خاص : بقلم – طارق يوسف :
تقول الروايات إن أحداث هذه القصة وقعت في عهد “كسرى أنو شروان”، أفضل ملوك فارس علمًا وحُكمًا ورأيًا، وأكثرهم بحثًا عن مكامن العلم والأدب. وقد حكم “كسرى أنو شروان” بلاد الفُرس في القرن السادس الميلادي، حيث مات عام 574 ميلادية..
تقول الروايات؛ إن “برزويه” الحكيم، وكان من رؤساء أطباء فارس وكبير حكمائها، جاء يومًا إلى “أنو شروان” وقال:
“أيها الملك إني قرأت في كتاب هندي أن في جبال الهند عُشبًا إذا رُكّب منه دواء، فنُثر على ميت أرتد حيًا”.
فلما سمع “أنو شروان” ذلك قال:
“كيف يكون لبلاد الهند ذلك دون فارس ؟.. لن أدع هذا العُشب إلا أن احصل عليه مهما كلفني ذلك من مشقة ومخاطر”.
ثم جهز الحكيم “برزويه” ليسّير إلى الهند وقال له:
“أذهب وأجلب ليّ هذا العُشب، ولك في هذا من الأموال والهدايا ما يعينك على اجتلابه”.
توجه “برزويه” الحكيم إلى بلاد الهند، تنفيذًا لمشّيئة “كسرى أنو شروان”.. من أجل إحضار ذلك العُشب العجيب “الذي إذا نُثر على الميت أرتد حيًا !!”.. حسّبما تقول بذلك بعض الكتب الهندية..
وعندما وصل إلى الهند.. قابل ملكها، وأعطاه الهدايا التي جلبها معه من بلاد فارس.. فُسر ملك الهند لذلك، وسأله عن سبب زيارته لبلاده.. فأخبره “برزويه” الحكيم، أنه جاء ليبحث عن هذا العُشب العجيب الذي قرأ عنه..
فأمر ملك الهند بجمع علمائه، وطلب منهم أن يبحثوا في الجبال عن هذا العُشب… فأنتشر علماء الهند في الجبال بحثًا عنه.. وجمعوا كل صنوف العُشب الموجود بها.. وجربوها جميعًا.. فما أحيا عُشب منها ميتًا !…
فندم “برزويه” الحكيم.. وتحير وظل يُفكر… كيف سيعود إلى “كسرى” خالي الوفاض ؟ وماذا سيقول له بعدما انفق كل هذه الأموال بلا طائل ؟
ثم خطر له خاطر.. فسأل العلماء:
“أتعرفون في الهند عالمًا أعلم منكم جميعا ؟”
فقالوا:
“نعم.. هناك عالم يفضلنا علمًا، ويكبرنا سّنًا.. لكنه يعتزل الناس بأحد الجبال البعيدة”.
فقال لهم “برزويه” الحكيم:
“خذوني إليه.. فقد يكون عنده رد الجواب عما نسأل”….
أصطحب علماء الهند “برزويه” الحكيم إلى قمم أحد الجبال الشاهقة المنعزلة ببلاد الهند.. وعندما وصل إلى قمة الجبل، وجد هناك شيخًا عجوزًا يُقيّم وحيدًا بخيمة قديمة متهالكة..
حياه علماء الهند، وقبّل كل عالم منهم جبينه، ثم جلسوا أمامه جميعًا في أدب وخشوع التلاميذ أمام معلمهم..
وبادره “برزويه” الحكيم فسأله عما أتى بلاد الهند من أجله، قال:
“أيها العالم الجليل، جئت بلادكم بحثًا عن عشب بالجبال يُقال أنه إذا نُثر على الميت أرتد حيًا.. فهل لك علم بمثل هذا العُشب العجيب ؟”
قال له العالم:
“أعرف هذا العُشب”….
سّرت همهمة بين العلماء.. وقفز قلب “برزويه” الحكيم فرحًا لدنوه من نوال مقصده..
وهتف بالعالم المعتزل:
“دلنيّ عليه أيها العالم الجليل”
قال العالم:
“أما الجبال التي بها هذا العُشب… فهي العلوم..
وأما الموتى… فهم الجُهال..
وأما العُشب.. فكتاب في خزائن ملك الهند يُحيّي موتى الجهل.. اسمه (حكايات كليلة ودمنة)”.
بعد أن عرف “برزويه” الحكيم، ما المقصود بذلك العُشب الذي يٌحّي الموتى.. أسرع عائدًا إلى ملك الهند فأخبره بما قاله العالم المعتزل في هذا الشأن.. ثم أخذ يرجوه أن يسمح له بالاطلاع على كتاب (كليلة ودمنة).. فاغتم ملك الهند وقال:
“ما طلب أحد هذا الطلب من قبل، ولكنا لا نُضّن على الملك أنو شروان بشيء”..
وأمر أن يؤتى بالكتاب؛ وأن يطلع “برزويه” الحكيم عليه، ولكن بشرط أن يتعهد بعدم نسّخه أو كتابة أية عبارة منه.. فتعهد “برزويه” بذلك.. وأمر الملك أن يُلازمه عدد من العلماء حتى يضمن تنفيذ “برزويه” لما تعهد به…
أخذ “برزويه” الحكيم كتاب (حكايات كليلة ودمنة)، وبدأ في قراءته.. وظل على ذلك زمانًا، يصل الليل بالنهار لا ينام في يومه إلا سّويعات قليلة.. يقرأ الفصل من الكتاب مرة ومرات، حتى يحفظه عن ظهر قلب.. ثم ينتقل إلى الفصل التالي، حتى يحفظه عن ظهر قلب..
فلما فرغ من الكتاب.. أرسل إلى “كسرى أنو شروان”، يُعلمه بما لقي من التعب والعناء، وأنه أنجز مهمته على خير وجه.. فأجابه كسرى يأمره بالعودة إليه ساعة يصل إليه رده.
فتجهز “برزويه” الحكيم، وخرج من بلاد الهند قاصدًا بلاد فارس.. بعد أن شكر لملك الهند حُسن استقباله وكرم وفادته.
لما عاد “برزويه” الحكيم إلى بلاد فارس.. دخل على “كسرى أنو شروان”، وقدم له التحية الواجبة.. فلما رآه كسرى وقد شُحب لونه، وتغيرت سحنته، وشاب رأسه، رق له وقال:
“أبشر أيها الحكيم المطيع لمولاه، الناصح له، ببشرى صالحة، فما صنعته يستوجب الشكر والتقدير منا ومن جميع الخاصة والعامة.. وسوف نجزيك بأفضل مما رجوت وأملت”..
وأمره أن ينصرف سبعة أيام ثم يأتيه بعد أن يكون قد دون ما حفظه من كتاب (كليلة ودمنة).
فلما كان اليوم الثامن حضر “برزويه” الحكيم إلى مجلس كسرى.. فوجد عنده العلماء والأشراف من أهل المملكة.. فلما اكتمل الجمع، دعا كسرى كبير حُجابه وأمره أن يقرأ الكتاب أمام الجميع…
فلما فرغ كبير الحجاب من قراءة الكتاب، وسمع العلماء ما فيه من العلم والأدب والأعاجيب والحكم التي جاءت على ألسّن الحيوان والطير، تعجبوا لذلك، وشكروا “برزويه” الحكيم على ما أتى به إليهم من الأدب والمعرفة .
ثم إن كسرى أمر بأن تُفتح خزائن الذهب والفضة لـ”برزويه”، ودعاه لأن يأخذ منها ما أحب وشاء..
فماذا تظن كان رد “برزويه” الحكيم ؟…
وكم من الذهب والفضة أخذ، بعد أن أباح له كسرى أن يأخذ ما يشاء منها؟
عندما فتح “كسرى أنو شروان” خزائن المملكة أمام “برزويه” الحكيم، وأمره أن يأخذ منها ما شاء من الذهب والفضة.. قال “برزويه” لكسرى:
“أطال الله عمر مولاي كسرى.. وإني إذ أشكر لكم يا مولاي حُسن تقديركم، وسّخاء عطائكم، فإني لا حاجة لي إلى شيء من ذلك.. لكني أريد إن أسأل الملك حاجة يسّيرة يكون لي فيها ذكر وفخر وحياة ليّ بعد مماتي”.
فقال كسرى:
“وما تلك الحاجة أيها الحكيم برزويه ؟”.
فرد “برزويه” قائلاً:
“إن رأى الملك أن يأمر بأن يوضع ليّ في رأس هذا الكتاب بابًا باسمّي، يُذكر به شأني وفعلي ليكون لمن بعدى عبرة وتأديبًا، ويحّيا به ذكري ما حيّيت، وبعد مماتي.. فإنه إن فعل ذلك شرفني وأحياني إلى الأبد”.
هنا نتوقف، فقد اكتملت قصه “عُشب المحياة”، وهي القصة التي وردت في مقدمة كتاب (حكايات كليلة ودمنة)..
وقصة (عشب المحياة) تروي أصل هذه الحكايات، التي تضاربت الأقوال حول نقل وترجمة “ابن المقفع” للنسخة الهندية إلى العربية، أم أن “ابن المقفع” قام بتأليف الكتاب كاملاً، وادعى أنه نقله عن الهندية ـ لأسباب سياسية ـ وهو أمرٍ شّاع بشأنه جدالٍ واسع بين الباحثين، حيث هناك قسم منهم يرى أن هذا الكتاب ليس له أصل هندي من الأساس..
يقول عميد الأدب العربي؛ “د. طه حسين”: “ليس كتاب (كليلة ودمنة) من الكتب الخفيفة، لأنه جاء على ألسنة الوحوش والطير.. بل هو من الكتب التي عنّيت به واحتفت كل ثقافات ولغات العالم تقريبًا، فقليل من الكتب نال من إقبال الناس وعنايتهم ما نال (كتاب كليلة ودمنة)”..