26 أبريل، 2024 8:15 ص
Search
Close this search box.

عبد الله النديم.. خطيب ثورة عرابي وصحفي تنويري ثائر

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: إعداد- سماح عادل

“عبد الله النديم” هو “عبد الله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسي الحسن” كاتب وشاعر وخطيب مصري.

حياته..

“عبد الله النديم” ولد في الإسكندرية عام 1842، وقد قال والده منذ ولادته: “نذرته للأزهر عالما وشيخا وكبيرا” فألحقه بالكتاب ليتعلم القرآن تمهيداً لإلحاقه بالأزهر. و نبغ “عبد الله” وختم القرآن ثم انكب على كتب التراث ينهل منها. لكنه لم يلتحق بالأزهر ربما لرغبته في العمل ومساعدة والده.

عمل موظفا في التلغراف، وطبيعة التلغراف آنذاك كانت تقتصر على المراسلات الملكية والرسمية بين الحكومة المصرية والعالم الخارجي، مما أهل “النديم” أن يحتك بأكثر الطبقات المصرية آنذاك ترفا وفحشا في الثراء، ويشاهد حياة البذخ والرفاهية التي يحياها فريق من المصريين ويقارن حالهم بحال أبناء طبقته.

مصر الفتاة..

حسب المستشرق “إيڤانوڤ”، فإن “أديب إسحاق” و”عبد الله النديم” قاما في مطلع سنة 1879 بمحاولة جريئة لتأسيس جمعية أكثر ثورة وتحررا في الإسكندرية عرفت باسم “جمعية مصر الفتاة”، كان معظم أعضاء الجمعية من العرب النصرانيين ومن أبناء الطائفة اليهودية المصرية ومن الايطاليين المتمصرين، فكانوا يطالبون بالحريات المدنية والسياسية وبالعدل والمساواة بين المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن انتماءاتهم الديني والقومية. وبتشكيل حكومة وطنية حقيقية تكون مسئولة أمام مجلس نيابي منتخب انتخابا حرا.

على الرغم من الأثر الكبير ل”جمال الدين الأفغاني” على الفكر الاجتماعي السياسي لدى “عبد الله النديم”، كان الفضل أيضا في عقلنة وعلمنة ذلك الفكر وتوظيفه في خدمة الحركة والوطنية والنهضة القومية والأدبية، يرجع في المقام الأول إلى الصحافة الحرة التي أنشأها الرائد “أديب إسحاق” ابتداء من جريدة “مصر” و”التجارة” وانتهاء بجريدة “مصر الفتاة” التي فتحت بابها أمام “النديم”، وكان “عبد الله النديم” قد انضم إليها منذ اليوم الأول لتأسيسها.

أما “زلمان لڤين” فقد ذكر أن: ” جماعة “مصر الفتاة” السرية كانت تعارض ديكتاتورية الخديوي إسماعيل وتدعو إلى الدستور وإلى صياغة مجمل الحياة في البلاد صياغة جديدة، إلا أن النشاط التآمري كان سيتعارض مع معتقدات النديم، ولذا ترك الجماعة التي سرعان ما انهارت، وشارك مشاركة نشيطة جدا في إنشاء أول جمعية تنويرية في مصر، وهي “الجمعية الخديوية الإسلامية”. في حين نسبت الأديبة المستشرقة “دولينينا” إلى “النديم” تأسيس “جمعية المقاصد الخيرية” التي جمعت: “أنصار التنوير البارزين من رجال الفكر والشخصيات الاجتماعية المصرية”.

غير أن ابتعاد “النديم” عن الاسحاقيين نوه عنه الكاتب المصري “أنور عبد الملك”، بإشارته إلى أن انشقاقا وقع بين أعضاء جمعية “مصر الفتاة” سببه خلاف سياسي – ديني حاد. ف”النديم” والأتباع المسلمون القلائل في الجمعية كانوا يناصروا ويدعون إلى أفكار “العثمانيين الجدد”، ولذا انسحبوا من جمعية إسحاق السياسية ليؤسسوا في 18 أبريل جمعية “المقاصد الخيرية الإسلامية”.

التمثيل..

أصبح “النديم” في مصاف قادة الرأي والفكر في مصر، فقد أصدر عددا كبيرا من المجلات والصحف أشهرها “التنكيت والتبكيت” وانطلق فيها من السخرية المرة إلى معالجة آفات المجتمع ومشاكله المزمنة، وفي تلك الأثناء عمل مدرسا لبعض الوقت، أنشأ مع تلامذته فرقة مسرحية، ولم يكتف بدور المؤلف أو المخرج، وإنما شاركهم التمثيل أيضا،ولم يحفظ التاريخ هذه النصوص المسرحية وإن كان “أحمد سمير” وهو سكرتيره الشخصي في أخريات عمره قال: “إن النديم قد تناول فيها المجتمع وأظهر المساوئ الاجتماعية آنذاك مثل الانحلال الخلقي والفقر والجهل”.

وكان يهاجمه البعض بأن التمثيل عمل لا قيمة له ولا فائدة من ورائه، ويتهمون الممثلين بأنهم مهرجون، لكنه كان يدافع عنهم بثقة قائلا: “لا ينبغي النظر إلى الممثلين باعتبارهم مضحكين، ولكن التمثيل وسيلة لدفع الظلم والنقد السياسي، وكان يرى أن التمثيل: “فن بديع يقوم في التهذيب وتوسيع أفكار الأمم مقام أستاذ يلقن تلامذته بما تألفه نفوسهم”، وهكذا فإذا كان يعقوب صنوع (1838-1912) يعده البعض رائدا للمسرح العربي، فإن النديم بلا شك ممن تناساهم المؤرخون في هذا المجال.

الثورة العرابية..

انضم “عبد الله النديم” للثورة العرابية، وما هي إلا أيام حتى أصبح خطيبها المفوه الذي يؤجج مشاعر الجند، ويحشد البسطاء حول الثورة، ولهذا سمته “التايمز” خطيب الشرق، وقالت عنه “الديلي نيوز” “إن النديم متعصب للدين، ثوري، مهيج، يريد إحداث فتنة طائفية! وبعد فشل الثورة العرابية هام على وجهه هاربا، ولم تتخل عنه زوجته الوفية ولا خادمه الأمين، يحكي عنه الخادم كيف كان يتخفى ويتنكر في أزياء مختلفة بين شيخ وقسيس، أو عجوز وامرأة ومن فرط معرفته بحيل التخفي ألَّف رسالة في التنكر وطرق الهرب سماها “الاحتفاء في الاختفاء” طاف معظم قرى مصر، وكان أهم ما يساعده سعيه وراء الموالد التي تقام للأولياء، فينظر إليه الناس كواحد من المجاذيب أو المريدين، وبالتالي لا يشك أهل القرية أو السلطات في دخوله وخروجه..

ثم صدر أمر الخديوي توفيق بالعفو عنه.. ولكن مع نفيه إلى (يافا) وبعد تولي الخديوي عباس الحكم سمح له بالعودة مرة أخرى فأنشأ مجلة (الأستاذ)، وكانت أخف لهجة من أختها الكبرى (التنكيت والتبكيت) وصدم “النديم” بما آل إليه المجتمع المصري من انحلال خلقي وتفشي العري في العواصم وانتشار الخمور، وذلك لأن السنوات التسع التي قضاها هاربا غيبته بعض الشيء عن هذا المجتمع الذي عمل فيه المستعمر الإنجليزي بكافة أدوات الهدم التي يمتلكها.

لم ينخدع “النديم” بعودته ولم يخش أن يلاحق ثانية فاستمر في خطه قدمًا بنفس القوة في الهجوم على المظالم المتفشية، مما أغضب (اللورد كرومر- المعتمد البريطاني) فنفاه مرة أخرى واختار “النديم” الآستانة، والتقي هناك ب”الأفغاني” وعمل مفتشا للمطبوعات العثمانية براتب ضخم يذكر المقربون منه أنه كان يوزع معظمه على أحبابه وأصدقائه.

ولم يجعل منفاه بكائية وعويلا وإنما اتخذه فرصة للتفكير ومراجعة مواقفه من الحياة والكون والسياحة في الأرض، وأسفر منفاه هذا عن تأليفه أهم كتبه (كان ويكون) الذي يعرض فيه آراءه في الدين واللغة والسياسة والحياة، ورغم أنه من المؤلفات العظيمة التي لم تصلنا إلا أن الفيلسوف والمفكر “أحمد أمين” قال عن هذا الكتاب: “ما نشر منه ووصلنا يدل على نظر عميق واطلاع واسع وسماحة دينية لطيفة، وعاطفة جياشة بحب الإسلام ومصر والشرق”.

المتمرد الأخير..

في مقالة بعنوان (عبد الله النديم.. رسالة المتمرد الأخيرة) يقول “محمد سعد عبد الحفيظ”: “«إنك أنت أمير المؤمنين القادر على الانتقام بلا معارض، ولكننا سنقف بين يدي عادل قاهر يقضى بيننا بالحق، هو خير الحاكمين»، كانت تلك رسالة التمرد الأخيرة التي بعث بها عبد الله النديم مؤذن الثورة العرابية وخطيبها من منفاه في الأستانة إلى السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، عام 1895. كانت الأستانة هي المحطة الثانية التي رسى فيها قطار منفى النديم بعد محطة يافا، وهناك توقف القطار إلى الأبد، إلا أن حمولته من تمرد على الاحتلال والتغريب ومقاومة للاستبداد والتخلف وانتصار لحرية الصحافة، انتقلت إلى جيل جديد تسلم راية الحرية من النديم ورفاقه. وفي 9 سبتمبر 1881 كان النديم هو المدني الوحيد الذي شارك العرابيين في الزحف على قصر عابدين، واضطر الخديوي تحت الضغط إلى إقالة رياض باشا وتعيين محمد شريف باشا بدلا منه وتعيين محمود سامي البارودي وزيرا للجهادية، في تلك الأثناء جاب النديم قرى مصر وكفورها ونجوعها للتبشير بالثورة، “لا يمر عليه يوم إلا ويلقى فيه ثلاث خطب أو أربعا، في الشوارع والسرادقات، في المدن والبنادر والقرى، ناجحا جدا مع العمال والفلاحين والبسطاء، يفتح لهم قلبه، ويهز أكتافهم ويعلمهم الكلمات، مستعينا بكل تجارب حياته بينهم، وذاكرته الحساسة التي تلتقط طباعهم وتدرك أمزجتهم، مستخدما كل أدوات التمثيل والتهريج والإلقاء، ثم هو لا يكتفي بنفسه، فيجمع تلاميذه يعلمهم الخطابة ويجعل منهم فرقة دعاية لا نظير لها، تطوف معه الأقاليم، لتساعده في نشر الدعوة”، بحسب ما كتبه الأستاذ أحمد بهاء الدين في “أيام لها تاريخ”، متسائلا ” أليست هذه أول حملة دعاية عرفتها مصر؟””.

وواصل: “وفي صيف 1882 غزا الإنجليز مصر وأجهضوا الثورة العرابية، ونصبت سلطات الاحتلال المحاكم العسكرية للثوار ونفت منهم من نفت وأعدمت من أعدمت وجاء الدور على النديم فلفقت له تهمة الاشتراك في حرق الإسكندرية وصدرت أوامر بالقبض عليه فقرر الاختفاء معتمدا على موهبته في التمثيل والتخفي وساح في قرى الدلتا من القليوبية إلى الغربية، ولما أتعب هروبه الداخلية رصدت الوزارة مكافأة ألف جنيه مصري لمن يدلي بمعلومات تقود للقبض عليه. طالت غيبة النديم للدرجة التي ظن فيها الكثيرون أنه مات، إلا أن سلطات الاحتلال أمرت بالاستمرار في البحث عنه، في تلك الأثناء تنقل النديم بين عدة شخصيات صنعها من مخيلته، فمرة يظهر في إحدى القرى بشخصية يوسف المدني وأخرى في شخصية على اليمني، وثالثة على هيئة صوفي مغربي اسمه سي الحاج علي المغربي، ورابعة الشيخ محمد الفيومي. 9 شخصيات أو أكثر انتحلها النديم في ترحاله من مكان لمكان ومن بلد لبلد، لم يتوقف خلالها قلمه عن الكتابة والنشر بأسماء مستعارة. وخلال رحلة التخفي تعقبه ضابط شرطة وطني يعمل في أحدى أقسام الغربية النديم وأوقفه وقال له: “لا داعى للتنكر فقد عرفتك”، فرد النديم قائلا: “نعم أنا النديم”، فقال الضابط “لا بأس عليك اذهب في حفظ الله لتعرف أن في الوجود بقية للكرام”، ووصف له طريقا آمنا وأعطاه ثلاثة جنيهات. وبعد نحو 9 سنوات من التخفي تحديدا في عام 1891 ألقي القبض على النديم في بلدة الجميزة التابعة لمركز السنطة مديرية الغربية، بعدما وشى به شخص يدعى حسن الفرارجي، كان يعمل في البوليس السري قبل إحالته إلى المعاش، وتمكن حكمدار الغربية من القبض عليه وأحيل إلى النيابة العامة. وأثار خبر القبض على النديم ضجة كبيرة في مصر والعالم الإسلامي وطالبت الصحف بالعفو عنه، فقرر مجلس الوزراء برئاسة عبد الرحمن باشا رشدي في جلسته المنعقدة في 12 أكتوبر عام 1891 إبعاد النديم إلى الشام والإفراج عن كل من ساعده على الهرب ومنحه 150 جنيه ليستعين بها في منفاه ، بعد وفاة توفيق، أصدر الخديوي عباس حلمي، عفوا عن النديم فعاد إلى مصر”.

وفاته..

مرض “النديم” في الآستانة وتراجعت صحته، ونهش السل الرئوي صدره وأحس بدنو أجله، فأخبر أمه وأخاه في مصر واستقدمهما، ولكن الموت سبقهما فتوفي وحيدا غريبا عام 1896.

قصيدتين لعبد الله النديم..

أأنسى يوم مصر والبلايا..

أأنسى يوم مصر والبلايا

تطاردني ولا ألقى معينا

فكنتَ الغوثَ في يوم كريه

أخاف الشهم والحبر السمينا

مُدحنا فيه في إشراق شمس

فلما جاء مغربه هُجينا

وهل أنسى هجوم الجند عمراً

بلا علم وقد كنا فجينا

أحاطوا بي وسدوا كل باب

وصرنا بين أيدي الباحثينا

وكان السطح مملوءاً بجند

وخلف البيت كم وضعوا كمينا

فأدركت الوحيد وكان صيداً

قريباً من فخاخ الطالبينا

وأرشدتَ النديم إلى مكان

رآه بعد حيرته مكينا

وأعمى اللَه عنا كل عين

وكنا للعساكر ناظرينا

وصرنا فوق سطح فيه علو

يحطم هاوياً منه متينا

فلم أرهب وثوبي من طمار

ولم أنظر شمالاً أو يمينا

ويوم الغيظ كنتَ لنا مجيراً

بسطوته من البلوى حمينا

فقد كنا بلا ستر يرانا

أمام العين كل القاصدينا

وكم سرنا بلا خوف جهارا

ركبنا الخيل أو جئنا السفينا

وإني الآن في خطب عظيم

أرى في طيِّه داء دفينا

أتانا مخبرٌ عن قوم سوء

أرادوا وصفنا للحاكمينا

وخاف الضُّرَّ أحبابي جميعاً

وقالوا بالوشاية قد رمينا

فعجل بالرحيل بلا توان

ولا تخبر صديقاً أو خدينا

فأدرك يا أبى نجلا دهاه

من الأهوال ما يوهى البدينا

فما خفت المنون ولا الأعادي

نعم خفت انشراح الشامتينا

فسرتُ الليل يصحبني ثبات

لِخِلّ نحو منزله دُعينا

ورافقني خليل كان قبلا

يوافي حين كنا ظاهرينا

وأدركنا القطار بغير خوف

وكنا بالثياب منكرينا

وألقى اللَه ستر الحفظ فضلاً

فلم ترنا عيون المبلسينا

وكان الخل منتظراً قدومي

بخيل أوصلتنا سالمينا

ونجّى اللَه بعد اليأس عبدا

يرى الرحمنَ خير المنقذينا

……

أتحسبنا إذا قلنا بلينا ..

أتحسبنا إذا قلنا بلينا

بلينا أو يروم القلب لينا

نعم للمجد نقتحم الدواهي

فيحسب خاملٌ أنا دُهينا

تناوشنا فتقهرنا خطوب

ترى ليث العرين قرينا

سواء حربها والسلم إنا

أناس قبل هدنتها هدينا

إذا ما الدهر صافانا مرضنا

فإن عدنا إلى خطب شفينا

لنا جلد على جلد يقينا

فإن زاد البلا زدنا يقيناً

ألفنا كل مكروه تفدى

له فرسانه بالراجلينا

فأعيا الخطب ما يلقاه منا

ولكنا صحاح ما عيينا

سلينا يا خطوب فقد عرفنا

بأنا الصلب صلنا أو صلينا

وقرى فوق عاتقنا وقولى

نزلت اليوم أعلى طور سينا

علينا للعلا دين وضعنا

عليه الروح لا الدنيا رهينا

فهل يمسى رهين في سرور

وهل تلقى بلا كدر مدينا

إذا ما المجد نادانا أجبنا

فيظهر حين ينظرنا حنينا

يغنينا فيلهينا التغني

عن الباكي وينسينا الحزينا

ولسنا الساخطين إذا رزئنا

نعم يلقى القضا قلباً رزينا

إذا طاش الزمان بنا حلمنا

ولكنا نُهَينا أن نهينا

سلوا عنا منابرنا فإنا

تركنا في منصتها فطينا

لحكمتنا تقول إذا هذرتم

ألا هبي بصحيتك فاصبحينا

سرى فينا من الآباء سِرٌّ

يسوق البر نحو المعوزينا

فإن عشنا منحنا سائلينا

وإن متنا نفحنا الزائرينا

 

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب