11 أبريل، 2024 7:03 ص
Search
Close this search box.

عباس محمود العقاد.. الكاتب الموسوعي الذي تعلم بنفسه

Facebook
Twitter
LinkedIn

 

خاص: إعداد – سماح عادل

“عباس محمود العقاد” أديب ومفكر وصحفي وشاعر مصري، ولد في أسوان عام 1889، وهو عضو سابق في مجلس النواب المصري، وعضو في مجمع اللغة العربية، لم يتوقف إنتاجه الأدبي بالرغم من الظروف القاسية التي مر بها، حيث كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول، كما كان يترجم لها بعض الموضوعات، ويعد العقاد أحد أهم كتاب القرن العشرين في مصر، وقد ساهم بشكل كبير في الحياة الأدبية والسياسية، وأضاف للمكتبة العربية أكثر من مائة كتاب في مختلف المجالات.

اشتهر بمعاركهِ الأدبية والفكرية مع “أحمد شوقي”، و”طه حسين”، و”زكي مبارك”، و”مصطفى صادق الرافعي”، والعراقي “مصطفى جواد”، و”عائشة عبد الرحمن”، كما اختلف مع زميل مدرسته الشعرية “عبد الرحمن شكري”، وأصدر كتابا من تأليفهِ مع “المازني” بعنوان “الديوان” هاجم فيهِ “أحمد شوقي”، وأرسى فيه قواعد مدرسته الخاصة بالشعر،

حياته..

ولد “العقاد” في أسوان في 28 يونيو 1889، لأم من أصول كردية. اقتصرت دراسته على المرحلة الابتدائية فقط، لعدم توافر المدارس الحديثة في محافظة أسوان، حيث ولد ونشأ هناك، كما أن موارد أسرته المحدودة لم تتمكن من إرساله إلى القاهرة كما يفعل الأعيان. واعتمد “العقاد” فقط على ذكائه الحاد وصبره على التعلم والمعرفة حتى أصبح صاحب ثقافة موسوعية لا تضاهى أبدًا، ليس بالعلوم العربية فقط وإنما العلوم الغربية أيضًا، حيث أتقن اللغة الإنجليزية من مخالطته للأجانب من السائحين المتوافدين لمحافظتي الأقصر وأسوان، مما مكنه من القراءة والإطلاع على الثقافات البعيدة.

جاء إلى القاهرة وعمل بالصحافة وتتلمذ على يد “محمد حسين محمد”، خريج كلية أصول الدين من جامعة القاهرة. أسس بالتعاون مع “إبراهيم المازني” و”عبد الرحمن شكري” “مدرسة الديوان”، وكانت هذه المدرسة من أنصار التجديد في الشعر والخروج به عن القالب التقليدي العتيق. وعمل “العقاد” بمصنع للحرير في مدينة دمياط، وعمل بالسكك الحديدية، لكنه في الوقت نفسه كان مولعا بالقراءة في مختلف المجالات، وقد أنفق معظم نقوده على شراء الكتب، والتحق بعمل كتابي بمحافظة قنا، ثم نقل إلى محافظة الشرقية.

بعد أن مل العقاد العمل الروتيني الحكومي. وبعد أن ترك عمله بمصلحة البرق، اتجه إلى العمل بالصحافة مستعينا بثقافته وسعة إطلاعه، فاشترك مع “محمد فريد وجدي” في إصدار صحيفة الدستور. وكان إصدار هذه الصحيفة فرصة لكي يتعرف العقاد ب”سعد زغلول” ويؤمن بمبادئه. وتوقفت الصحيفة عن الصدور بعد فترة. وهو ما جعل “العقاد” يبحث عن عمل يقتات منه. فاضطر إلى إعطاء بعض الدروس ليحصل قوت يومه.

بعد أن عمل بالصحافة، صار من كبار المدافعين عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، فدخل في معارك حامية مع القصر الملكي، مما أدى إلى ذيع صيته واُنْتخب عضوًا بمجلس النواب. سجُن بعد ذلك لمدة تسعة أشهر عام 1930 بتهمة العيب في الذات الملكية، فحينما أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسئولة أمام البرلمان، ارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلًا: “إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه”. وفي موقف آخر أشد وطأةً من الأول، وقف “العقاد” موقفًا معاديًا للنازية خلال الحرب العالمية الثانية، حتى إن أبواق الدعاية النازية وضعت اسمه بين المطلوبين للعقاب، وما إن اقترب جنود “إرفين روميل” من أرض مصر حتى تخوف “العقاد” من عقاب النازي “أدولف هتلر”، وهرب سريعًا إلى السودان عام 1943 ولم يعد إلا بعد انتهاء الحرب بخسارة دول المحور.

كان العقاد ذا ثقافة واسعة، إذ عرف عنه أنه موسوعي المعرفة. فكان يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وقد قرأ وأطلع على الكثير من الكتب، وبدأ حياته الكتابية بالشعر والنقد، ثم زاد على ذلك الفلسفة والدين. ولقد دافع في كتبه عن الإسلام وعن الإيمان فلسفيا وعلميا ككتاب “الله” وكتاب “حقائق الإسلام وأباطيل خصومه”، ودافع عن الحرية ضد الشيوعية والوجودية والفوضوية (مذهب سياسي)، وكتب عن المرأة كتابا عميقا فلسفيا أسماه “هذه الشجرة”، حيث يعرض فيه المرأة من حيث الغريزة والطبيعة وعرض فيه نظريته في الجمال. وللعقاد إسهامات في اللغة العربية إذ كان عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة واصدر كتبا يدافع فيها عن اللغة العربية ككتابه الفريد من نوعه اللغة الشاعرة.

المعارك الفكرية..

وفي حياة العقاد معارك أدبية جَعَلتْهُ نهمَ القراءة والكتابة، منها: معاركه مع “الرافعي” وموضوعها فكرة “إعجاز القرآن”، واللغة بين الإنسان والحيوان، ومع “طه حسين” حول فلسفة “أبي العلاء المعري ورجعته”، ومع الشاعر “جميل صدقي الزهاوي” في قضية الشاعر بين الملكة الفلسفية العلمية والملكة الشعرية، ومع “محمود أمين العالم” و”عبد العظيم أنيس” في قضية “وحدة القصيدة العضوية” ووحدتها الموضوعية ومعارك أخرى جمعها عامر العقاد في كتابه: “معارك العقاد الأدبية”.

الشعر والكتابة..

أول دواوين “العقاد” كان “يقظة الصباح” ونشر 1916 وعمر “العقاد” حينها 27 سنة. وقد كتب في حياته عشرة دواوين. وقد ذكر في مقدمته لكتابه “ديوان من دواوين” أسماء تسعة دواوين له مرتبة وهي: “يقظة صباح، ووهج الظهيرة، وأشباح الأصيل، وأشجان الليل، ووحي الأربعين، وهدية الكروان، وعابر سبيل، وأعاصير مغرب، وبعد الأعاصير”. ثم كتب آخر دواوينه وهو “ما بعد البعد”. في عام 1934 نظم العقاد نشيد العلم. وقد غني نشيده هذا وأذيع في الراديو في حينها. وكان قد لحنه الملحن “عبد الحميد توفيق زكي”.

وفي عام 2014 صدر كتاب بعنوان “المجهول والمنسي من شعر العقاد” من إعداد أحد تلاميذ العقاد وهو الباحث محمد محمود حمدان. وقد جمع في هذا الكتاب القصائد والأشعار غير المنشورة للعقاد.

منذ تعطلت جريدة الضياء في 1936، وكان “العقاد” فيها مديرا سياسيا، انصرف جهده الأكبر إلى التأليف والتحرير في المجلات. فكانت أخصب فترة إنتاجا. فقد ألف فيها 75 كتابا من أصل نحو 100 كتاب ونيف ألفها. هذا عدا نحو 15 ألف مقال أو تزيد مما يملأ مئات الكتب الأخرى. أصدرت دار الهلال ل”لعقاد” أول كتبه “خلاصة اليومية والشذور” 1912، “الإنسان الثاني” 1913، ويناقش في هذا الكتاب المكانة والاحترام الذي أحرزته المرأة في الحضارة الحديثة. و “ساعات بين الكتب” 1914، قراءة منوعة لكتب الفلسفة والتراث والشعر.

خرج أول دواوينه “يقظة الصباح” 1916 وقد احتوى الديوان على قصائد عديدة منها “فينوس على جثة أدونيس” وهي مترجمة عن شكسبير وقصيدة “الشاعر الأعمى” و”العقاب الهرم” و”خمارويه وحارسه” و”رثاء أخ” وترجمة لقصيدة “الوداع” للشاعر الاسكتلندي “روبرت برنز”. ثم ديوان “وهج الظهيرة” 1917، ديوان “أشباح الأصيل” 1921 الديوان في النقد والأدب، بالاشتراك مع إبراهيم عبد القادر المازني. وقد خصص لنقد أعلام الجيل الأدبي السابق عليهما مثل “أحمد شوقي ولطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي” 1921.

وكتاب “الحكم المطلق في القرن العشرين” 1928. كانت مصر في ذلك الوقت تحت الاحتلال البريطاني، وكان موسوليني قد ظهر في إيطاليا، فألف كتابه هذا وحمل فيه على الحكم الاستبدادي. يقول “رجاء النقاش” عن الكتاب: “وهو كتاب صغير مجهول، أهداه العقاد إلى مصطفي النحاس باشا. وكان العقاد أيامها منتميا إلي حزب الوفد. وفي هذا الكتاب يدافع العقاد عن الديمقراطية دفاعا قويا ويؤكد أن الديمقراطية هي التي تحمي البلدان والشعوب من الاضطرابات. وأن البلدان الديمقراطية هي التي تنتصر في الحروب، بينما تنهزم الدول القائمة علي الديكتاتورية”.

ثم أصدر كتابه “اليد القوية في مصر 1928، وموضوعه الأحداث السياسية الجارية في مصر وقتها. و ديوان “أشجان الليل” 1928، وكتاب “الفصول 1929. وهو مجموعة من المقالات الأدبية والاجتماعية والخواطر، كانت تنشر في صحف ومجلات ما بين عامي 1913 و1922. وكتاب فلسفي هو “مجمع الأحياء” 1929.

رسالة الأديب..

هناك مقال “عباس محمود العقاد” بعنوان “رسالة الأديب” يقول فيه: “كَتَبَ الأُستَاذُ تَوْفِيقُ الحَكِيمُ مِنْ بُرْجِهِ العَاجِيّ مَقَالًا يَقُولُ فِيهِ: ” إِنَّ الدَّوْلَةَ لا تَنْظُرُ إِلى الأَدَبِ بِعَينِ الجِدِّ، بَلْ إِنَّهُ عِنْدَهَا شَيءٌ وَهْمِيٌّ لا وَجَودَ لَهُ ولا حِسَابَ”. ثُمَّ يَقُولُ: ” إِنَّ انْعِدَامَ رُوْحِ النِّظَامِ بَينَ الأُدَبَاءِ وتَفَرُّقَ شَمْلِهِم وانْصِرَافَهُم عَنْ النَّظَرِ فِيمَا يَرْبُطُهُمْ جَمِيعَهم مِن مَصَالِحَ ومَا يعْنِيهِم جَمِيعًا من مَسَائِلَ قَدْ فوَّتَ عَلَيهِمُ النَّفْعَ المَادِيَّ والأَدَبِيَّ وجَعَلَهُم فِئَةً لا خَطَرَ لَهَا ولا وَزْنَ في نَظَرِ الدَّوْلَةِ“. وكَتَبَ مَقَالًا آخَرَ يَسْألُ عَنْ أُدَبَائِنَا المُعَاصِرِينَ هَلْ فَهِمُوا حَقِيقَةَ رِسَالَتِهِمْ؟ ويَذْكُرُ مَا يَصْنَعُهُ أُدَبَاءُ أُوروبَا ”كُلَّمَا هَبَّتْ رِيحُ الخَطَرِ عَلى إِحْدَى هَذِهِ القِيَمِ وَهِي الحُرِّيَّةُ والفِكْرُ والعَدَالَةُ والحَقُّ والجَمَالُ وَكَيفَ يَتَجَرَّدُ كُلُّ أَدِيبٍ مِنْ رِدَاءِ جِنْسِيَّتِهِ الزَّائِلِ ليَدْخُلَ مَعْبَدَ الفِكْرِ الخَالِدِ ويَتَكَلَّمُ باسِمِ الهَيئَةِ الوَاحِدَةِ المُتَحِدَةِ الَّتِي تَعِيشُ لِلدِّفَاعِ عن قِيَمِ البَشَرِيَّةِ العُلْيَا “. ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ أَنْ وَصَفَ سُوءَ حَالِ الأَدَبِ في مِصْرَ: ” أَمَامَ كُلِّ هَذَا وَقَفَ الأَدَبُ ذَلِيلًا لا حَوْلَ لَهُ ولا طَوْلَ، وضَاعَتْ هَيبَةُ الأُدَبَاءِ في الدَّوْلَةِ والمُجتَمَعِ، وأَنْكَرَ النَّاسُ ورِجَالُ الحُكْمِ عَلى الأَدِيبِ اسْتِحقَاقَهُ للتَّقْدِيرِ الرَّسمِي والاحْتِرَامِ العَامِ، فَالعُمْدَةُ البَسِيطُ تَعتَرِفُ بِه الدَّوْلَةُ وتَدْعُوهُ رَسْمِيًّا إلى الحَفَلاتِ بِاعْتِبَارِهِ عُمْدَة. أمَّا الأَدِيبُ فَمَهْمَا شَهَرَهُ أدَبُهُ فَهُوَ مَجْهُولٌ فِي نَظَرِ الرِّجالِ الرَّسمِيينَ ولَن يُخَاطِبُوهُ (قَطُّ) عَلَى أَنَّهُ أَدِيبٌ”.”.

ويواصل: “كَلامُ الأُستاذِ الحَكيمِ في هَذَينِ المَقَالينِ هُو الَّذِي ابْتَعَثَنِي إِلَى التَّعْقِيبِ عَلَيهِ فِيمَا يَلِي من خَواطِرَ شَتَّى عن رِسَالَةِ الأَدِيبِ، وشَأْنِ الأَدِيبِ والدَّوْلةِ، ومُستَقْبَلِ الأَدَبِ في الدِّيَارِ المِصْرِيَّةِ أو في الدِّيَارِ الشَّرْقَيَّةِ على الإجمالِ. فَهَلْ من الحَقِّ أَنَّ الأَدَبَ مُحْتَاجٌ إلى اعْتِرَافٍ من الدولةِ لِحُقُوقِهِ؟ أمَّا أنا فَإِنَّنِي لأَسْتَعِيذُ بِاللهِ من اليَوْمِ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فِيهِ شَأنُ الأَدَبِ على اعْتِرَافِ الدولةِ ومَقَاييسِ الدولةِ ورِجَالِ الدولةِ. لأَنَّ مقاييسَ هَؤُلاءِ الرِّجَالِ ومقاييسَ الأَدَبِ نَقِيضَانِ أو مُفْتَرِقَانِ لا يَلتَقِيَانِ على قياسٍ واحدٍ. فمقاييسُ الدولةِ هي مَقَاييسُ القِيَمِ الشائعةِ التي تَتَكرَّرُ وتَطَّرِدُ وتَجْرِي عَلَى وَتِيرَة وَاحِدَةٍ. وَمَقاييسُ الأدبِ هي مقاييسُ القِيمِ الخاصةِ التي تَخْتَلفُ وتَتَجَدَّدُ وتَسْبِقُ الأيامَ.  مقاييسُ الدولةِ هي عُنْوانُ الحَاضِرِ المُصْطَلحِ عَلَيهِ. ومَقَاييسُ الأدبِ هِي عُنْوَانُ الحُرِّيَّةِ التي لا تتقيَّدُ باصطِلاحٍ مَرْسُومٍ، وقَدْ تَنْزعُ إلى اصطلاحٍ جديدٍ يَنْزِلُ مَعَ الزَّمَنِ في مَنْزِلَةِ الاصطلاحِ القديمِ. مقاييسُ الدولةِ هي مقاييسُ العُرفِ المطروقِ، ومقاييسُ الأدبِ هي مقاييسُ الابتكارِ المخلوقِ. مقاييسُ الدولةِ هي مقاييسُ الأشياءِ التي تُنشِئهَا الدولةُ أو تُدَبِّرهَا الدَّولَةُ أو تَرْفَعُهَا الدولةُ تَارةً وتَنْزِلُ بها تارةً أخرى. ومقاييسُ الأدبِ هي مقاييسُ الأشياءِ التي لا سُلطَانَ عليها لِلدُّوَلِ مُجْتَمِعَاتٍ ولا مُتفرقاتٍ، فَلَو اتَّفَقَتْ دُولُ الأرضِ جميعًا لَمَا اسْتطَاعَتْ أن تَرْتَفِع بِالأديبِ فَوْقَ مَقَامِهِ أو تَهْبط بِهِ دُونَ مَقَامِهِ، ولا اسْتَطَاعَتْ أن تُغَيرَ القيمَةَ في سَطْرٍ واحدٍ ممَّا يُكْتَبُ، ولا في خَاطرةٍ واحدةٍ من الخَوَاطِرِ التي تُوْحِي إليه تلْكَ الكتابةُ. ومِن هُنا كَانَ ذلك العَدَاءُ الخَفِيُّ بَينَ مُعْظَمِ رِجَالِ الدَّوْلَةِ ومُعْظَمِ رِجَالِ الأَدَبِ في الزَّمنِ الحَدِيثِ على التَّخْصِيصِ. لأَنَّ رِجالَ الدولةِ يُحِبُّونَ أن يَشعُرُوا بِسُلطَانِهم على النَّاسِ ويريدون أن يَقْبِضُوا بِأَيديهِم عَلَى كُلِّ زِمَامٍ، فَإِذَا بالأدبِ ولَهُ حكمٌ غيرُ حُكْمِهِم، ومِقْيَاسٌ غَيرُ مِقْيَاسِهِم، وميدانٌ غَيرُ ميدانِهم، وإذا بالعصرِ الحديثِ يفتحُ للأدَباَءِ بابًا غيرَ أبوابِهِم، وقِبلةً غير قِبلَتهم التي تَوجّه إليها الأدباءُ فيما غَبرَ مِن العُصُورِ”.

ويؤكد: “ولو بَلَغْنَا إلى اليومِ الذي تَعْتَرِفُ فيه الدولةُ بالأدباءِ لَمَا اعْتَرَفَتْ بِأَفْضَلِهِم ولا بِأَقْدَرِهِم ولا بِأصحابِ المزيَةِ مِنهُم، ولكنَّها تعترفُ بِمَن يَخْضَعُونَ لَهَا ويُرْضُون كِبرِيَاءها ويَهبِطُونَ أو يَصْعَدُونَ بِغَضَبِهَا أو رِضَاهَا. ولَسْنَا في مصرَ بِدَعًا بينَ دُولِ المغربِ والمشرقِ، فما مِن دولةٍ في العالمِ تَعْتَرِفُ بأمثال برناردْ شُو وبِرْترانَد رَسِل ورومان رُولان كما تعترفُ بالحُثَالَةِ من أَوَاسِطِ الكتّابِ. هذا عَن الأدبِ وشَأْنِهِ المُعْتَرفِ به بينَ رِجَالِ الدُّول، فَمَاذا عن التفرُّقِ والتجمُّعِ، أو عن أَثَرِ هَذا أو ذاكَ في تقويمِ أقدارِ الأدباءِ؟ أصحيحٌ أنَّ الأدباءَ في حاجةٍ إلى الاجتماعِ؟ أنفَعُ من هذا وأقربُ إلى تبيينِ الصوابِ أن تسألَ: هل صحيحٌ أنَّ شاعرينِ يشتركانِ في نَظْمِ قَصِيدةٍ واحدةٍ؟ وهل صحيحٌ أنَّ الأدبَ في لُبابِهِ عملٌ من أعمالِ التعاونِ والاشتراكِ؟ الحقيقةُ أنَّ الأدباءَ حين يَخْلُقُونَ أَعْمَالَهُم فَردِيُون مُنْعَزِلُونَ، فلا حاجةَ بِهِم إلى مَحْفل يُسَهِّلُ لَهُم الخَلْقُ والإبداعُ، ولا فائدةَ لَهُم على الإَطلاقِ من اتِّفاقٍ أو اجتماعٍ. والحقيقةُ أنَّ التعاونَ إنَّما يكُونُ في مسائِلِ الحِصَصِ والسُّهومِ و الأجزاءِ، ولا يَكُونُ في مَسَائلِ الخَلْقِ و التكوينِ والإحياءِ. لأنَّ الفِكرة الفنيةَ كَائنٌ حَيٌ ووِحْدَةٌ قائِمَةٌ ليس يشترِكُ فِيهَا ذِهنَان، كما ليس يشتركُ في الوَلَدِ الوَاحدِ أَبَوان. فإذا كان تعاونٌ بينَ الأدباءِ، فإنَّما يكونُ على مِثَالِ التعاونِ بينَ الآباءِ. إنمَّا يكونُ تعاونًا على رعايةِ أبْنَائِهِم و حِماية ذُرِّيَاتِهِم، وقَلَّمَا يحتاجُ الآباءُ إلى مثْلِ هذا التعاونِ إلا في نوادِرِ الأَوْقاتِ. كُلُّ أديبٍ نمطٌ وحدهُ، وكُلُّ أديبٍ في غنى عن سائرِ الأدباءِ، إلا أن يتعاوَنوا كما أسْلَفْنَا في الحَوَاشي والظروفِ دونَ الجوهرِ واللُّبابِ”.

وعن الرسالة يقول: “أَللأديبِ رسالةٌ؟نعم، ليسَ بالأديبِ من لَيسَت لَهُ في عالمِ الفِكْرِ رسالةٌ، ومن ليس له وَحيٌ وهِدايةٌ. ولكن هل للأدب كُلِّهِ رسالةٌ تتَّفِقُ في غَايَتِهَا مع اختلافِ رسائلِ الأدباء وتعدُّدِ القرائحِ و الآراءِ؟ نَعَم لَهُم جميعًا رسالةٌ واحدةٌ هي رسالةُ الحُرِّيَّةِ والجَمَالِ. عَدُوُّ الأدبِ مِنْهُم مَنْ يَخْدِمُ الاستبدَادَ، ومن يُقَيِّدُ الفِكرَ، ومن يُشَوِّهُ محاسنَ الأشياءِ. وخائنٌ للأمانةِ الأدبيةِ من يَدعُو إلى عقيدةٍ غيرِ عقيدةِ الحُرِّيَّةِ. أَفَيَدرِي الأستاذُ توفيقُ ما هوَ -في رَأيي- خَطْبُ الثقافةِ الإنسانيةِ الذي يَخْشَاهُ دومًا مِنهُ كتَّابُ أوروبا كافةً على مصيِر الذَّوقِ و التَّفكيرِ والفَنِّ و الشُعُورِ المُستقيمِ؟ أَفيدرِي الأستاذُ توفيقُ ما هوَ- في رأيي- سِرُّ الفتنةِ الحِسِّيَّةِ التي غَلَبَتْ على الطبائعِ والأذواقِ وتمثَّلّتْ في ملاهي المُجُونِ أو ملاهي الأدبِ الرخيصِ؟ سِرُّها الأكبرُ هو وَباءُ “الدكتاتوريةِ” الذي فَشَا بينَ كثيرٍ من الأممِ في العصرِ الأخيرِ. لأنَّ الدكتاتوريةَ كائنةٌ ما كانت تَرْجِعُ إلى تَغَلُّبِ القوةِ العضليَّةِ على القُوَّةِ الذهنيةِ والقوةِ النَّفسِيَّةِ. ولأَنَّها تَرْجِعُ بالإنسانِ إلى حالةِ الآلةِ التي تُطيعُ وتَعْمَلُ بِغَيرِ مشيئَةٍ وبغيرِ تَفْكيرٍ. وأينَ تذهبُ المعانِي والثقافاتُ بَين القُوى العَضَليَّة والآلاَتِ؟ وأينَ الأديبُ الذي يَسْتَحِقُّ أَمَانَةَ الأدبِ وهو يُبَشِّرُ بدِينِ الاسْتِبْدَادِ! لِهَذا بَقِيَتْ عُقُولٌ تكتُبُ وقَرائِحُ تُبدِعُ في الشعوبِ الديمُوقرَاطِيَّةِ، ولم يَبْقَ عَقلٌ ولا قَريحَةٌ في بلدٍ من بلادِ الدكتاتوريةِ. فإذا تعطَّلتْ الكِتابةُ والإِبدَاعُ بعضَ التَّعطيلِ في أمةٍ ديمقراطيةٍ فإنَّمَا تَتَعَطَّلُ مِن حَالةٍ فِيها تُشبهُ أَحوَالَ الاسْتِبدادِ، وهِي انتِشَارُ الكَثرَةِ العَدديَّةِ بينَ جَمْهَرةِ الشُّعَراءِ، والرُّجُوعُ بالذَّوقِ إلى العددِ الكَثيرِ دُونَ المَزِيَّةِ النَّادِرَةِ. أي الرُّجُوعُ بِهِ إلى “الثَّورَةِ العَضَلِيَّةِ” لا إلى الحُرِّيَّةِ أو المَزِيَّةِ الفَرْديَّةِ. لِكُلِّ أديبٍ رسالةٌ. وِرِسَالَةُ الأُدَباءِ كافةً هي التَّبْشَيرُ بِدِينِ الحُرِّيَّةِ والإِنحَاءِ على صَوْلَةِ المُسْتَبِدِّين، فَمَا مِن عَدَاوَةٍ للأدبِ ولا مِن خِيانةٍ لأَماَنَةِ الأديبِ أشدُّ مِنْ عَدَاوَةِ “القُوَّةِ العَضَلية” وأَخوَنُ مِن خيَانَةِ الاستبدادِ”.

سارة..

في مقالة بعنوان: (“سارة” عبّاس محمود العقاد: رواية الفتنة والغموض والأسرار) يقول الكاتب: “من بين مؤلفاته التي تقارب المائة، تبقى رواية “سارة” للأديب المصري عبّاس محمود العقاد، الأكثر جدلاً، لا بسبب بنيتها الفنية، وإنما بسبب شخصيتها النسائية التي أثارت أسئلة وبحوثاً وسجالات وكتباً عمن تكون هذه المرأة التي شغف بها العقاد. الرواية صدرت عن دار المعارف بمصر عام 1938، ثم أعيد طبعها في طبعات كثيرة. وفي الطبعة الثانية الصادرة عام 1943، قال العقاد: “كتبت هذه القصة ـ فيما زعم بعضهم ـ لغير شيء، إلا أنّني أردت أن أجرب قلمي في القصة. لهذا السبب وحده كتبت سارة. وهو سبب قد يصح أو يكون له نصيب من الصحة لو أنّني اعتقدت أنّ القصة ضريبة على كل كاتب، أو اعتقدت أنّ القصة أشرف أبواب الكتابة في الفنون الأدبية، أو اعتقدت أنني مطالب بالكتابة في كل موضوع تجول فيه أقلام المؤلفين”. لكنّ العقاد اعترف، قبل وفاته بسنوات، بأنّ “سارة” تعبر عن شخصية حقيقية، وتجربة خاصة في حياته. ومع ذلك لامه القراء على الاسم، مشيرين إلى أنّ “سارة” يعود لفتاة إسرائيلية أو يهودية أو أجنبية، وهو ما نفاه العقاد قطعياً. قسّم العقاد روايته “سارة” إلى 16 فصلاً تدل عناوينها على هوية كل فصل “أهو أنت، موعد، الشكوك، الرقابة، وكيف الرقابة، مضحكات الرقابة، القطيعة، من هي، وجوه، كيف عرفها، أيام، لماذا هام بها، حبان، لماذا شك فيها، جلاء الحقيقة”. “سارة” بطلة الرواية امرأة شابة يتعرف إليها بطل الرواية “همام” في نزل مفروش تديره امرأة فرنسية تدعى ماريانا، فأعجب همام بسارة وبطريقة حديثها ولباسها وسرعان ما تطورت العلاقة بينهما لتتحول إلى مواعيد وخلوات بعثت السرور في قلب “همام”، وهو رجل شاب ميسور الحال غير متزوج يعيش في حي حديث، ويتردد على أماكن الترفيه، ولديه شلة من الأصدقاء الذين يتسامر معهم على طريقة حياة الثلاثينيات في مصر التي قدمتها السينما العربية، فكان يحدثهم عن حبه الجديد، وكانوا بدورهم يزرعون في نفسه الشك، لأنها امرأة لعوب، وهو ليس أكثر من عابر سبيل في حياتها سرعان ما ستهجره. لكنّ همام لم يكن يرى فيها ذلك الجانب الذي حذره منه الأصدقاء؛ فهي فتاة متعلمة في الغرب، وتنتمي إلى الحياة العصرية ولديها روح مرحة محبة للحياة. كانت تدور بين العاشقين حوارات فلسفية عميقة تكشف عن جانب ثقافي لدى كل منهما، وكانت أغلب مواعيدهما تتم في السينما، حيث يشاهدان فيلماً ثم يخرجان للتنزه على الطرقات الخلفية، أو يجلسان في مكان قصي يراقبان غروب الشمس مثل أي عاشقين ذائبين في بحر الحب”.

 

وفاته..

توفي “العقاد” في القاهرة عام 1964.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب