كتبت – سماح عادل :
حاول الباحث والناشط السياسي المصري “هاني شكر الله” تفكيك لغز ثورة 25 يناير، وما نتج عنها، ونجاحاتها وإخفاقاتها خاصة في إنتاج حراك سياسي قوي ومستقل.. عبر أحدث دراساته القصيرة نشرت في شهر شباط/فبراير 2017 على موقع “الأحمر” المصري.
تذويب التنظيمات السياسية
الدراسة التي عنونت بعنوان طويل نسبياً لانه قصد شمول الرؤية “ثورة بغير منظمات ثورية، وسياسة بلا أحزاب سياسية.. محاولة نحو فك اللغز المصري”، حاولت رصد الحراك الشعبي بدءاً من ثورة يوليو التي يحسبها نجحت بسهولة في القضاء على حزب الوفد، حزب الأغلبية بلا منازع في مظاهرة مدفوعة الأجر في آذار/مارس 1954، كما نجحت في تصفية عدد من المنظمات الحزبية والديمقراطية التي كانت قد ظهرت مع نهاية الحرب العالمية الثانية متحدية الهيمنة الوفدية.
مروراً بهزيمة يونيو 67 التي شكلت ضربة للهيمنة الناصرية.. وأدت لظهور حراك متمثل في نضالات طلابية وعمالية اهتز لها نظام السادات، وتشكلت في إطارها منظمات ثورية “سرية” توسعت وازداد نفوذها وتأثيرها السياسي والجماهيري، وتحول شباب المثقفين للماركسية، مع ظهور مبادرات وأشكال للتنظيم الديمقراطي في الحركة الطلابية وفي النقابات المهنية والعمالية وفي الحركة الثقافية.
ثم جاءت حرب أكتوبر.. والتي أدت إلى تراجع في الحركة الطلابية والثقافية، وإن لم تقض عليها تماماً فيتواصل الحراك “انتفاضات 1975 الطلابية، المسيرة على البرلمان، ثم الانتخابات البرلمانية في 1976″، ويترتب عليه في الوقت نفسه نهوض عمالي، في معركة تاريخية دافعت الحركة العمالية فيها عن مكتسباتها، ضد العدوان على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لا للعمال فحسب ولكن للشعب عموماً.
زخم طلابي ونخبوي
ويبلغ زخم حركات الطلاب والمثقفين والنهوض الكبير في الحركة العمالية ذروته في انتفاضة 18 و19 كانون ثان/يناير 1977، والتي تعتبرها الدراسة “بروفة ثورة 2011″، ليس فقط لتفرض على الدولة التراجع عن إجراءات رفع الدعم، ولكن لتكون انتفاضة مؤثرة على النظام وسياسته طوال عقد وأكثر من السنوات، وتكون السبب في سعي “نظام مبارك” إلى التدريج في التحلل من “العقد الاجتماعي” دون اصطدام بالجماهير.
عودة الأحزاب.. بمفهوم ساداتي
توضح الدراسة أن “نظام السادات” قام بتفكيك الاتحاد الاشتراكي لثلاثة منابر بداية، ثم صفاه لصالح تعددية حزبية مقيدة وأطلق اسم “الحزب الوطني الديمقراطي” على الحزب الحاكم في طبعته الجديدة، وكان هذا سرقة أدبية صارخة لاسم “التجمع الوطني الديمقراطي” للحركة الطلابية، وانتج التحول حزبين أساسيين بجانب “الحزب الحاكم” هما حزبا “التجمع” و”الوفد الجديد”.. فنشأ كلاهما نشأة كبيرة نسبياً، الأول استفاد من تراجع الزخم الثوري للسبعينيات، والثاني اعتمد على حنين أقسام من البرجوازية لماضي ما قبل ناصري موهوم “حيث الوفد حزب فؤاد باشا وليس حزب زغلول والنحاس”، ولوهم مؤقت حول طبيعة وآفاق التحول الساداتي.
تضيف الدراسة أن انهيار كبير قد حدث وامتد لثلاثة عقود، انحدر فيهما الحزبان الشرعيان وأصبحا أحزاباً بلا قواعد، وواصلت الحركة العمالية مقاومة متقطعة، دون تراكم يذكر، فبقى التنظيم النقابي الرسمي أسير السيطرة الحكومية، وكانت الحركة الشعبية تحركات متناثرة، مفتقدة للوحدة والتنظيم، حيث نسيت التجارب التنظيمية الرائدة للسبعينيات، ودخلت بدورها المنظمات الماركسية السرية في ركود ثم أفول حتى كادت تختفي تماماً مع نهاية القرن العشرين، ونشأت منظمات جديدة منقطعة الصلة بما سبقها، وعانت مثلها مثل سابقاتها من الانقسامات.
محو المجال السياسي
أسمت الدراسة عهد حكم السادات ومبارك عهد “محو المجال السياسي”، وعهد صعود إسلامي ساحق.. أعاد صياغة الايديولوجيا والإطار الثقافي للمجتمع في ظل مباراة متوحشة بين الدولة البوليسية والإرهاب الديني، وهو أيضاً عهد تحول ما تبقى من الحركة الديمقراطية، إلى ما سمي بمنظمات “المجتمع المدني”.
تواصل الدراسة تأكيدها على أن ثورة يناير بعثت المجال السياسي بعد موت.. فهي لم تكن “هوجة ساخطة” فاقدة الاتجاه، بل “ثورة شعبية كبرى” قوامها الأساسي فقراء المدن، أذهلت العالم بانضباطها وبسالتها وإبداعها التنظيمي، وبوضوح رؤيتها لأهدافها التاريخية الكبرى، وكانت ثورة يناير تتمتع بقدرة تنظيمية فائقة.
وهم القيادة البرجوازية
وتناول “هاني شكر الله” السؤال الشائك حول الغياب المزمن للأحزاب والحياة الحزبية في مصر.. منتقداً نموذج الديمقراطية التمثيلية المسيطر على الأذهان، والذي يفترض أن تكون البرجوازية باختيارها أو جبراً “هي القائدة له من خلال ممارسة هيمنتها على الدولة والمجتمع في مجال سياسي مفتوح، وأن يشكل المجال السياسي بأحزابه وهيئاته التمثيلية ساحة تنافس مستوية نسبياً بين أقسامها وتوجهاتها المتباينة والمتنازعة حتماً، وأن تهيمن البرجوازية على غيرها من الطبقات، وذلك فيما يوفر في الوقت نفسه مساحة ما للطبقات والفئات الاجتماعية للتعبير عن نفسها وتحقيق بعض من مصالحها. مؤكداً على أن ذلك وهم شائع ليس، في مصر فقط، وإنما في باقي دول العالم وهو تخيل وجود إمكانية تغيير اجتماعي حقيقي من خلال الآليات الانتخابية للديمقراطية التمثيلية، ومشدداً على أن هذا الوهم صار ستاراً قاتماً تختبئ خلفه الطبيعة الرأسمالية الكامنة في صميم تكوين الدولة بصرف النظر عن القوى السياسية المتربعة على قمتها السياسية.
بين شكر الله أن الوضع في مصرمختلفاً شديد الاختلاف، ومع ذلك فلا يسعنا أن نتجاهل تأثير التحول اللاديمقراطي في العالم الرأسمالي المتقدم على مسار الصراع من أجل الديمقراطية في بلادنا، كما لا يسعنا غير أن نلاحظ تلك المفارقة المدهشة في شيوع وانتشار الأساطير الليبرالية بين صفوفنا وفي أنحاء العالم في الوقت نفسه الذي تعيش الديمقراطية الليبرالية فيه مرحلة انحطاطها وتأكلها، فلا تعود أفكارنا عن التحويل الديمقراطي للمجتمع بنت صراع اجتماعي مستعر بين خصوم ألداء مكسب أي منهم يساوي خسارة للطرف الأخر، ولكن وهم المعادلات “اللا صفرية” حيث الجميع كاسبون، محاط بكلام معسول عن مزايا التعايش وقبول الآخر والتنافس السلمي واحترام التعددية والاختلاف، فضلاً عن مقتضيات التنمية وضرورات التوافق بين حرية السوق وحرية المجال السياسي.
انتهت الدراسة إلى أن النضال من أجل الديمقراطية نضال اجتماعي طبقي في المقام الأول، لا يتحقق بالعظات الأخلاقية ولا الحديث الأجوف حول المعادلات اللاصفرية ولا بنصح البرجوازية بأن بعض الديمقراطية مهم ومفيد للتنمية والسياحة ولجلب الاستثمار الأجنبي وكسب حب ورضاء الاتحاد الأوروبي، ولكن بالنضال ضدها وعلى حسابها؛ فالديمقراطية ليست قواعد للمنافسة الرقيقة ولكن هي مباراة صفرية يتحقق كل مكسب ديمقراطي في إطارها على حساب الرأسمالية، انتقاصاً لهيمنتها وتدعيماً لطاقة الطبقات الشعبية على المقاومة والتأثير، فالديمقراطية الأتم والأكثر اكتمالاً ليست غير الاشتراكية، حيث الحريات أدوات فعلية فاعلة لتحقق إرادة البشر في تقرير مصيرهم.