خاص: إعداد- سماح عادل
“عبد الرحمن بن إبراهيم المنيف” خبير اقتصادي وكاتب وناقد سعودي، يعتبر واحدا من أهم الكتاب والروائيين العرب خلال القرن العشرين، وأشهر رواة سيرة الجزيرة العربية المعاصرة. ينتمي إلى بلدة قصيبا الواقعة على طريق عيون الجوى “شمال إمارة منطقة القصيم” في وسط الجزيرة العربية، السعودية، كان والده “إبراهيم العلي المنيف” من كبار تجار نجد (العقيلات) الذين اشتهروا برحلات التجارة بين القصيم والعراق، والشام. وقد عرف “عبد الرحمن مُنيف” ناشطا سياسيا حزبيا، ثم خبيرا اقتصاديا حاصلا على درجة الدكتوراه، وكاتبا صحفيا محبا للفن التشكيلي، ثم مؤلّفاً روائياً، وقاصاً، وكاتب سير.
حياته..
ولد “عبد الرحمن منيف” في عمان عام 1933، وعاش فترة من طفولته في شرق الأردن ثم في السعودية. أتم مراحل دراسته الأولى في الأردن وحصل منها على الشهادة الثانوية سنة 52، ثم انتقل إلى العراق والتحق بكلية الحقوق في بغداد حتى عام 55 إذ جرى إبعاده بقرار سياسي مع مجموعة من الطلاب العرب. لينتقل إلى مصر لإكمال دراسته هناك. وقد ارتحل منذ عام 58 إلى يوغسلافيا لإكمال دراسته العليا في جامعة بلغرود، فحصل منها عام 61 على الدكتوراه في الاقتصاد “مجال اقتصاديات النفط”.
مارس العمل السياسي الحزبي زمنا ثم أنهى علاقته السياسية التنظيمية الحزبية رسميا بعد مؤتمر حمص 62، وعمل بعدها في الشركة السورية للنفط حتى غادر إلى بيروت عام 73 حيث عمل في مجلة “البلاغ” اللبنانية وكان قد نشر أعماله الروائية، وقد تزوج خلال تلك الفترة من سيدة سورية تدعى “سعاد قوادري” وأنجب منها ثلاث أبناء وابنة واحدة. لاحقا في عام 75 عاد ليقيم في بغداد، وتولى تحرير مجلة “النفط والتنمية” العراقية حتى عام 81 حيث غادر إلى فرنسا متفرغاً للكتابة. وقد عاد إلى دمشق خلال عام 86، حيث صارت مقر إقامته الدائمة، إلى حين توفي، وبها دفن، بناء على وصيته.
ترك “عبد الرحمن منيف” ما يزيد على ثلاثون كتابا بما في ذلك أعماله الروائية ومؤلفاته الفكرية والنقدية في فنون الرواية، والفنون التشكيلية، والسيرة الذاتية، وسائر الآداب الإنسانية. وأُدرجت أعماله ضمن برامج التعليم في جامعات أوربية وأميركية، ووافقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو” على ترجمة أعماله إلى ما يقارب عشرين لغة حية في العالم.
الكتابة..
اختاره الناقد الأميركي “دانيال س. بيرت”رقم “الحادي والسبعين” ضمن قائمته “الروايات المائة الأعظم على مر العصور” كواحد من أعظم المؤلفين الروائيين في كل العصور. وحاز التقييم عن سرديته التاريخية “مدن الملح” وهي واحدة من أهم الروايات التي كتبت بالعربية إن لم تكن أهمها على الإطلاق، “تتألف من خمسة أجزاء وما يقارب الألفين وخمسمائة صفحة”، وتتناول قصة اكتشاف البترول والتحولات المتسارعة التي طرأت على الحياة في السعودية منذ مطلع القرن العشرين. هذه البانوراما التاريخية الهائلة التي تضمنتها الرواية صنفته سريعا كمعارض للأسرة السعودية وجرى منع تداولها في المملكة، إلا أنه سمح بنشرها لاحقا بمعرض الرياض للكتاب، وقد أُدرجتها جريدة أخبار الأدب المصرية ضمن قائمة أفضل مئة رواية عربية.
حاز “عبد الرحمن منيف” جائزة العويس الثقافية في دورتها الثانية عام 89، وحصل على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي في دورته الأولى عام 98.
مدن الملح..
في حوار معه أجراه “حسين الموزاني” يقول “عبد الرحمن منيف” عن نشأته الأولى: “تسنّى لي أن أعيش في أماكن متعددة. فأنا ولدت في عمّان، الأردن، لأبّ سعودي وأمّ عراقية، وعشت فترة من طفولتي في الأردن ثمّ في السعودية. وبدأت دراستي في بغداد وبعدها انتقلت إلى القاهرة ومن ثمّ انتقلت إلى يوغسلافيا. ومن ناحية العمل فقد بدأت في سوريا وانتقلت بعد ذلك إلى لبنان ومنه إلى العراق.. صحيح أنّي من السعودية، لكني موجود في المنطقة بحكم اعتبارات كثيرة، بعضها سياسيّ، ولي فيها صداقات وتربطني بها علاقات، ويمكن أن نعتبر ذلك كلّه بمثابة امتدادات تاريخية”.
وعن تخصصه في النفط ورواية “مدن الملح” يوضح “عبد الرحمن منيف”: “النفط رغم خشونته، ولونه الأسود وما يحيط به من ملابسات، يمكن أن تشتغل عليه باعتباره مادة، لكنه غيرّ مشجّع لكي تتعامل معه روائيّاً. لكنّي أعتبر اكتشاف الثروة النفطية أمرا مهما في بلادنا، وكان له دور كبير، لأنه غيّر شكل المنطقة وطبيعة العلاقات، كما أنه شكلّ نمطا، أو أنماطا معينة، وحكمها بأساليب وصيغ ما كان لها أن تكون لولا وجود هذه الثروة. ومن الطبيعي أن مادة في هذه الأهمية يكون لها تأثيراتها وانعكاساتها على مستويات عديدة، ولزمن طويل، لابدّ من التعامل معها روائيّاً. وأنا بحكم معرفتي بالموضوع ومعايشتي له فترة طويلة نسبيّا في أكثر من مكان، أتيح لي أن أعرف وقائعه وتفاصيله، الأمر الذي ساعدني على التعامل معه روائيّا.. وبالنسبة للغة الكاتب وأدواته التعبيرية، فأنا أتصوّر أن الكثيرين منّا يملكون هذه المواصفات، فيما يتعلّق بالشفافية والشعرية الموجودة في لحظات معيّنة. وكلّ من يريد أن يقدم عملاً ما يحرص على أن يكون عمله جيّداً، ويحاول أن يقدمه في أحسن صيغة ممكنة. وأرجو أن تكون “مدن الملح” من ناحية الموضوع والمعالجة قد أدّت غرضها على مستوى البناء الفنّي. وأنا أعتقد أنّ الرواية الجديدة والتقدمية هي الرواية المخدومة فنيّاً بشكل جيّد، ولا يشفع لها حسن نيتها، ولا تشفع لها حقيقة أنها تعالج موضوعا معينا، إنما يجب أن تكون جيّدة من ناحية البناء الفنيّ”.
الرواية بديل الحزب..
وفي حوار آخر معه أجراه “اسكندر حبش” يقول “عبد الرحمن منيف” عن كتابة الرواية: “جئت إلى الكتابة عن طريق الصدفة أو عن طريق الضرورة. كان رهاني الأكبر في الحقل السياسي، وبعدما امتحنت هذه الإمكانية، تبين لي أن الصيغ السياسية الموجودة غير كافية وغير مرضية وبالتالي كان هناك بداية البحث عن صيغة للتواصل مع الآخرين وللتعبير عن الهموم، هموم المرحلة والجيل. وباعتبار أنني كنت هاوي قراءة وبخاصة في مجال الرواية، افترضت أنه من خلال هذه الوسيلة، وبما أنني كنت أستطيع التعبير، وبالتالي من الممكن أن أعوض أداة بأداة أخرى. فبدلا من الحزب السياسي أو العمل السياسي المباشر، من الممكن أن تكون الرواية وسيلة تعبير. وهكذا جئت، ربما بالمصادفة إلى الرواية.. نحن كجيل، من الممكن أن نطلق عليه اسم جيل انتقالي، كنا محملين بكم كبير من الأحلام ومن الرغبة في التغيير، وكانت هناك مجموعة من الأحزاب السياسية، قدمت نفسها كصيغة من أجل هذا التغيير. لكن في الحقيقة، كانت أحلامنا أكبر من إمكانياتنا. والأحزاب السياسية التي كانت قائمة ولا زالت بقاياها موجودة، كانت أضعف وأقل قدرة من عملية التغيير. كانت بدائية في أفكارها وأساليبها، كانت غير متصلة مع حركة المجتمع الداخلية، وبالتالي، كان المطروح عبارة عن شعارات أكثر منه برامج سياسية. وعندما واجهت الامتحان الحقيقي، بان قصورها وعجزها، وهذا يفسر التآكل والتراجع في هذه الأحزاب وكذلك الإنسان. كان عنده نوع من الحلم لأن يكون جزءا من حركة التاريخ، فيكتشف أن هذه الأحزاب ليست البيئة المؤاتية لهذه المهمة”.
وعن الخيبات في المنطقة يقول: “قلت، لا تزال “السبع العجاف” مستمرة لغاية نهاية القرن أو ما بعده، ومن الممكن أن تتخللها هزات كبيرة، وبخاصة في المجتمعات الراكدة، كالعربية السعودية وما يشابهها من دول. كما أن الحروب الأهلية تكون إحدى سمات المرحلة القادمة. سوف يزداد الفقر أكثر وقد تقوم ثورات الجياع كما حصل في نهاية السبعينيات ونهاية الثمانينيات. وسوف يستمر الصراع السياسي وإن كان بتقديري أن الموجة الأصولية وصلت إلى ذروتها في الفترة الأخيرة ولا بد من أن تتراجع. لكن الإشكال الكبير أنه لغاية اليوم، ليس هناك بدائل، ليس هناك قوى أو صيغ تستطيع أن تستوعب الحالة الجديدة وتعقلنها وتعطيها أفقا ايجابيا وهذا معناه استمرار الحيرة والبحث عن أشكال العلاقات في المجتمع لتمهد لقيام المجتمع المدني وبداية الدخول في مرحلة التعدد والديموقراطية.. أزمتنا مثلثة الأضلاع: النفط والإسلام السياسي والدكتاتورية. وهذا الثالوث هو الذي أدى إلى حالة الانهيار والتخبط وبالتالي العذابات التي تعيشها المجتمعات العربية في بحثها عن الطريق للوصول إلى العصر. فالنفط التقى مع الإسلام السياسي وكان الحاضنة التي أعطته الكثير من عناصر القوة ولعل أبرز مثال على ذلك ما شهدناه في أفغانستان. في الوقت نفسه سهل للأنظمة الدكتاتورية أن تستمر وتمارس أقسى أنواع الاضطهاد. فقد تزامن تزايد النفط والثروة والأفكار مع تفاقم الرجعية والدكتاتورية التي عمت المنطقة وخصوصا لأن القوى السياسية الأخرى لم تثبت جدارتها في مواجهة التحديات الراهنة”.
حرية الذات..
وفي مقالة بعنوان (الرواية السياسية عند عبد الرحمن منيف) يقول “شوقي بدر يوسف”: “خلّف الروائي العربي الكبير عبد الرحمن منيف عالما سرديا معقدا وضع فيه خلاصة رؤيته للحياة، وجسد فيه ملحمة الوجود الإنساني في شتى صورها الرؤيوية والفكرية التي عركها وخبرها طوال سنين حياته الثرية الخصبة.. والمتتبع لأعمال عبد الرحمن منيف الروائية يجد أن هذا الكاتب الظاهرة قد أضاء في الرواية السياسية العربية فضاء فسيحا تناول فيه مناطق جديدة لم تعهدها الرواية من قبل، وصنع لنفسه خصوصية روائية اهتمت بالدرجة الأولى بحرية الذات وما يجب أن تكون عليه هذه الحرية، والصحراء العربية والتحول الذي حدث فيها، والثروة والنفط وانعكاس ظهوره في المكان الصحراوي القاحل، كما احتفى أيضا بالزمن العربي البعيد وتنبأ فيه بأحداث وتحولات كثيرة تناثرت في كثير من دروب إبداعاته الروائية.. تقدم عبد الرحمن منيف إلى المشهد السردي مع مطلع السبعينات، إبان فورة هذا المشهد، واضعا نصب عينيه آنئذ المكان العربي، والزمان الإنساني، وحداثية الشكل، وكلاسيكية الرهان الروائي الذي كانت ولا زالت عليه الصورة إبان ظهوره، كما وضع أيضا نصب عينيه سلطة الذات مع الواقع، وسلطة الواقع على الذات، وصيغة مشروع روائي طموح انتقل به عبر خلفية سياسية اقتصادية كان مهموما بها قبل الانتقال إلى نسق السرد الروائي، وصيغته الذي أبدع فيها باقتدار”.
ويضيف: “فكانت الإرهاصة الأولى لأول أعماله السردية في رواية “الأشجار واغتيال مرزوق” 1973 ثم توالت تجلياته السردية بعد ذلك مع “قصة حب مجوسية” 1974 و”شرق المتوسط” 1975 و”حين تركنا الجسر” 1976 و”النهايات” 1977 و”سباق المسافات الطويلة” 1979 و”عالم بلا خرائط” 1982 بالاشتراك مع جبرا إبراهيم جبرا، ثم ملحمته الخماسية مدن الملح بأجزائها “التيه 1984 – الأخدود 1985 – تقاسيم الليل والنهار 1989 – المنبت 1989 – وأخيرا بادية الظلمات 1989”. ثم تناول مجتمع السجون مرة أخرى في “الآن.. هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى” 1991 وانتقل أخيرا إلى التاريخ خاصة تاريخ العراق، وكأن العراق كان معه على موعد في آخر أعماله الروائية في ثلاثيته “أرض السواد” 1999. والمتتبع ببليوجرافيا أعمال عبد الرحمن منيف يجد نفسه أمام كاتب كبير آل على نفسه إلا أن يكون محور رواية عربية خالصة تأخذ من الأرض العربية مناخها وتضاريسها الخاصة، وتصب في الأرض العربية مضمونها السياسي والاجتماعي والإنساني، كاتب أطلق صرخة احتجاج ضد مصادرة حرية الإنسان في الوطن العربي. وكانت مواقفه المعلنة دائما وسيرة حياته المليئة بالهم الإنساني، والمنفى الجبري الذي وجد نفسه فيه، هي الرواية التي لم يكتبها عبد الرحمن منيف، وإن كان قد عاشها على الأرض العربية حتى الثمالة، ودفع ثمنها غاليا من حريته الشخصية، وكان يدرك تماما أن عالمنا العربي يغص بأنواع لا حصر لها من المنافي التي يعاني منها المثقفون وسواهم، لذا كان اقتحامه عالم الرواية والسرد ليس من سبيل الوجاهة الثقافية، إنما هو من سبيل تعديل المسار الإيديولوجي والفني لطرح رؤاه السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيضا في قالب إبداعي يعيش الدهر ويعايش الهم الإنساني بكل مسالكه ووقائعه وتوجهاته”.
وفاته..
توفى “عبد الرحمن منيف” عن عمر ناهز 70 عاما، وعلى إثر أزمة قلبية، في مدينة دمشق في يناير لعام 2004.