة، ورؤية المرضى والإبقاء على علاقاتي حية، وما كان مدفونا في أعماقي ولكنه يستدعى حالا مع أول اثر للاكتئاب، هو الصور التي لا يمكن نسيانها للعنف والجنون التام والسلوك المخزي، والأمزجة الهمجية التي لا تطاق، وهي كذلك مؤلمة في تأثيرها على الآخرين.. ورغم ذلك مهما كانت الأمزجة والذكريات رهيبة بحق إلا أنها كانت توازن دائما عندما ترتفع معنوياتي بواسطة من حولي”.
وعن الهوس تستطرد: ” إن النشاط الذي يسكبه الهوس في تجارب المرء الحياتية يخلق حالات قوية وحادة من رباطة الجأش، مثلما تفعل الحرب والحب والذكريات الأولى بلا ريب، ومع ذلك توجد هناك فتنة لذلك الماضي وتبقى هناك شهوة مغوية، وإن كانت نادرة لإعادة خلق تلك الأوقات ذات الاهتياج والنشاط المفرط، انظر خلفي وأشعر بوجود فتاة شابة نشيطة ومن ثم امرأة متفجرة وهائجة، كلتاهما تملكان أحلاما عظيمة وطموحات رومانسية قلقة، هذه الرغبات مجرد أشواق، ولا أشعر أنني مجبرة على إعادة خلق تلك الطاقة الحيوية، فالعواقب مخيفة جدا ونهائية جدا ومدمرة جدا، أنا خائفة جدا من أنني سأصبح مرة أخرى كئيبة بصورة رهيبة أو مهووسة بدرجة قاسية، وكلاهما سوف يمزق حياتي وعلاقاتي وعملي، ولذلك لا أفكر بأي تغيير في علاجي الطبي.. إن السنوات الطويلة التي عشتها من الثوران الدوري للمرض جعلتني أكثر استعدادا وأكثر قدرة على التعامل مع التأرجحات الحتمية للمزاج والطاقة، التي اخترتها عندما قررت تناول جرعة مخففة من الليثيوم، أنا الآن أتحرك بصورة أسهل مع تذبذبات المد والجزر للطاقة والأفكار والممارسات التي بقيت معرضة لها. إن عقلي حتى الآن بين الفينة والأخرى يصبح كرنفالا من الأضواء والضحك والأصوات، ومليئا بالاحتمالات المثيرة المرح والحيوية والراحة التي تملؤني، تتدفق وتملا الآخرين هذه اللحظات المتألقة والبهية، تستمر لبعض الوقت، لموسم قصير، ثم تغادرني مزاجاتي وآمالي المبتهجة إلى ركام قاتم ومنهك”.
أسوار داخلية..
وعن دافعات الناس الداخلية تقول الكاتبة: “كلنا نبني أسوارا داخلية لتصد حزن الحياة والقوى الجامحة الموجودة غالبا في عقولنا، بأية طريقة فعلنا ذلك، عن طريق الحب أو العمل أو العائلة أو الإيمان أو الأصدقاء أو نكران الذات أو الكحول أو المخدرات أو الأدوية، نحن نبني هذه الأسوار طوال أعمارنا، إحدى أصعب المشاكل هي أن نبني هذه الحواجز على ارتفاع وقوة بحيث يصبح للمرء ملاذ حقيقي وحرم مقدس يبعده عن الاضطراب والألم اللذين قد يشلانه، الأفضل أن تكون هذه الأسوار منخفضة وذات نفاذية بدرجة كافية لتسمح بدخول الماء النقي، ولفرد له مثل عقلي ومزاجي فإن الدواء يصبح جزءا مكملا من هذا السور، بدونه أكون معتمدة باستمرار على الحركات الساحقة لبحر عقلي”.
الكاتبة..
“كاي ردفيلد جاميسون” دكتورة وأكاديمية متخصصة في علم النفس، من مواليد 1946، حصلت على دكتوراه في علم النفس السريري 1974 من جامعة “كاليفورنيا”، “لوس انجلوس”، وتعمل حاليا أستاذة للطب النفسي في كلية الطب جامعة “جونز هوبكنز” في “بالتيمور” ولاية “ماريلاند” كما تم منحها الدكتوراة الفخرية ولقب أستاذة فخرية للغة الانجليزية من جامعة “سانت اندروز” في “استكتلندا” وتعتبر الدكتورة “جاميسون” واحدة من أهم خبراء مرض “ذهان الهوس الاكتئابي” في العالم، وحصلت على العديد من الجوائز العلمية الأمريكية والعالمية.