قراءة/ رنيم العامري
عن الكاتبة والكتاب:
وُلدت (نادية صادق العلي) في ألمانيا، من أب عراقي وأم ألمانية. درست في مصر وفي بريطانيا وأمريكا، وهي تعمل الآن في معهد الدراسات العربية في جامعة إكستر-بريطانيا. أسست منظمة (نعمل معاً: نساء للعمل من أجل العراق)وهي منظمة بريطانية – عراقية، وعضوة في منظمة (نساء بالسواد) في لندن، منظمة مناهضة للعنف ضد المرأة. وقد وضعت كتابها هذا بعد جولات شتى التقت فيها نماذج مختلفة من عراقيّات مغتربات، بإرادتهنّ أم من دونها، ودوّنت أقوالهن عمّا عايشنه أو حدث معهن كعراقيّات عانين شتّى المرارات، وقد نشر الكتاب بعدّة لغات من ضمنها العربية وصدر عن (دار نون) عام 2015.
لماذا المرأة؟:
ترى الكاتبة أنّه في العراق، كما في أية من المجتمعات التي تعاني من صراعات لإعادة ترسيم الحدود بين (نحن) و(هن)، تستعمل المرأة لتأشير الاختلافات بين الناس، بين الثقافات، بين المجموعات الدينية وهلّم جراً. وإنّ هذا ليس فقط في المجتمعات المسلمة بل وحتى في البلدان الغربية، فقد تجد كلاماً من قبيل (نساؤكم يلبسن بهذه الطريقة ولا يتصرفن بطريقة لائقة) منتشراً ليشوه صورة جماعات اجتماعية معينة أو أمم أو ثقافات.
هذا الكتاب يحكي شهادات شخصية، حق يقية، مهمة وعاطفية، فيمنح نظرة مقرّبة إلى حال المرأة العراقية، ويتتبع تاريخها يوماً بيوم، كمؤشر كما قلنا على المناخ السائد. فلطالما كانت كتابة التاريخ تجري بطريقة انتخابية يهمل فيها إلى حدٍ كبير صوت الذاكرة الشخصية للفرد الواحد في المجتمع، لذا برأيي الخاص أجد دوماً أنّ الأفلام السينمائية والروايات الأدبية والسير الذاتية هي أصدق نسخة عن التاريخ. وترى الكاتبة: أن رواية قصص عن عراقيات هي إحدى السبل للكشف عن مزيد من طبقات الرواية المتعددة والمتحولة عن العراق. وإنّ كتابها يسهم بمجال ما زال صغيراً في الدراسات الاجتماعية، التي تشدد تشديداً كبيراً على الروايات الشخصية وأصوات المواطنين الاعتياديين، بعيداً عن المقاربات المستعملة من الأعلى إلى الأسفل.
في هذه المراجعة للكتاب سنحاول تتبع تاريخ العراق من خلال تسلسل روايات بعض النساء المذكورات فيه، منذ عام 1948 إلى عام 2006.
تبتدئ الحكايات بأكبر الراويات سناً، سهام، عراقية من أصل يهودي تعيش الآن في لندن. كبرت في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات في الكرادة. تقول: “كنّا جميعاً أصدقاء، كنا نحتفل بالمناسبات سوية. ففي ذكرى شهادة الإمام الحسين كانوا يأتون معنا، حتى اليهود والمسيحيين. لم نفكر أبداً بالأصل أو الدين” ثم تغيّر الزمان وبدأت عمليات ترحيل اليهود في 1949 لتبدأ حكاية الشتات والمنفى بعبارة: “جرجروني من البيت..”.
في العهد الملكي كان تعليم النساء مقتصراً على الفئة العليا، كانت ثريا طالبة ثانوية خلال وقت الوثبة، فشاركت في التظاهرات، وتذكر حادثة مقتل (جعفر) شقيق الشاعر الجواهري. أما ابتسام التي نشأت في النجف فلم يكن والداها متدينين: ” كان أبي مثقفاً وأمي ربة بيت لكنها مثقفة جداً أيضاً. فقد علّمت نفسها القراءة والكتابة.. كان والديّ من أبناء عمومة عائلية معروفة ومتدينة جداً كانت نساؤهم محجبات حتى في البيت. لكن والديّ كانا مختلفين، فقد كان أبي يشرب العرق ويعزف على العود وبيوت النجف تحتوي على سراديب، كان أبي يجلس في السرداب في المساء، يشرب ويعزف على العود..”.
تقول ثريا: “كان يوم 14 تموز من عام 1958 أهم يوم في حياتي. يا للفرحة!” هكذا استقبل العراقيون خبر إعلان عبد السلام عارف قيام الجمهورية عبر الراديو. ولكن خبر مقتل العائلة المالكة وتعليق جثث القادة السياسيين أثار مشاعر متباينة. ففاطمة السيدة الشيعية التي غادرت العراق في السبعينيات كانت في وقت الثورة بعمر المراهقة تقول: “لم يفرح كل الناس بالثورة. أبي حزن على ما حدث. كان هناك عنف كثير. قتلوا أفراد العائلة المالكة من صغيرهم إلى كبيرهم بطريقة وحشية”
لم تكن سعاد فرحة بانقلاب 1963، فتقول: ” كرهت الطريقة التي اعتقلوا بها عبد الكريم قاسم وقتله وعرض جثته على التلفزيون. جعلوا الناس يعتادون أكثر فأكثر على القتل والعنف. كانت أياماً رهيبة. فقد شكل البعثيون ميليشيا أسموها الحرس القومي، وكان هؤلاء مسؤولون عن الكثير من أعمال القتل. كانوا بلطجية. كانوا يدخلون بيوت الناس يضربونهم ويعتقلونهم ويقتلونهم. عذّبوا أناساً كثيرين وكانوا مسؤولين عن اغتصاب مئات النساء”.
منذ العام 1968 حتى أواخر الثمانينات، كانت الدولة العراقية تسعى إلى الحد من السلطة البطرياركية للعائلة، فرحب رجال الطبقة الوسطى بتلك السياسات، ثم خلال الحرب العراقية الإيرانية فرضت الدولة على المرأة العراقية دور عاملة متعلمة تشترك في جميع مؤسسات الدولة ودور أم لجنود المستقبل فكانت تتحمل ضغطاً من أجل ولادة خمسة أطفال للإسهام في الجهد الحربي. ثم أطلقت حملة تعريب، تفكّكت نتيجتها عدة زواجات مختلطة بين رجال أو نساء من جذور إيرانية، فتحمّلت المرأة في الحالتين عبء تطليقها من زوجها إيراني الجذر، أو طلاقها من زوجها العراقي في حال كونها ذات أصل إيراني، وبمثل هذه الحملة كانت الدولة تشجع الرجال العرب على الزواج من نساء كرديات.
وسأضيف من قبلي رواية أخرى، من كتاب (يوميات بغداد) 1975-1980 للكاتبة (صافيناز كاظم) التي جاءت من مصر عام 1975، وكانت فور وصولها تشعر بوطأة القبضة الحديدية على وجوه الناس رغم الأمن الذي ينعم به البلد، وتشابه النغم الذي يتمجد بالبعث بالنغم الذي يتمجد بالناصر في مصر ثم بعد أن تولى صدّام الحكم صارت الأغاني كلّها تمجده فأترع من كأس الغرور. في مذكراتها، تروي بداية توقّد المشاعر العدائية بين المجتمعين العراقي والإيراني بسبب تعبئة إعلام حزب البعث ضدّ الخميني وثورته، وتمر في مذكراتها بحادثة قصر الخلد التي قضى فيها صدام على منافسيه في الحزب بحجة الخيانة. وتروي قصصاً تدمي القلب عن تهجير ذوي التبعية الإيرانية، يخرجون من دورهم بالقوة بالركل والضرب والإهانة عائلات بأكملها من الجد إلى الحفيد، ويتم شحنهم في سيارات مكشوفة في ظلمة الليل ثم يرمى بهم على الحدود، وكانوا لا يعرفون أحداً في إيران ولا يعرفون اللغة الفارسية، فهذا بيتٌ أُخذت منه أم لأنها ذات أصل إيراني، أما أولادها فقد ظلوا مع الأب، ولم يشفع للأم وليدها الرضيع. وذاك بيتٌ انتزعت منه ثلاث شقيقات ليس لهنّ أحد، كبراهن في التسعين من عمرها وصغراهن في السبعين، وعلا صراخهن عندما داهمهن رجال الأمن في جوف الليل يصرخن “وين نروح.. وين نروح؟”.
فرّت صافيناز من العراق سنة 1980، بعد إعدام الشهيدين الصدر وأخته بنت الهدى، تكتب: “وكنتُ أسير في بغداد أكاد أشم الدم وأحس مذاقه حقيقة في حلقي وأنا أبلع ريقي”.
وبعد حرب الخليج وانتفاضة 1991 ونتيجة لضعف نظام صدام قام بتشجيع النزعة العشائرية وقبل النظام بممارسات عشائرية كان يجرمها من قبل، مثل جرائم الشرف، مقابل الولاء له. بالإضافة إلى أنّ سلسة الحروب والقمع السياسي خلقت اختلالاً في التوازن الديموغرافي فصارت الإناث يشكلن بين 55-60% من السكان البالغ عددهم 24 مليون عراقي. وفي ظل الحصار الاقتصادي تعرضت المرأة للتهميش مع ازدياد البطالة والاقتصاد الفقير فبقيت في البيت.
وحتى بعد سقوط نظام صدام، وتغيير الأنظمة والسياسات، ظهرت تغيرات جذرية على شأن المرأة في المجتمع، تمثلت بمحاولات أسلمة المجتمع منها محاولة مجلس الحكم عندما كان برئاسة عبد العزيز الحكيم إلغاء قانون الأحوال الشخصية الموحد لصالح قانون يستند إلى الشريعة، فقانون الأحوال الشخصية الموحد يعد من أكثر القوانين تقدّمية في الشرق الأوسط، بجعله تعدّد الزوجات أمراً صعباً فيما يضمن حقوق حضانة المرأة للأطفال في حال طلاقها. وبرأي الكاتبة فإن عملية الأسلمة تخدم غرضين أولهما يتمثل بقطيعة مع نظام صدام حسين السابق العلماني إلى حد كبير، والثاني هو مقاومة الاحتلال. فكانت المرأة العراقية محشورة بين السعي إلى عراق جديد بعيد عن نظام صدام، والسعي إلى تحدي فرض معايير الثقافة الغربية وأخلاقياتها. وعلى الرغم من عدم نجاح تلك المحاولة في ذلك الوقت، إلا أنّها تؤشر على المناخ السائد. أرسل الأمريكان أشخاصاً إلى العراق كان موقفهم (لا نريد نساء) وكان بريمر واحداً منهم. حتى مسألة حصة المرأة في التمثيل السياسي والبالغة 25%، تروي ليلى الناشطة في حقوق المرأة (إن النساء اللواتي تم تعيينهن هن في الواقع محافظات جداً وضد حقوق المرأة).
أمّا المليشيات الدينية والجماعات المسلّحة، فكانت تقتل النساء وتختطفهن أو تقوم بمعاقبتهن برمي الأسيد على وجوههن. ولوحظ تغيير شيفرة الملبس بسبب فرض تغطية الرأس على النساء عند خروجهن حتى على غير المسلمات، وفرض قيود على الحركة والعمل والسلوك وكثيرات أجلن دراستهن أو تقدمن بإجازات من العمل أو تركن العمل أو الدراسة، وظهرت مجموعات على أبواب الجامعات تمنع الطالبات غير المحجبات من الدخول أو حتى الصراخ بوجوههن، كما ظهرت جماعات تطالب وتهدّد الجامعات المختلطة مالم يُفصل الجنسان، وجدت أوراق تهديد في الجامعات وفيها (إذا لم يعزل الطلاب الأولاد عن البنات سنفجّر الكلية. وأية طالبة لا تلبس الحجاب سنحرق وجهها بالتيزاب). وظهرت فتاوى تحرّم خروج المرأة من بيتها وقيادتها للسيارة. فزادت حوادث قتل النساء في الشوارع سواء كانت محجبة، ناشطة سياسية واجتماعية أم مجرد موظفة، ثم ظهر القتل على أساس الهوية الطائفية، وبرأي زينب، إحدى نساء كتاب (عراقيات): لا يهم السبب (فالنساء يقتلن لمجرد إنّهن نساء). وفي يوميات بغداد تكتب صافيناز كاظم: “استمرّ توغل صدام بالظلالة والظلمات فأصدر أوامر بمنع الطالبات من الحجاب..” وهكذا نرى أنّ شيفرة ملبس المرأة كانت وماتزال مؤشراً على نظام الحكم وحال المجتمع.
لماذا هذا الكتاب؟
أمّا أهمية الكتاب، كما كتب مترجمه (فالح حسن فزع) الذي أعاده إلى العربية، فتأتي من كونه: مجموعة روايات شخصية عن أحداث شهدها العراق في أكثر من نصف قرن من الزمان. عن تحولات وتغيرات تروى، في المستوى غير الرسمي “تاريخ شفاهي” بمضمون يختلف أو حتى يتناقض حسب الخلفية الإثنية أو الطائفية أو الحزبية، إلخ، حتى ليصير التاريخ كله محض صورة عن الحقيقة وليس حقيقة. على أنّ هذا التاريخ الشفاهي برمّته لابد ان يُروى ويُدون ويُناقش من أجل الخلاص من مصادر الاختلاف والانتقام فيه، بل أيضاً لإحياء لحظات التعايش والتفاهم والانسجام، ليُعزل في نهاية المطاف (جامداً) في متحف التاريخ.