بقلم: سدرة الدمشقي
(أديبة وكاتبة سورية)
قيل: ((إن التاريخ يكتبه المنتصرون والأقوياء))، لكني؛ ((أجزم إن التاريخ الحقيقي يكتبه الروائيون)).
الاشتغال على عتبات الرواية:
العنوان “عروس الفرات” يثيرك ويستفزك، ويوقظ فيك السؤال؛ فهل نحن سنباشر احتفالاً، كعادةً مألوفةً، كتلك التي دأبت عليها الشعوب والمتمثلة في تقديم القرابين لمقدساتهم؟ أم سنكون أمام فرح؟.
عرض الغلاف صورة امرأة تصارع عتو الرياح وعناد الأيام وعواصف الطغيان؛ فمن تكون هذه المرأة؟ هل هي تلك التي عقدت قرانها ولم تسعد؟ أم التي رافقتها العذابات والمعاناة لتلتقي بالحبيب بعد رحلة شاقة رأت فيها كل ألوان الحزن والموت، وكانت كأنها صخرة ثابتة؟ أم هي الوطن بما عاشه من مآسي وما عانى منه محبوه؟. الصورة جسّدت صراعاً بين حسناء وعواصف تكثّرت، انكسرت عليها وتكسّرت عليها، وظلت تعاند وتعاند.
الرواية التي كتبها المفكر العراقي علي المؤمن، تضمنت (240) صفحة، وقسمت إلى (35) جزءاً أو قطعة صغيرة، تراوحت بين الاسترجاع ومعايشة الأحداث، وجمعت كل الأشكال السردية، كما نشط فيها الحوار الباطني (المونولوغ) والحوار مع أو (الديالوغ). والحقيقة أن مميزات الجودة في الرواية، من النواحي الفنية واللغوية والأدبية، جعل منها عملاً روائياً احترافياً متكاملاً، برغم أنها التجربة الروائية المطبوعة الأولى للدكتور علي المؤمن، الذي عرفناه مفكراً وباحثاً، ولم يسبق له أن ولج حقل الرواية أو القصة.
الرواية تكشف الواقع أو للوضع الذي عاشه العراق خلال العام 1979 وبعده، ويعرضه الكاتب من خلال الحياة اليومية لعينة من عائلات النجف العراقية، وما تعرّضت له من قمع وتنكيل وتعذيب، جراء رفضها للطغيان ومطالبتها بالعيش الكريم.
استهل على المؤمن روايته بتأطير مكاني وزماني، تهيئةً للقارئ. المكان هو محلة قديمة، في النجف الموغل في التاريخ، الضارب في القدم، حيث تسكن في بيت تراثي كبير، عائلة كغيرها من العائلات العراقية الأصيلة، متدينة، بسيطة، مثقفة، متماسكة، رغم كثرة عددها الذي يجمع ثلاثة أجيال، تسودها المحبة والألفة، يفترق أبناؤها في النهار، وهو ما تفرضه قوانين الحياة اليومية، وتلتقي في الليل، لتسكن وتتسامر، وكان أكثر ما يشغل وقت سمرها الوضع السيء للبلاد. ترمي الأسرة آمالها وآلامها مساءً بين أحضان كبير الأسرة السيد عبد الرزاق الموسوي، الأستاذ في كلية الفقه، المؤمن بحرية الرأي، ولا غاية له سوى الولاء للوطن، يسكن شوقاً الى رؤيته في أحسن حال، لكنه لايستطيع ترجمة إيمانه بحرية الرأي في الواقع. أما زوجته أم عادل، المرأة العراقية البسيطة الحنون، فهي تعيش سعادة لاتوصف بأبنائها وأبنائهم، عادل أبو هشام الأبن الأكبر الطبيب، وشيماء البنت الوحيدة للعائلة، الطالبة في كلية طب بالكوفة، ونور زوجة عادل، وولديها آمنة وهشام، وأحمد أبو على، الابن الثاني والموظف في شرطة النجف، وزوجته ياسمين، واللذين ستفرزهما الرواية بطلين لها، وابنهما الوحيد علي، والابن الثالث صلاح، المهندس الكهربائي، وأخيراً ياسر أصغر الأولاد سناً.
قررت الأسرة عقد قران صلاح ببنت خالته زهراء في شهر رجب، شهر الأفراح، وليوافق ذكرى ولادة الإمام علي. للعائلة انتماءات دينية ترجع فيها للسيد محمد باقر الصدر ومدرسته الإسلامية، والتي انخرط في تنظيمها عادل وأحمد وصلاح وشيماء. وحين كانوا يتبادلون أطراف الفرح، تبدأ عقدة الرواية؛ إذ يُطرق الباب فجاة. الدكتور عادل يوشوش في أذن أحمد بأن التنظيم سيعقد اجتماعاً طارئاً غداً لتقييم الأوضا، حينها توجس الأب سواد الأيام القادمة، وهو يشاهد عادل وأحمد يتهامسون، مؤكداً على ضرورة أخذ الحيطة.
خال الاجتماع، ناقش الأعضاء الوضع العام للبلاد وما تمر به الحركة الإسلامية من استهدافات، ولذلك عزموا على الرد بالمثل، بناء على الاجراءات التي اتخذها السيد الصدر. انتهى الاجتماع؛ فخرجوا متسللين، وفي طريق وجدوا الكثير من الاجراءات الأمنية المشددة، لكن عادل وأحمد استطاعا العودة الى المنزل سالمين.
في الثالث عشر من رجب من العام 1979، كان عقد قران صلاح على زهراء، غمرت السعادة الأسرتين، كان يوماً تغمره الزغاريد ويقاسمها الفرح الغامر. التقى العروسان زوجين بعد البعاد.
حين كان الجميع يغط في نوم عميق، وإذا بجرس الهاتف يرن يطلب الدكتور عادلا، الذي تلقى رسالة مشفرة مفادها “أنهم أخذوا أبا جعفر إلى المستشفى”، ترجمها إلى أحمد كالآتي: “لقد اعتقلوا السيد محمد باقر الصدر”. بعد سويعات خرجت تظاهرة حاشدة في النجف، حاصرتها القوات الأمنية، وسادت الاشتباكات والاعتقالات. هناك افترق عادل واحمد، وفرّ عادل مع صديقه. بعد يومين من التخفي في بغداد، عاد عادل الى النجف، فوجد العائلة في حيرة كبيرة. أخبرته أمه بأن أحمد وصلاح خرجا ولم يعودا، وقد تفرق الباقون كل في اتجاه للبحث عنهما. فجاة طُرق الباب من راكب دراجة نارية، تسلمت الأم منه رسالة موجهة الى عادل: “صلاح اعتقل وأحمد في أمان سيعود بعد أيام. عليك أن تغادر البيت فوراً”.
تشتت العائلة:
“الوضع ملتهب”، اشتدت الأزمة، فقد تشتت شمل العائلة، وتعقد وضعها الأمني، وكان رحيل عادل هو الزلزال الثاني بعد اعتقال صلاح، الذي تزوج منذ أيام. خرج عادل وزوجته وطفلاهما يحملون مرارة صدورهم، انطفأ وهج الفرح، وبدأ التحول نحو عمق المأساة والكابوس.
بعد أيام عاد أحمد الى البيت سليماً، وأدرك أن أمرهم انكشف، وأن عليه الحذر الشديد، بعد أن قرأ الرسالة التي تركها له عادل، والذي طلب منه أن يأخذ على عاتقه الخطوط التنظيمية المرتبط به، لانها صارت في عهدته، وأن عليه تعميم توجيهات الشيخ حسن، ممثل السيد الصدر.
بدأت الروح تدب في البيت بعودة أحمد، واستئناف عمله الوظيفي، رغم أن البسمة سُرقت من العائلة الى الأبد، فبمجرد النظر إلى زهراء العروس، وتذكر عريسها صلاح المعتقل، وعادل وأسرته الغائبين، تدمع العيون وتجمر القلوب، غير أن نبض الحياة لم يفارقها.
كان أحمد يعمل بانضباط وحيوية، منعاً للشكوك، بعد اعتقال صلاح ومغادرة عادل العراق. ولكن؛ ذات يوم وبلا مقدمات، حضر رجال الأمن الى الدائرة، واجتمعوا بأحمد في مكتب المدير، وأمروه بالذهاب الى بغداد لتسلّم جثة أخيه صلاح الخائن، كما وصفوه.
حين عاد أحمد الى البيت، وجد أن عائلته قد علمت بإعدام صلاح، فبات الحزن عميم والوطع كبير, بين العروس زهراء التي لم تهنأ ولو ليلة واحدة مع صلاح، والأم المفجوعة التي باتت نصف ميتة، وشيماء التي تتفجر غضباً. مرت الأيام متثاقلة وقد صبغتها المرارة. وماهي إلّا أيام حتى أبلغت الدائرة أحمد بقرار فصله من الوظيفة، بسبب إعدام أخيه.
في الجزء التاسع يتحدث كاتبنا عن جريمة إعدام السيد محمد باقر الصدر وأخته من قبل النظام، أو البعثيين كما يسميهم. وصف عبد الرزاق هذا الحدث بالقيامة، بينما قرر أحمد الانتقام وفاء لدمه ودماء آلاف الشهداء الذين قتلهم النظام، فأخذ يعمل ليل نهار من أجل إزاحة كابوس الطغيان عن وطنه.
وجه احمد ومجوعته ضربات موجعة لأجهزة السلطة، ومنها القيام بعملية كبيرة، هدفها الاستيلاء على وثائق مهمة لمديرية الأمن في بغداد، تتضمن خطط النظام في القضاء على التنظيم الإسلامي وحركة السيد الصدر وأسماء عملاء الأمن المكلفين بهذه المهمة. وهي الوثائق التي ستتسبب بمأساة كبيرة أخرى للعائلة. أصيب احمد برصاصة خلال العملية، فقصد متعثراً منزل صديقه جمال، ثم عاد الى بيته في النجف بعد ثلاثة أيام، وبرغم الألم، فإنه كان يشعر بنشوة المنتصر. وظل أحمد لا ينام إلا ساعات قليلة، فالانشغال بالمهام النضالية كان يستهلك كل وقته.
ذات يوم من أيام أيلول من العام 1980، سمع احمد ما كان يتوقعه، إعلان النظام الحرب على ايران، ومباشرة القوات العراقي دخول أراضيها. وهنا يوصلنا الكاتب الى مأساة “الوداع الاخير”. النظام يصدر قراراً بسحب مواليد احمد الى الخدمة العسكرية الاحتياط. لزم احمد البيت عدة أيام، لأن عقيدته، كما يقول، لاتسمح له بالمشاركة في الحرب.
حين كان أحمد يلاعب ابنه الذي يسأله على الدوام عن آمنة وهشام وعمه عادل؛ داهمت القوات الحكومية البيت، فحاول احمد الهرب عبر سلم سطح الدار، غير أنهم لحقوا به، وبعد تحذيرات أطلقوا عليه الرصاص، وطوقوه واعتقلوه وأشبعوه ضرباً. شعر احمد بفرح بالغ بعد أن عرف أن سبب اعتقاله هو عدم التحاقه بالخدمة العسكرية، وليس انكشاف ارتباطاته التنظيمية ومعارضته للنظام، رغم أن عدم التحاقه بالجيش كان أن يوصله الى قاعة الاعدام، لولا العفو العام المشروط الذي أصدرته السلطة، والذي يتضمن الالتحاق بجبهة الحرب فوراً .
في جبهة الحرب:
ساقوا أحمد الى جبهة الحرب مع آلاف المعتقلين الآخرين، ليحصل على شرف المشاركة في معركة القادسية الثانية كما أسماها صدام. هنا تكفل الكاتب بوصف الوضع النفسي المزري للمجندين قسراً. بعد أيام، تمكن احمد من تهريب رسالة الى أهله مع صديق طفولته عباس، أدركتهم في ليلة من ليالي تموز، وهم في حالة حزن مرير، تمنى فيها احمد أن يسموا وليده القادم باسم محمد باقر. كان احمد عازماً على الهرب من الجبهة، لذلك كان يتحين الوقت المناسب. وفي ليلة كان مع عباس خلف ساتر واحد، يحرسان ويتسامران، حتى نسيا ما يحدث حولهما، لقد عادا إلى الماضي وذكريات الدراسة، وفي الوقت يخططان للهرب، ككل يوم. عباس شخصية ضامرة لا تني عن النِكات والمزاح حتى في أحلك الأوضاع. وفي ليلة عاتمة ساخنة، أخبر عباس أحمداً بأنها اللحظة الموعودة، وبينما هما يهربان، رآهما مسؤول الرصد، فجمد في مكانه، لكنه قال بينه وبين نفسه: “ليجربا حظيهما، لعلهما ينجحان، ويخرجان من رحى هذه الطاحونة”.
في الطريق باتجاه القوات الايرانية، قطعا حقول الألغام، لكنهما تاها، إذ سارا إلى الشمال، وفي الفجر أدركا صحراء قاحلة لاحدود لها.. نفد الماء والطعام، وخارت قوة عباس، ولاقى حتفه في الصحراء، فدفته أحمد في حفرة حفرها بأصابعه. جاهد أحمد لبلوغ قمة مرتفع، فرآى علماً كتب عليه:” الله اكبر.. قادمون ياعراق”. في تلك اللحظة خارت قواه وأغمي عليه، بعد أن تصور أنه بات أمام القطعات العراقية مرة أخرى. هنا رصده القوات المتخدقة، فذهب اليه ثلاثة مقاتلين، وجاؤوا به محمولاً الى المقر الخلفي. لقد ذهل؛ لأنه وجدهم يتكلمون اللهجة العراقية، فعرف أنهم قوة عراقية معارضة، ترابط على الحدود العراقية الإيرانية لقتال الطاغية الذي استباح كرامة الوطن، كما قالوا له. كان لكل مقاتل عراقي مرابط، مأساة في قلبه وعقله.
أمضى أحمد أياماً في “معسكر الشهيد الصدر” الذي أقامه المعارضون الإسلاميون العراقيون قرب الأهواز جنوب إيران، وهو المعسكر الذي تجمع فيه مقاتلون عراقيون تشتتهم اللغة والعادات، وتوحدهم الهموم والأهداف، كما يصفهم الكاتب. وبعد أن أكمل احمد التدريب العسكري، رحل للمرابطة في إحدى مواقع المجاهدين العراقيين في جبهة الجنوب عدة شهور، ثم قررت قيادة المعسكر إعادته إلى العمل داخل العراق، بناء على خبرته وعمله الميداني الناجع.
وهنا يُطرح سؤال كبير: هل كان أحمد خائناً لوطنه، أم كان مناضلاً شريفاً يدافع عن الوطن ويريد إنقاذه من الطغيان والظلم؟. ورغم أن الكاتب لم يجب مباشرة على السؤال، إلّا أن السردية الفنية الباهرة التي صور الكاتب من خلالها حجم الطغيان والظلم و المأساة، كفيل بالانحياز الواعي لسلوك أحمد ومسار حراكه.
وفجأة يضعنا الكاتب أمام تحول كبير، فحين كان أحمد يستعد للعودة الى العراق، وصلته رسالة مكتوبة، أوقعته في ذهول بالغ. إنها رسالة من زوجته ياسمين، التي رمتها السلطة باتجاه الحدود العراقية الإيرانية، وهو تقليد عريق للدولة العراقية تسميه التسفير إلى ايران. عتدما بلغت ياسمين مخيم المهجرين العراقيين في ايران، جدّت في البحث عن أحمد، وعندما عرفت عنوانه، أرسلت له تلك الرسالة. غلب على أحمد الاضطراب؛ فزوجته وصلت إلى ايران، بينما هو عائد إلى العراق .
بعد أن حصل احمد على إجازة للذهاب الى مخيم المهجرين العراقيين، تحرك على الفور، قطع الطريق بسرعة فائقة، حتى بلغ هدفه. هنا يصور الكاتب مشهد المخيم وصفاً دقيقاً، عشرات آلاف العراقيين المرحّلين قسراً الى إيران في ظروف بالغة الخطورة، شيوخ ونساء وأطفال، يعيشون في مساكن مؤقته وخيم وكرفانات، ويعانون من أوضاع نفسية وجسدية مزرية، جراء ماتعرضوا حلال رحلة العذاب أو التسفير. وبعد لأيٍّ وعذابات، التقى الزوجان الحبيبان أحمد وياسمين في أرض بعيدة، لم تكن يوماً بحسبانهما، ولكن، لوحدهما، دون علي ووليدهما الجديد، ودون أبو عادل وأم عادل، ودون شيماء وياسر. فمالذي جرى يا ياسمين؟!
الدار الخالية:
هنا؛ يلجأ كاتبنا إلى تقنية الاسترجاع )فلاش باك)، ليسرد ما حدث للعائلة والدار التي بقيت خالية. تطول هنا الأحداث، ولذلك سنقف على نتائجها. لقد انتهت المداهمات بالتنكيل بالأسرة، حيث أطلق النار عناصر الأمن على الطفل ياسر في الشارع، وانهارت أمه انهياراً تاماً، ولم تعد تعي ما يحدث حولها. اقتيد مابقي من العائلة إلى الاعتقال، ووضعوهم في زنزانات انفرادية.
المحقق النقيب فلاح، وُعد بترقية إن تمكن من الامساك بأحمد وحيازة الوثائق الأمنية التي استولى عليها في العملية الفدائية، وكان يقود التحقيق والتعذيب مع مساعديه. عرّضوا السيد عبد الرزاق لصنوف التعذيب، لكنهم لم يظفروا بأية معلومات، شعر النقيب بالعجز، خطرت له فكرة وهي أن يبدأ بتعذيب ابن احمد وياسمين، الطفل علي، الذي لم يبلغ 5 سنوات، معتبراً إياه نقطة ضعف جده عبد الرزاق وأمه ياسمين. مزق أحد المحققين ثياب الطفل، وضربه ضرباً مبرحاً. في تلك اللحظة تدخلت ياسمين وهي تستعطف النقيب فلاح، لتنقد فلذة كبدها، وأخبرته بأنها ستدله على مكان احمد زوجها. وحين علموا أن عبد الرزاق يعرف الحقيقة ويتستر، انهالوا عليه ضربا وركلاً، وأمهلوه أياماً معدودات ليخاطب أقربائه وأصدقائه ليأتوا بأحمد. بعد انتهاء مهلة الأسبوع، لم ينجح عبد الرزاق في أقناع أقاربه وأصدقاىه بالبحث عن احمد، لأنهم كانوا يخافون سطوة المخابرات والتورط في هذه القضية. حينها أخمد النقيب أنفاس الطفل عليا بكل برود أمام أفراد العائلة. وهنا رسم الكاتب علي المؤمن صورة قاتمة لممارسات النقيب المتخبط المغتاظ. لقد أغمي على ياسمين، وظلت أم عادل هائمة، وأطلقت شيماء عقيرتها سباً وشتماً.
أقدم النقيب على فعل شنيع آخر، ليثخن في جراح العائلة، فأخبر عبد الرزاق بأنّ ابنه عادل وزوجته وطفليه هشام وآمنة قتلوا في مجزرة جماعية داخل المعتقل، غير أن أبا عادل حافظ على رباطة جأشه. أعادوا كرة الانتقام منه، فأتوا بابنته شيماء، قيدوها، واغتصبها أحد الضباط أمام عيون الأب، وأجبروه على فتح عينيه، فنادى: “يا إلهى”، فاختلط صوته ولمعان البرق، وصعدت أنفاسه. اقتادوا شيماء وأعدموها .
أغلق النقيب فلاح الملف: “تمت إحالة المدعوة حليمة نوفل جاسم وياسمين محمد إلى دائرة التسفيرات لترحيلهما إلى ايران. توفي عبد الرزاق حسن الموسوي بالسكتة القلبية، ومات علي أحمد بمرض الحصبة، وقتل ياسر اثناء محاولة هربه، وأعدمت شيماء، لأنها من الحزب العميل.
أجهضت ياسمين تحت التعذيب، وتم تسفيرها مع أم عادل التي سبق أن فقدت رشدها. في الطريق داست أم عادل على لغم، فتشظّت أجزاء، وكأنّ العذابات أرادت أن تمعن في العائلة، كما تعرض المهجرون الى التسليب من جماعة كردية موالية للرئيس العراقي.
تمكن كاتبنا بلغة سردية متقنة، تخللها الحوار، من وصف المأساة التي لحقت عائلة عبد الرزاق، وفي عرض أفانين العذاب التي مارسها الحزب الحاكم في العراق، وكشف عن مأساة العراقيين في فترة الاستبداد والطغيان، موظفاً تقنية (الفلاش باك) والحوار والسرد والوصف، وأنهى الرواية بأمل اللقاء في يوم مشرق..
انتهت الرواية بلقاء الزوجين المفجوعَين عادل وياسمين في مخيم المهجرين العراقيين، فكفكف دموعها وأسكنها حضنه، رغم أنفاسه الثائرة، معلناً غايتهم التي ستبقى مشروعاً يحمله هو بسواعد أحفاده: “سيبقى عبد الرزاق حياً بحفيده على.. الذي سيولد من جديد”. وهكذا تنتهي الرواية، رغم طابعها المأساوي، ببعض الأمل والرجاء.
في النهاية؛ التاريخ الحقيقي يسجله الرواة وليس الأقوياء المنتصرين.