خاص: إعداد- سماح عادل
“عايدة مطرجي إدريس” كاتبة قصص قصيرة ومترجمة لبنانية ومديرة مجلة دار الآداب. تزوجت بالكاتب اللبناني “سهيل إدريس” مؤسس دار الآداب بالشراكة، في 1956، وأنجبت: رائدة ورنا وسماح.
الكتابة..
اشتهرت في مجال الترجمة، حيث نقلت إلى العربية عددا من أعمال الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” والكاتبة “سيمون دي بوفوار” والكاتب الفرنسي “ألبير كامو”. كذلك كتبت عددا من القصص القصيرة التي نشرت في مجلة الآداب، وبعدها أصدرت مجموعتها القصصية «الذين لا يبكون» في عام 1966.
أصدرت في 1964 رواية “قوة الأشياء” ل”سيمون دي بوفوار”، وهي أولى ترجماتها وبعد عامين ترجمت عمل “جان بول سارتر” “عاصفة على السكر”، ومن ثم رواية “الصور الجميلة” لسيمون دي بوفوار 1966، و”الغريب وقصص أخرى” لألبير كامو العام 2008، و«البحار الذي لفظه البحر» للروائي الياباني “يوكو ميشيما” 2010، و”الموت السعيد” لكامو في 2014.
ساهمت مع زوجها في أعمال دار الآداب ومجلتها، ونشرت فيها مجموعة من القصص والترجمات والمقالات، وكان لها دورها الملموس في قاموس المنهل الذي ألفه “سهيل إدريس”.
الأم..
في مقال بعنوان (عايدة مطرجي إدريس: حين تُنجب الأمُّ ثقافةً) كتب ابنها “سماح إدريس” في مجلة الآداب: “كثيرون يقولون إن عايدة ضحت بموهبتِها كي تكون جهاز دعم وإسناد لمؤسسة الآداب، من كبيرها (سهيل) إلى أصغرها (سماح). لكن عايدة لا تفكر كذلك؛ فهي تعتبر أن الأساسَ هو المشروع: المجلّة، الدار، القاموس، المؤسسة، الثقافة العربية. بعض النسويات قد يعتقدن أنها تنازلت عن طموحاتِها ومواهبها وذكائها الخارق كي تساعد عائلتها. ولكن عايدة لا تعد ذلك صحيحا لأنها ترى ذاتها وطموحاتها في كل كتاب يصدر عن دار الآداب (بإشرافها المباشر”.
تضحية..
ويكمل: “عيد الأم مناسبة كي أكتب عن عايدة مطرجي إدريس. لكن عايدة مطرجي، قبل أن تتزوج سهيل إدريس وتصبح أمي، كانت طالبة جامعيةً واعدة في مادّة الفلسفة، وشابة متوقدة الذكاء كما تقول أخواتها وإخوتها. ثم تزوجت من سهيل إدريس، فأصبحت الدعامة الأولى والمدماكَ الأساس لمؤسسة الآداب ــــ دارا، ومجلة، وترجمة، وتحريرا، ومراجعة، وإعدادَ قواميس.
والحقّ أنّ الفصلَ بين “مكوِّنات” عايدة مستحيل، وغير مرغوب أصلا. ولكنه فصل إجرائي فقط لكيلا يطغى الجانب العائلي على الجوانب الحيوية الأُخرى من هذه الإنسانة المناضلة، بكل ما في كلمة “نضال” من معان، وعلى رأسها التضحية والمثابرة والجهاد والوفاء والتفاني، المستندة جميعها إلى معين ثري من الثقافة الملتزمة بخير الناس”.
ويحكي عن يومها: “يبدأ يوم عايدة، قبل أن يبدأ يوم غالبية الناس: بالثقافة. ويختتم يومها بالثقافة أيضا. كذا كان دأبها منذ العام 1956، حين التقت سهيل إدريس وتزوجته، بتشجيعٍ وتوصية ــــ ويا لَلْمفارقة اللاذعة ــــ ممّن سيصبح ألدّ أعداء سهيل والآداب والقومية العربية، عنيت الشاعر سعيد عقل، ابن زحلة حيث كانت عايدة تعيش في كنف أمها وأبيها (مفتي البقاع)”.
تصحيح..
ويواصل عنها: “في فترات سابقة، أي قبل أن يرحل حبيبها سهيل، كانت تصحح معه مواد مجلة الآداب الواردة من قسم التنضيد قبل الطباعة (كانت المواد ترسل بخط اليد عادةً): تستلقي على السرير، و”تتابع” معه ــــ وهو جالس على كرسي صغير أمام طاولة متواضعة ــــ ما قد يكون وقع من أخطاء أثناء التنضيد. ولطالما استيقظت، وأنا طفل، على صوت سهيل وهو يتدحرج بكلمات لا أفهمها، أو على صوت عايدة وهي تصوب ما سقط من قراءته، أو تناشده أن يتمهل قليلا لأنها لا تستطيعُ اللحاقَ به.
ومنذ ذلك اليوم ارتسمت في رأسي الصغير صورة “الأم والزوجة والمثقّفة،” أو صورة “المثقفة والأم والزوجة،” أو ما شئتم من ترتيب الأولويّات.
في فترات لاحقة، صارت عايدة تستيقظ باكرا جدا لتصحح مواد القاموس العربي ــــ الفرنسي، الذي بدأه سهيل ورحل قبل أن يكمله، فتركه أمانة بين يديْ حبيبته وأولاده.
بعد أن تهيئ عايدة نفسَها للذهاب إلى مكاتب دار الآداب، لا تنسى أنّها ــــ بالتوازي مع كونها فاعلةً ثقافيّة عربية نادرة ــــ أم لـ”أطفال” ثلاثة، مع أنها اليوم تجاوزت الثمانين وتجاوزوا الخمسين. تذهب إلى المطبخ، وتفتح البراد والخزائن، فتسحب منها ما لذ وطاب مما سيأكلُه أولادها، وخصوصا أنا، في المكتب، عما قليل: لبنة، جبنة، بندورة، زيتون، خيار، بيض، زعتر،… تضع مفاتيحَ دار الآداب في جزدانها الكبير، وتتوجّه مع السائق.
تفتح بوّابةَ دارَ الآداب. وخلال دقائق، تبدأ عايدة مطرجي إدريس في تشغيل أحد أهم معامل الثقافة العربية المناضلة منذ أوائل خمسينيات القرن المنصرم.
توزع عايدة المهام على الجميع: المنضدة، والسائق، وعاملة المنزل، وتسأل عما سنفعله اليوم، أنا ورائدة ورنا. ثم تجلس وتبدأ التدقيقَ، والتصحيح، والقراءة، وإبداء الرأي في المخطوطات، والترجمة. وقبل شهور أضافت إلى مهامها مهمّتين: تعبئةَ شبكة الكلمات المتقاطعة تنشيطا لذاكرتها؛ ومتابعة الفيسبوك، وخصوصا ما أكتبُه.
ولمتابعي صفحتي على الفيسبوك لن يفوتَهم أن يلاحظوا أنّ عايدة ما تزال تَجْهل آليّةَ “التعليق،” فيأتي تعليقها أرقاما غير مفهومة (9، أو 8، وأحيانًا 876) أو طلاسمَ عجيبةً (xgy)؛ لكنّها أرقام وطلاسمُ تكفي لكي أفهمَ منها ما يأتي: “أنا وراءك يا بني أينما ذهبت”.
أم حنون..
وعن حنانها كأم: “وأتخيّلها، وهي عاكفةٌ على الكلمات المتقاطعة، تنتفض فجأة لتسأل نفسها: “هل أكل الأولادُ هذا الصباح؟”
وفورا تأتينا إلى غرف كل واحد منا في الدار، على الرغم من مشيتها التي تزداد بطئا مع الزمن، حاملة معها ما جلبتْه من مطبخ بيتها. فتتحول مكاتبنا إلى كشكول من الطعام واللغة والأدب: لبنةٌ بقاعيّةٌ قرب لسان العرب، وبندورة جبليةٌ إلى جانب محيط المحيط، وزيتون أسود وأخضر مُحاذٍ لشافاك وواسيني وفيرّانتي. وبين الفينة والفينة تمر على طاولاتنا، واحدة واحدة، فتُلقي عليها ما تيسّر من فستق وراحةِ حلقوم وشوكولاطة… هذا إذا لم تتوفّر لديها البضاعةُ ذاتُ العيار الأثقل: من كاجو، وبندق، ورمان، وفريز.
بعد أن تَضْمنَ عايدة غذاءَ “أطفالها،” تعودُ إلى الثقافة من جديد. وعايدة، أحيانا تعثر على الأخطاء الطباعية واللغوية التي لا يعثر عليها أكبر مصحح في الكون، وذلك لأنها تهجس بالدقة حد الوسوسة. ولكنها، لفرط ما قرأت وسمعت من أخطاء في الإعلام والجرائد، باتت تشكك في صحّةِ كل شيء. ولذا تعود إلي كل عشر دقائق: “سماح، بتقول حتى إنّ، أو حتى أنّ؟”… “ليك سمّوحة، الهمزة وين بتحطّها بهالكلمة؟”… “ليك بدي اسألك شغلة: بيقولوا خمس عشرة مقالةً أو خمسة عشر مقالًا؟”
ولا تنسى أن تلومَني بين سؤالٍ لغويّ وآخر: “ليش ما أكلت هالفستقاية؟”… “ولك كفيها لعروس ها اللبنة. رح تضلّك لآخر الليل بلا آكل.””.
ويختم مقاله: “على أنّني لا أكتبُ هذه الكلمات يا أمّي كي أعتذرَ إليكِ في الحقيقة، ولا لكي أشكرَكِ، بل لكي أُخبرَ العالمَ شيئًا قد لا يعرفونه؛ شيئًا قد نسيتِه أنتِ نفسكِ في خضمّ الكفاحِ الثقافيّ والنشريّ اليوميّ: أنّ لكِ فضلًا على مئات الكتب العربيّة والمترجَمة في دار الآداب، وفضلًا على آلافِ المقالات والقصائدِ والقصصِ والمسرحيّاتِ والحواراتِ المنشورةِ في مجلة الآداب، وفضلًا على أحد أهمّ مراجعِنا اللغويّة المعاصرة (قاموس المنهل). أنت لستِ أمي يا أمي، فحسب، بل أنت أيضا إحدى أبرز أمهات الثقافةِ العربية الحديثة”.
مع سهيل إدريس..
تحكي “عايدة مطرجي” أبرز ذكرياتها مع “سهيل ادريس” في لقاء كرمهما معا بعد وفاته حيث كان لقائهما الأول منذ أكثر من نصف قرن، في مقر مجلته، حيث قدمت له مقالا لنشره، فقرأه ولاحظ وقوعها في العديد من الأخطاء النحوية وشدد على ضرورة إتقانها النحو، وقال إنه أساس بناء اللغة، وأهدى لها نسخة من روايته ”الحي اللاتيني”، ثم حدثها بصراحة عن المجلة وعن المضايقات التي يواجهها وكأنه يعرفها منذ زمن بعيد·
وزارته بعد ذلك لماما؛ لأنها كانت مشغولة بدراستها الجامعية، ثم التقته مصادفة وتوطدت علاقتهما وكللت بالزواج· وروت تفاصيل عملهما اليومي في مجلة ودار الآداب وكان سهيل يقول: ”يجب على الأديب ألا يبيع كلمته، سأكتب وأكتب، ولن تكون كلمتي إلا ضميري الحي”· وتحدثت عايدة عن اللحظات الأخيرة من حياة “سهيل” وصراعه مع المرض واليأس من الأوضاع العربية القاتمة وانهيار المشروع القومي الذي يناصره، ثم أجهشت بالبكاء، وقالت بتأثر: ”أنا لا أصدق فراقك، ولذلك أنا عاجزة عن رثائك”·
وفاتها..
توفيت في الثالث من نيسان (أبريل) 2023عن عمر 89 عاماً.