(الحلقة الثانية)
لقاء خاص مع علي صالح السعدي
كنت إثر حادث احتفال السفارة العراقية بمناسبة مرور عامين على صدور بيان 11 آذار / مارس، قد التقيت مع علي صالح السعدي بعد يومين أو ثلاثة أيام، حيث دعوته لتطييب الخاطر، خصوصًا وهو خارج السلطة، بل بالضدّ منها آنذاك، وليس من الفروسيّة التصرّف معه بالطريقة التي حدثت، وهو في حالة ضعف وانكسار أقرب إلى الندم. وأُقدّر ردود الأفعال الحادّة، وفي لحظات الاحتدام أحيانًا، لكنني كنت أنظر للمسألة من زاوية أخرى.
وقضيت مع علي صالح السعدي بضعة ساعات، واستمعت إليه بإسهاب، ووجّهت إليه العديد من الأسئلة، بما فيها المحرجة، وكان صريحًا فيها وناقدًا ومخطّئًا لمواقف حزبه السابقة، لاسيّما إزاء الشيوعيين وارتكابات الحرس القومي من تعذيب وقتل وانتهاك للحرمات، دون أن ينسى انتقاد بعض مواقف الحركة الوطنيّة، ومنها الحركة الشيوعية في العام 1959.
وكان نوري عبد الرزاق قد تعرّف على السعدي في العام 1969 حين عاد إلى بغداد، حيث زاره الأخير في منزله، وتعزّزت علاقتهما، وتكرّرت لقاءاتهما في مقهى البرازيليّة ببغداد، مثلما كنت قد التقيت فيها مع علي صالح السعدي مرّة واحدة بصحبة حازم البزاز الذي كان قد اعتقل في قصر النهاية وأُطلق سراحه في العام 1969.
وذكَرَ لي نوري أن السعدي أبدى ندمه الشديد على ما حصل في 8 شباط/فبراير وما بعده. وروى أن اللقاءات كانت تتكرّر معه ومع آخرين، وفي إحدى المرّات حاول جلال الطالباني أن يستفزّه، وكان السعدي حينها منشرحًا فقال له: لو جاء الشيوعيون إلى الحكم وأعدموني في ساحة التحرير سأكون “سعيدًا”، وكنت قد سمعت هذه المعلومات من نوري عبد الرزاق في السبعينيّات، وعدت ووثّقتُها مجدّدًا، وذلك بهدف التدقيق وقبل إصدار كتابي الموسوم “سلام عادل الدال والمدلول وما يمكث وما يزول” (دار ميزوبوتانيا، بغداد 2019).
أعود إلى ما حدث في احتفال آذار/مارس 1972، والاحتكاك الذي حصل والذي حاول الدُوري معالجته، حيث دعانا إلى وليمة خاصة قصد منها جمع الأطراف المعنيّة، فوجّه الدعوة إلى الجواهري ومهدي الحافظ وموسى أسد (أبو عمران) وآرا خاجادور وإلى كاتب هذه السطور، الذي لم يتمكن من الحضور لعدم وجود هاتف لديه. وحين مرّ مهدي الحافظ لاصطحابي لم أكن حينها موجودًا”. وقد صادف وصول نوري عبد الرزاق إلى براغ، فاصطحبه معه مهدي الحافظ، وكما أشرت فهو على صلة ومعرفة بالسعدي وصداقة استمرّت طويلًا مع عبد الستار الدوري، وقد عرفت تفاصيل تلك الجلسة من نوري ومهدي والدوري في حينها. واستعدت بعضها في وقت لاحق مع الدوري في لندن في التسعينيّات.
آرا والدوري وسلام عادل: أين الحقيقة؟
يقول آرا خاجادور في مقالة كتبها ونشرها على الإنترنت وفي موقع الحوار المتمدّن والموسومة “من هو سلام عادل؟“، أن علي صالح السعدي اتّصل به بواسطة السفارة العراقيّة، حيث كان حينها ممثّلًا للحزب الشيوعي العراقي في مجلة قضايا السلم والاشتراكيّة في براغ في الفترة التي أشرت إليها، وطلب اللقاء به، والتقيا فعلًا كما يقول في مقهى سلافيا، وقال السعدي لآرا أريد أن أُودِعُكَ سرًا لأنني أعرف أنك “الصندوق الأسود” في الحزب الشيوعي وأنك مستودع الأسرار.
وكشف آرا عن السر الذي ظلّ معه كما يقول من العام 1972 وحتى العام 2016، ومفاده أن علي صالح السعدي أخبره بأنه أطلق رصاصة الرحمة على سلام عادل. ويضيف نقلًا عن السعدي أن سلام عادل حين اعتُقل كان على وَشَكْ السفر إلى القاهرة، ولذلك طلبت من الجهة المعنيّة الحفاظ عليه حتى عودتي، ولكنني حين عدت وجدته في حالة يرثى لها، فقد تعرّض إلى التعذيب الشديد، وبالكاد تستطيع أن تتعرّف عليه، ولذلك بادرت بإطلاق رصاصة الرحمة عليه كي لا يتعذّب أكثر، وهو في الرمق الأخير.
لكنّ عبد الستار الدوري ينفي ذلك نفيًا قاطعًا، لعدم وجود ما يشير إلى مثل ذلك اللقاء أصلًا، ويقول إن التعارف بين آرا خاجادور وعلي صالح السعدي تمَّ في منزلي، وبحضور المجموعة التي أشرت إليها، ولا صحّة لتلك الرواية التي وردت على لسانه، ويضيف أنه كان ضمن الوفد الذي ترأسه علي صالح السعدي، وضمّ مجموعةً من الوزراء بينهم طالب شبيب (وزير الخارجية) وشخصيات عامة مثل أديب الجادر وحسين جميل وجلال الطالباني وآخرين، وبالعودة إلى وثائق تلك الفترة وما هو منشور عنها، في حينه يمكن معرفة التفاصيل، فقد غادر الوفد يوم 19 شباط / فبراير وهو يوم اعتقال سلام عادل.
وحين سألت الدوري هل التقى السعدي مع سلام عادل؟ لم ينفِ ولم يؤكّد، وأخبرني بما يلي: أن السعدي اتّصل به وأبلغه أنه تمّ اعتقال سلام عادل، وأنه سيمرّ عليه لكي يلتقياه، لكنه كما يقول: اعتذرت عن ذلك لسببين؛ الأول – لم أكن أرغب بلقائه معتقلًا لأنه زعيم سياسي؛ وثانيًا – لأنني كنت أستعدّ للسفر إلى القاهرة. وأكّد لي الدوري أنه طيلة فترة حكم البعث لم تطأ قدميه معتقل قصر النهاية أو أي معتقل آخر، لكنه غير متأكّد إن كان السعدي قد ذهب للقاء سلام عادل أو لم يذهب، وحين سألته، ألم يخطر ببالك أن تسأل السعدي، ولو بعد حين، إذا كان قد حصل مثل هذا اللقاء أم لم يحصل؟
كما نفى محسن الشيخ راضي بشدّة الرواية التي تقول أن السعدي هو من أجهز على سلام عادل، وقال لم يتردّد في أوساطنا أنَّ علي صالح السعدي هو من قام بإطلاق النار على سلام عادل، ولو حصل مثل هذا الأمر فلن يبقى سرًّا، بل سيكون خبرًا سريع الانتشار، حتى لو تمّ التكتّم عليه.
وكنت قد سألت محسن الشيخ راضي، المسؤول الأول عن اللجنة التحقيقيّة في قصر النهاية، حيث استشهد سلام عادل، من كان يقوم بالتعذيب لأنك المتّهم الأوّل بذلك حسب التثقيف الحزبي الشيوعي لعقود من الزمن، فأجاب أن المسؤولين المباشرين عن قصر النهاية والأكثر حماسة لتعذيب الشيوعيين هم: مدحت ابراهيم جمعة وعمّار علوش ومحمد المهداوي وهاشم قدّوري وصباح مدني وبهاء شبيب، وكان يتردّد على قصر النهاية بعض من جماعة القاهرة أحيانًا، مثل عبد الكريم الشيخلي وأحمد طه العزّوز وغيرهما، وسألته مَن مِن بينهم أجهز على سلام عادل؟ فقال يبدو أن وضعه كان منتهيًا ولم يكن بمقدوره مواجهة الأهوال والتعذيب القاسي، فتوفّى إثر إحدى الضربات القاسية.
واختتم الشيخ راضي قوله: لا أريد أن أبرّئ أحدًا، فكلّنا “مرتكبون ومسؤولون” وهو ما دوّنته في كتابي الموسوم “سلام عادل: الدال والمدلول…” ولاحقًا قدَّم الشيخ راضي اعتذارًا للشعب العراقي في كتابه “كنتُ بعثيًّا” الذي صدر بجزئيه عن دار المكتبة العلمية في بغداد، الجزء الأوّل في العام 2021 والثاني عام 2022.
قصر النهاية
وكان عبد الستار الدوري واضحًا في تحديد الإدانة بالقول إنّ حزب البعث هو المسؤول عن ذلك، وحتى مَنْ لم يشترك (المقصود بالتعذيب)، فإنّه لا يمكن إعفاؤه من المسؤوليّة عمّا حصل (يقصد طاقم القيادة الأوّل).
وكمختتم لهذا المبحث كان ابراهيم الحريري معتقلًا في قصر النهاية أيضًا، واعتُقل في اليوم ذاته الذي اعتُقل فيه سلام عادل، وقد بقي معه في السرداب ليومين، وروى لكاتب السطور كيف كان يُجبَر سلام عادل على أن يظلّ واقفًا بدون نوم، وهو يعاني من آلام شديدة في الفقرات وعرق النسا ومشاكل في العمود الفقري، لاسيّما بعد جولات التعذيب التي تعرّض لها، وكان قد خاطب من معه في السرداب: إنها محنة وعلينا الصمود، وهو ما أوردته ماجدة علي في شهادتها عن الذي حصل في قصر النهاية، وهو ما جاء في كتاب أرملة سلام عادل ثمينة ناجي يوسف في كتابها الموسوم “سلام عادل سيرة مناضل“، دار المدى للثقافة وللنشر، جزءان، دمشق،2001.
وتقول زكيّة شاكر، وكانت حينها عضوةً في لجنة بغداد للحزب ومعتقلة مع سلام عادل في قصر النهاية، أنها شاهدته في سرداب القصر وعلى الرغم من التعذيب كان يستجمع ما بقي لديه من طاقة ليطلق حشرجة.
ويروي الحريري كيف تدهورت صحة سلام عادل، حيث بدأ يفقد السيطرة على نفسه في مساء اليوم الثاني، وكان قد بدا واضحًا أنه لن يستمر على قيد الحياة منذ اليوم الثالث، وفارق الحياة في اليوم الرابع، ويقول لقد وقع علينا الخبر مثل الصاعقة واسودّت الدنيا بأعيننا، خصوصًا حين سمعنا وشاهدنا سلام عادل بشموخه وكبريائه، وهو محطّم وفاقد السيطرة على نفسه ويهذي.
وكنت قد سألت محسن الشيخ راضي عن لقائه بسلام عادل عند زيارته لي في فندق ميريديان (فلسطين) – بغداد، فقال: التقيت به بعد عودتي من النجف في ذات اليوم الذي قتل فيه (استشهد)، وكنت قد عرِفت عن اعتقاله بواسطة الهاتف يوم وصولي إلى النجف لزيارة عائلتي، وكما تعرف كنت سجينًا في زمن عبد الكريم قاسم، وقضيت نحو عام وأُطلق سراحي يوم 8 شباط/فبراير 1963، فقرّرت التوجّه إلى النجف ومكثت فيها 4 أيام.
وعند عودتي توجّهت إلى قصر النهاية، فالتقيت بسلام عادل وهو ينتظر مقابلة حازم جواد في باب غرفة مدحت ابراهيم جمعة مدير قصر النهاية، وحاولت أن أعرّفه بنفسي لكنّه كان في وضع لا يُحسد عليه من أثر التعذيب، ولم تستمر المقابلة سوى عشر دقائق وهو محاط بالحرّاس وفي وضع مزرٍ، ولذلك اضطررت إلى مغادرة المكان منزعجًا، وفي المساء جاءنا خبر وفاته.
(يتبع)
مع عبد الستار الدوري وعبد الرزاق العاني
مع بهاد الدين نوري وعارف عبد الرزاق والمقدم رجاء غيدان وعبد الستار الدوري