16 نوفمبر، 2024 6:32 م
Search
Close this search box.

“عادل كامل” .. تفوق في الفن التشكيلي وكتب القصة والرواية

“عادل كامل” .. تفوق في الفن التشكيلي وكتب القصة والرواية

خاص : كتبت – سماح عادل :

“عادل كامل” كاتب وناقد وفنان تشكيلي عراقي.. من مواليد مدينة “ذي قار” عام 1947، درس في معهد الفنون الجميلة – بغداد، وتخرج في 1977، عمل في الصحافة منذ 1970، وقد كان محرراً صحافياً في مجلة (ألف باء) ما بين 1970 – 1988، وفي جريدة (العراق) منذ 1988 – 2003، وفي جريدة (الزمان) منذ 2003 – 2005، وفي جريدة (البرلمان)، كان مسؤول القسم الثقافي منذ 2005 – 2010، ومدير البرنامج الثقافي (ديوان شرق غرب بغداد) 2005، والمشرف العام لصحيفة (إتجاهات) الإلكترونية منذ عام 2008 – 2010، وكان عضو إتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، وعضو نقابة الفنانين العراقيين، وعضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، وعضو رابطة نقاد الفن (الايكا) الفرنسية.

الفن التشكيلي..

أصدر “عادل كامل” كتاب بعنوان: (حركة الرسم المعاصر في العراق) باللغة الإنكليزية، وترجمته “ندى مهدي”. يتناول الكتاب حركة الفن التشكيلي المعاصر في العراق منذ مرحلة الرواد وحتى الوقت الحالي، عبر قراءة للوحات الفنانين أمثال “عبدالقادر الرسام” و”قاسم ناجي”, وقد ركز الكتاب على مرحلة الفنانين الرواد في خمسينيات القرن الماضي وهي مرحلة هامة.

وتناول “عادل كامل” في كتابه مؤسسي هذه المرحلة في الفن العراقي المعاصر، ومنهم: “جواد سليم ــ شاكر حسن آل سعيد ـــ نوري الراوي ـــ مديحة عمر ـــ إسماعيل الشيخلي ـــ محمد غني حكمت” وآخرون، كما تناول الحركة التشكيلية وأسباب تطورها وبلورة أحداثها في ظل الظروف المعقدة والصعبة، التي مر بها العراقيين، ويعتبر كتابه الأول من نوعه، لأنه يتحدث باللغة الإنكليزية عن الحركة التشكيلية العراقية بهذا العمق.

في مقالة له بعنوان: (التشكيل العراقي في مئة عام)، يقول “عادل كامل”: “إن الفن لم يكن بمعزل عن الواقع الاجتماعي نفسه، على رغم الصدمة التي أحدثتها المعارض المبكرة في بغداد، إن مهمة جيل الرواد كانت مزدوجة.. فالهوية الوطنية للفن لم تتبلور إلا على نحوٍ عفوي.. لكن الأسئلة بدأت تثار وأصبحت ذات تأثير مباشر لدى عدد من الفنانين: أسئلة لا تبرر الحداثة، وإنما لتجعلها متطابقة مع النوايا الفنية.. ولهذا السبب ظهرت ثلاث جماعات فنية هي: جماعة الرواد.. جماعة بغداد للفن الحديث.. وجماعة (الإنطباعيون العراقيون).. ومن خلال دراسة أسباب ظهور هذه الجماعات، يمكن التعرف على مغزى الأسلوب والمعالجات.. لكننا نتعرف عامة على نتيجة واحدة ألا وهي أن الفنان العراقي غدا مدركاً لمغزى المعاصرة دون إهمال الموروث.. وبشكل عام فإن التأسيس الفني، ووضع القواعد، كما في باقي الفنون، بدأ بهاجس الحداثة ونزعة التجديد. وهذه البداية أستطاعت أن تشكل قاعدة أو تقليداً للإبداع الفني. لكن الأسئلة حول (هوية) الفن ما زالت قائمة.. وما زال الفنان، يبحث عن هويته”.

مآزق النحت..

عبر مقالة أخرى له، بعنوان: (في النحت العراقي الحديث)، يقول “عادل كامل”: “مع أن الرعيل الأول من رواد النحت في العراق، تلقوا دراساتهم، في أوروبا عندما كانت (الحداثة) الأوربية قد بلغت ذروتها، ممهدة لحقبة ما بعدها، عندما بدأ العالم يتحول إلى مجموعة: أسواق، وإلى قرى صغيرة، إلا أن خلاصة جهود هذا الرعيل ( فتحي صفوت/ جواد سليم/ خالد الرحال/ عبدالرحمن الكيلاني/ محمد غني حكمت/ إسماعيل فتاح/ صالح القره غولي.. الخ)، كان يواجه مآزق لا تخص (الهوية) الثقافية/ الفنية، أو ما يرتبط بالذاكرة ومشفراتها، متحفها، والآثار الإيكولوجية المتداخلة بعمل المخفيات فحسب، بل بالمنجز النحتي بوصفه متضمناً نظاماً مزدوجاً بين الإكتشاف من ناحية التنقيب، الحفر، البحث، والإبتكار والإختراع أو الإستحداث إزاء عالم دخل في حقبة ما بعد التصنيع، حيث الدلالات لم تعد تمتلك نسقها الكلاسي، التقليدي، إزاء التحديات، والمتغيرات، بل في التحول الحتمي المؤكد للثقافات، والفنون المصنعة، من ناحية ثانية”.

الخزف العراقي..

في مقاله بعنوان: (خزافون عراقيون)، يقول “عادل كامل”:  “إن ما تم إكتشافه من جرار، دمى، أواني، ونماذج خزفية مختلفة الوظائف، في حضارات العراق، لا تشكل إلا نسبة لكنوز أخرى مازالت بإنتظار التنقيب، والإكتشاف. إلا أنها نسبة تفصح عن مدى بلورة حداثة ترجعنا إلى مهارته في منح الجمال أثراً عملياً في بنية (النموذج) الخزفي، بوصفه يمتلك قانون الديمومة، ضمن قراءة لا تعزل حاضرها عن ذاكرتها، ولا عن إستبصارها بما سيشكل إستكمالاً للسلسلة. فالأصل لا يكمن في (الفن) ـ مثل اللغة لا تفسر بقواعدها بل بصانعها أيضاً ـ بل في الذي لم يتخل عن إستحداث مناعة مقاومة لحقب الخمول، والوهن.  ومع إن ما بعد الحداثة ـ وقد إندمجت طرقها بعالم تحكمه مراكز الشركات العابرة للقارات – غير معنية كثيراً بالإجابات التاريخية، أو المنطقية، إلا إنها ـ وقد أصبحت مظهراً عالمياً شمل أكثر المناطق بدائية إلى جانب أكثرها تقدماً ـ معنية بما كان يصنعه الخزاف الأول: هل غاب اللا مرئي عن أكثر الأشكال صلة بالنفع، وهل غابت (الميتافيزيقا) عن مكونات العالم الإفتراضي، رموزه، ومخفياته.. ؟.. فثمة قدر لا محدود ـ بنسب تحددها الرهافات والمهارات والتحديات من المجهول الذي يجد سكنه في أكثر الأشكال تقليدية ـ وأعرافاً، إلى أكثرها إحتواءً للمشفرات. ربما ليست هي (الميتافيزيقا) أو (العدم) أو (المجهول) ـ ما دمنا نعمل بأدوات قديمة لمعالجة مستحدثات آخذة بالعبور نحو مصيرها، وأعني بها اللغة ـ ولكن هل بإستطاعة (الجمالي) أو كل ما تنتجه الرهافة، والمنبهات الحسية، والحدوس، وما ينتجه الدماغ من عوالم إفتراضية، أن تشكل (ميتافيزيقا) تتوخى أن تصبح علماً، لمنح الفن أن يكون حرية بموازاة ضدها: الضرورة أم أن الفن كان ضرورة أنتجتها الحرية التي تتطلبها الحضارة خارج المفاهيم القائمة على العسر، والعنف، وهي تحتفل، أحياناً، بإندثارها ؟.. إن هذا التشبث (العنيد)، بحد ذاته، يمتلك قدرات لا واعية، للسلسلة أو للدورة، وليس لحلقة أو حقبة أو فجوة فيها…، حيث الفن يذهب أبعد من وصفه بالسلعة، وأبعد من مشروعه الوظيفي، وأعمق من إنشغالاته الشكلانية أيضاً، حيث إن لم يستحدث تعديلات تواكب حضارة أقل عشوائية، عنفاً، وإنشغالاً أحادياً بالربح،  فإن لغز الزوال سيبقى إنشغالاً، لا يهن، بل يجد منفذاً له، شبيهاً بما تفضي إليه الثقوب السوداء، لا تتوارى داخل بنيتها إلى الأبد، كما قال ستيفن هوكينغ، بل تنبعث في حياة لها ديناميتها، حتى بوجود حياة مغايرة لحياتنا، في مكان آخر من الكون”.

رواية جهنم..

إلى جانب الفن التشكيلي، كتب “عادل كامل” القصة القصيرة والرواية، وكانت له معرفته الموسوعية وإسهاماته الكبيرة في الثقافة العراقية.

وسنقدم له جزء من رواية (جهنم)، المنشورة في عام 2017، في موقع (الحوار المتمدن)..

“ـ أسرع، أسرع…، ألقمها، فلهبها يكاد يخمد، أسرع، أسرع.

ابتسم المشرف العام على البوابة الحديدية الكبرى، مضيفاً لأحد مساعديه:

ـ فمن ذا يقدر على إطفائها، وقد أعددنا لها هذه الفيالق، وهذه الطوابير..؟

لم يكن لنارها دخان، فما أن تلامسها الأجساد، مهما كانت كبيرة، أو صلبة، أو متحجرة، حتى تغدو بيضاء شديدة التوهج، تبث إشعاعات لا مرئية، أسرع من موجات أشعة الشمس بثلاث مرات، فلا تلمحها العيون، ولا تسمع لها الآذان أصوات، إلا أصداء لا صوتية تنصهر فتتحول إلى بلور بلا وزن، يتجمد، لصبح رمادا من غير لون، فيبدو مثل البلور السحري للأطياف وقد تناثرت عبر مساحات بلا حافات.

رفع المشرف العام رأسه وألقى نظرة إلى الفيالق، والطوابير، ليصدر امرأ لمساعديه:

ـ لا تحدقوا في وجوههم، ولا في عيونهم، ولا في أفواههم، ولا تنشغلوا بملامحهم…، ولا تصغوا إلى عويلهم، وصراخهم، واستنجاداتهم، وتضرعاتهم، وطلبهم للغفران!

ـ نعم، نعم، سيدي.

كانت النعم جماعية، صدرت عن فم واحد. فقال متابعاً:

ـ ولا تدعوا أحداَ يتسرب، يهرب، يفر…

فرد أحدهم:

ـ وأين يمكن أن يولي…، يا سيدي؟

ـ قد يجد من ينجده، أو يتستر عليه! فالأوامر صريحة: الكل إلى المحرقة، ولا استثناءات هناك، لا للصغير ولا للكبير، لا للذكر ولا للأنثى، لا للأغبياء ولا للأذكياء، فهذا هو مصيرهم..!

في الأعلى، كانت السماء رمادية، تنذر بعواصف، وعند المدخل، احتشدت الجموع تتعبها أخرى، متراصة، الواحدة خلف الأخرى، ومن الصعب إحصاء عددها. كانت درجات الحرارة قد انخفضت إلى ما تحت الصفر بخمسين درجة. حتى ان الأصوات كانت تتجمد وتتكوم مثل مكعبات مختلفة الأشكال، فوق العشب. تذوب، ثم تتبخر، فتصدر أزيزاً شبيهاً بتحول الحجارة إلى غبار، والغبار إلى أثير، والأثير إلى موجات لا مرئية تتلاشى في الفضاءات.

سألت الغزال، الواقفة في فيلق الغزلان، أختها:

ـ ما الذي يحدث…؟

ـ آ …، لو كنت اعرف.

ـ أنا اعرف!

ـ تعرفين…، حسناً، أنا لا أريد أن أعرف، يكفي ما عرفناه.

ـ وأنا أيضاً لا أريد أن اصدق إنني عرفت…، ربما أنا رأيت، ربما سمعت، ربما توهمت إنني سمعت ورأيت، في الغالب لم أر ولم اسمع.

ـ هذا يكفي…، فبعد أن تتحول أجسادنا الجميلة إلى رماد، تبدأ القصة!

لكزها الحمل الواقف في فيلق الخراف:

ـ يقولون أن خلايا الوباء استيقظت بعد خمودها لملايين السنين…، وهناك إشاعة تؤكد إنها هبطت من كوكب بعيد، وأخرى تنفي هذه الإشاعات مؤكدة إنها صنعت في مختبرات خاصة!

أجابت الغزال بلا مبالاة:

ـ وأنت ماذا فعلت كي تُحرق؟

ـ لست وحدي، بل انظري إلى القطيع ….، والفيلق الآخر، هناك باقي الفصائل..

ـ وضعونا في المقدمة، شكرا ً لهم!

ـ ليس هناك أفضليات، مع إنها ـ كما يقال ـ مرتبة بحسب المعاصي، الذنوب، والآثام…، وبما لم يرتكب أيضاً!

فقال ابن أوى الهارب من جماعته:

ـ كنت أود لو مزقتني أنياب الذئاب على ان امكث انتظر …، موتي، فالأغبياء اعتقدوا إنني شديد الذكاء…

ـ تقصد أن الأذكياء لا يتصرفون إلا بغباء..؟

مر شعاع في السماء المكفهرة، دار، دورة كاملة، ثم توارى، فساد الصمت لدقائق ظنها البعض قد جمّدت الزمن.

كان طابور الجرذان يزحف، خلفهم مباشرة، تأتي الأسود تمشي بخمول، وتكاسل. فقالت اللبؤة لأشبالها:

ـ ولكن كيف حصل أن اخترعوا وباء ً يصيب الطيور، والأسماك، والقوارض، والمفترسات معا ً، أم أن دورة الحديقة بلغت نهايتها…؟

ـ إشاعة! فالوباء ما هو إلا علامة من علامات المحرقة، وليس علامة لنهاية عصر الحدائق، والغابات، والبراري…، أما نار الأبدية فتلك تأتي في أوانها.

ـ آ …، كلها نيران، ومحارق، كأنها تتناسل كما تتضاعف الأرض بالجذام البشري.

تابع الأسد يقول لأشباله، ولبؤته، بصوت متذبذب:

ـ كنت اعرف لا جدوى مهاراتنا في الرقص على الحبال، ولا فائدة من الدخول في تمويهات، فالسيرك لم يكن سوى خدعة! يا أولادي، لا مجال للعب، والتوهم، والخداع، فالنهاية سابقة على بدايتها!

قال احد الأشبال:

ـ أما أنا فلا أعرف لماذا أحرق، ولماذا أحرق مع الأرانب، والضفادع، والبعوض، مع إنني لم أولد في البرية، ولا في الغابة، بل ولدت في احد أقفاص هذه الحديقة، وكان أملنا أن نموت فيها، لا أن نحشر مع الأسماك والفئران والضباع.

ـ اسكت.

وتابعت الأم:

ـ لا فائدة من الشكوى، ومن التذمر، ومن الاعتراض…..، لا فائدة من الأسئلة، والاحتجاج، والغضب…، فما عليك أن تفعله يا شبلي هو أن تحرق معنا، لعلنا ـ بعد الحرق ـ نتوحد برمادنا؟

ـ آ ….، فهمت، كي لا يختلط رمادنا برماد الصراصير.

ـ أحسنت…، فنحن لا ننتمي إلى شعب البراز! فأبوك لم يكن بعيراً، وأمك لم تكن أتاناً.

رد الأسد بصوت خفيض:

ـ حتى لو متنا، فرمادنا سيتجمع، ولن يختلط برماد الحمير ! فنحن عائلة مقدسة!

ضحك الحمار الذي يستمع لهم:

ـ الم أخبركم بذلك؟

هز الأسد رأسه وأجاب:

ـ لا تمزح!

ـ لا…، أنا لا امزح أبداً…، فلم يبق لدينا الكثير من الوقت للمرح، والهزل، ولكن لديَ سؤال..

هز الأسد رأسه:

ـ أسمعك.

ـ أنا لم اعتد على أحد..، لم أزور، ولم أكذب، ولم أزن، ولم أقتل، ولم أوش، فلماذا حشرت معكم؟

غضب الأسد:

ـ بالأحرى أنا سألت نفسي: ما الذي افعله كي أعاقب واحرق مع الحمير؟

اعترض الحمار بكبرياء:

ـ ما معنى هذه الإهانة؟

ـ يا حمار…، عليك أن تبتهج، وترقص، لأنك ستجاورنا، كأننا من أصل واحد؟

ـ وهل لديك شك، أم مازال عقلك ملوث بالاختلافات، والعنصرية، وأوهام التفوق…، وتظن إننا سنحشر معاً..، وأنا لا أحدق إلا في الفراغات…؟

ـ تقصد الفضاءات…؟

ـ آ …..، في الأقل، لا احد سيؤذينني، ولا احد يحتقرني، ويحمّل علي ّ أوزاره، وذنوبه، فلا مجاعات ولا تخمة! آنذاك سأرقص كما ترقص ومضات النجوم!

اقتربت الغزال من الأسد وسألته:

ـ ولكن اخبرني لماذا يرسلوننا جميعاً إلى المحرقة…؟

فكر برهة وقال ضاحكا ً:

ـ وهل تظنين إننا خلقنا للبقاء في هذه الحديقة إلى الأبد…؟

بكت الغزال:

ـ اية حديقة، يا سيدي، تتحدث عنها…، الم نقض حياتنا بانتظار هذه الخاتمة!

هامساً تمتم:

ـ أنا أمضيت حياتي متوجسا ً أن يأتي اليوم الذي تبول فيه الثعالب علي ّ…، فانا الآن أفضّل رائحة شواء أجسادنا وتحولها إلى هواء منصهر؛ بدل استنشاق الجيفة، الأكاذيب، ولا الخساسات، ولا النذالات، وبدل أن تتحكم الخراتيت والثعالب والجرذان بمصائرنا…؟

ودار بخلده، مع لا معنى هذا كله، إلا أن العدم وحده يليق بنا، فهو لا يتضمن أسئلة تتطلب إجابات!

ـ صار الأمل هو آخر وهم يغوينا بالحياة.

ـ أسرع، لا تتعثر، لا تتوقف…

فقال الكركدن للثور:

ـ لا تتكلم.

ـ ومتى تكلمنا أيها الضخم؟

فعوى الذئب:

ـ أسرعوا …

فقال له الثور:

ـ وعلى م َ العجلة..، وأنت منشغل بالوصايا تنثرها علينا؟

سكت الذئب، مصغياً للخروف:

ـ أسألك، بوصفك أعقل مني: ما الفائدة من حرقنا، ومحونا من الوجود…؟

ـ آ ……، هناك ألف ألف فائدة.

ـ أهناك ألف ألف فائدة…، اخبرني بواحدة فقط…؟

ـ كي لا تكتظ الحديقة بنا …، وتحدث خللا ً في التوازن!

ـ أنت تقصد تحديد النسل..؟

ـ بالتأكيد…، وإلا ما فوائد الحروب، والمجاعات، والإبادات؟

فكر الذئب:

ـ ها، ها، كي نصبح أخوة بالرماد…، بعد ان مكثنا في صراع نجهل أسبابه وقسوته ولا معناه…؟

ـ جميل…، فلا معنى ـ إذا ً ـ للإسراع، والهرولة، ولا معنى للتسرع والغضب، ولا معنى للأحزان والندم…

ثم سأل الذئب الثور:

ـ أيهما أكثر رعباً: رائحة السكين أم رائحة لهب المحرقة؟

ـ يا ملعون.

ذلك لأن الثور ما أن سمع كلمة سكين حتى فقد صوابه، هاج، واخذ يضرب الأرض، ويدور حول نفسه. فاقترب الحمار منه:

ـ ماذا جرى…؟

ـ لا تتدخل…، ما شأن الحمير بالقضايا الكبرى…؟

ـ حتى أنت…، مثل كل النباحين، العوائيين، المستغيثين، تبقى ثوراً!

حدجه شزراً، وود لو بقر بطنه، فقال للذئب:

ـ الا تشعر بالجوع؟

فأجاب ساخراً:

ـ لا ارغب ان أشوى، وفي ّ لحم حمار!

تراجع الخروف، مذعورا ً، فناداه الذئب:

ـ أنا امزح معه…، فلن افعلها,

فقال الثور للخروف:

ـ لا تصدق …، فحتى الذئاب لا تقول الصدق! إنها تضمر شيئا ً وتقول شيئا ً آخر، لا تخجل، ولا حياء لها.

اقترب منه الذئب:

ـ من أنت…؟

ـ أنا لكثرة السكاكين التي عملت في جسدي أصبحت سكيناً!

عوى الذئب:

ـ أنا لم اعد ذئبا ً…!

فضحك الخروف، وراح يتمتم مع نفسه بصوت مسموع:

ـ ربما لو امتد به العمر لأصبح زعيما ً، أو راعيا ً، بعد ان يغطسنا في بحر من الدماء..، يقلينا فوق رمال الصحراء…

فخاطب الكركدن الثور:

ـ حتى جهنم لم تعد لها مهابة، فلم تعد تثير الخوف، ولا الخشية، كأنها تحولت إلى ملهى، أو أصبحت سيركا ً، أو دار عجزة! فإذا لم نعد نخشاها فمن يضع حدا ً للقتل، والنهب، والخطف، والقتل، والخساسات…؟

ابتسم الحمار:

ـ سيدي، هذه ليست هي جهنم…، هذه مقلاة، مدفأة، وفي أفضل حالاتها فإنما هي محرقة اخترعها السيد المدير…!

قرب رأسه منه وسأله:

ـ ولكنهم يقولون شيئا ً آخر، يقولون إنها وجدت لإفساح المجال للمواليد الجدد، والحد من الضوضاء، وإزعاج سيدنا المدير، ومساعديه، والسيدة المستشارة…، وهناك إشاعات تقول إنها اخترعت لبث الرعب، فما من سلطة من غير سيف ودم ومحرقة…؟

ـ وهم…، إشاعات، ومزاعم يبثها الأنذال، والعملاء، وأشباح البراغيث…، فقد برهنت الوقائع انه كلما ازداد الخوف، والرعب، يتضاعف عدد المواليد الجدد…، فالأرحام لا تعمل بالأهواء، والقرارات، والدعايات! فالأحياء منذ وجدت قاومت هذه المزاعم، وإلا لكان الإنسان انقرض قبل انقراض قادتنا العظام الديناصورات…؟

ـ ما ـ هو ـ دليلك، أيها المحترم..؟

ـ ألف ألف ألف دليل لدي ّ على ذلك…، انظر إلى أعداد الذباب، والفقراء، والمتخاذلين، والمخلوقات المقاومة لكل أشكال الاجتثاث، والإبادة، والمحو…، من طرد من، ومن انتصر على من…؟ فالحياة تزدهر أبدا ً على نحو يانع كلما اشتدت وسائل الفتك، وكلما تنوعت فنون الإقصاء!

هز رأسه موافقا ً، وراح يسأل نفسه:

ـ آ..، لو عرفت لماذا يعاقب الجميع، ولماذا ينكل بهم، ولماذا يذهبون مع الريح، مثلما جاءوا معها…؟

أجاب الذئب بصوت جهوري:

ـ والآن جاء دوري لأخبرك….، فانا أود ان أسألك: لو بحثت عن كائن واحد وجد فوق هذه الأرض وفي الحدائق والمستنقعات والبرك والزرائب والمدن والبراري والبحار والصحارى لم ولن يذق مرارة العقاب لعرفت السبب…؟! جد هذا السعيد فستجد الجواب…؟

ـ صحيح! أنا طالما فكرت في هذا الأمر …، فوجدت الأسباب الكافية التامة بعللها كي نكون جميعا ً سعداء! نولد مسرة، ونعيش سعداء، ونغادر من غير ندم!

ـ حمار ويفكر!

فرد الحمار:

ـ وذئب يتصيد زلات اللسان….، يوهمنا بالصواب ليوقعنا في الذنب!

رد الذئب بغضب:

ـ لو وضعنا قليلا ً من الصواب في رؤوسنا بدل هذه التخمة من الأصوات، فهل سنلقى المصير الذي ينتظرنا …؟

ـ المشكلة لا تكمن في الصواب، وفي الحكمة، وفي العدل…، ولا في الباحثين عن الصواب وعن الحكمة أو العدل، ولا في ـ ما ـ بعدها …

ـ أين تكمن إذا ً يا سعادة الحمار، حتى أصبحت تتقمص دور الواعظين، والملقنين، والمفكرين القادة الكبار…؟

ـ يا سيدي، بعد ان تُحرق، رمادك سيخبرك!

حتى أنت أصبحت تلهو بعقلي…؟

ـ بماذا…؟

ـ آسف….، بهذا الطبل، بهذا التجويف، آسف….، بهذا الفراغ!

ـ أقسم لك…، لا أنا، ولا أنت، ولا حتى للفيل عقل، فلا احد منا يذهب ابعد من أسوار هذه الحديقة.

ـ لابد انك أصبت بداء كآبة المحرقة، وإلا ما الداعي للقسم.

ـ حتى لو لم تكن هناك محرقة، وحتى لو لم نمت، فالحياة لا تسمح إلا كي تحافظ على دينامية ديمومتها. فأسلافي قالوا لنا: تعلم أن تهذب غضبك، فلا ترفس، ولا ترفع صوتك، ولا تمشي مرحا ً، وقالوا: لا تفسق، ولا تزن، ولا تزور…، وقالوا لا تبع أمك، ولا جدتك، ولا شجرة من أشجار حديقتك، وأنا للحق حفظت الوصايا الألف، بعد مرور آلاف السنين، كلها عن ظهر قلب…، وهذه هي النتيجة؛ ان لم تمت إعياء ً، ووهنا ً، ومذلة، وبالرفس، وبالانشطار، والتقطيع، ولم تذبح في زمن المجاعات، وتنتهك في زمن جر عربات الموتى، قبل ولادة الحواسيب العملاقة، فان المحرقة وحدها بانتظارك. إنها بشارتك، وعيدك!

رحل الفنان ” عادل كامل” منذ أيام..

 

 

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة