خاص : بقلم – د. مالك خوري :
لا يوجد فنان فوق النقد والقراءة التقييّمية، سواء على مستوى الإبداع في الأسلوب والأداء أو على مستوى المحاكاة والتفاعل الإيديولوجي لأعماله. وعادل إمام ليس استثناءً لهذا.
بيد أن ما نشهده اليوم هو أبعد ما يكون عن أي نقد أو قراءة تقييّمية جدية تجاه هذا الفنان أو أعماله. فعادل إمام لا يمكن لأحد إلا الإقرار بضخامة الإرث الذي استطاع من خلاله أن يطبع حيزًا أساسيًا من الثقافة والذاكرة الثقافية الشعبية في مصر ومعظم العالم العربي لأكثر من خمس عقود متتالية. وبالتالي فإن خطابات التهجم المشّخصن والرخيص لا ترقى إلى أهمية وقع هذا الفنان ولا أعماله، بل تُعبّر عن مدى الهبوط الفكري الذي نُعاني منه في بلادنا نتيجة لتراجع منهجيات النقد العلمي والمتخصص في تبوء دورها داخل المشهد الثقافي العام في هذه المنطقة من العالم.
لكن ما نشهده مؤخرًا على وسائل التواصل الاجتماعي له خصائص وسمات مضافة لا بد من الإشارة إليها. فعادل إمام لم يكن أبدًا فنانًا منعزلاً عن الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان دومًا جزءًا متفاعلاً معه وفاعلاً ضمنه. وبشكلٍ أو بآخر فإن كوميديا هذا الفنان النافذ قدمت دومًا مثالاً خاصًا عن “الكوميديا التي تحمل سوطًا إصلاحيًا” كما قالت الصحافية المصرية مها محمد مؤخرًا (صحيفة “الأهرام” في 17/05/2023). وهو بهذا كآن دائمًا يُعبر بعفوية وبلغة الطبقات الشعبية والوسطى عن عدائها الطبيعي للرأسماليين الانتهازيين والبيروقراطية الفاسدة و”وأخلاقيات” ونفاق بورجوازيات “حديثي النعمة” الذين هيمنوا بوضوح على المفاصل الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية في عالمنا العربي منذ نهايات العقد السابع للقرن المنصرم. من “البحث عن فضيحة” إلى “البحث عن المتاعب” إلى “إحنا بتوع الأوتوبيس” إلى “رجب فوق صفيح ساخن” إلى “الغول” إلى “الهلفوت” إلى “اللعب مع الكبار” وإلى وإلى…، كانت أعمال عادل إمام تُذكرنا دومًا بما كان يدور في خلد الفئات المهمشة من شعوبنا وهي ترى أمامها تهافت الواقع العربي على كل الأصعدة.
وعادل إمام هو من أشرس من سخر باكرًا في أعماله من زيف الشعارات “الوطنية” و”الديمقراطية”، والشعبوية الفاشية التي تاجرت وما زالت تتاجر بها الظلاميات الدينية على إشكالها في بلادنا، وخطر ذلك على مستقبل شعوب المنطقة. وأعمال مثل “الإرهاب والكباب” و”طيور الظلام” و”الإرهابي”، و”النوم في العسل”، وحتى “عمارة يعقوبيان” و”حسن ومرقص”، كانت دائمًا تدق ناقوس الخطر تجاه ما يحدث على الصعيد الشعبي من تحولات فكرية خطيرة لا يمكن أن تقود إلا إلى صراعات داخلية تقسّيمية تصب إلى صالح إضعاف فكرة الوطن والمواطنة.
وهو لم يتوانى في نفس الإطار، وفي معظم الأحيان وحيدًا تقريبًا بين فناني مصر، عن إدانة من استغل شعارات المقاومة في فلسطين لتنفيذ أجندات رجعية هي بالنهاية معادية لفلسطين كما هي معادية لطموحات شعوبنا العربية في التقدم والتطوير الفكري. وفي هذا الإطار كان الدفاع عن فلسطين هو موضوع وطني وإنساني قبل أن يكون دينيًا. وبالمقابل، فإن تضامنه مع فلسطين كان مسموعًا وواضحًا في مفاصل تاريخية لم يكن يجرؤ فيها فنانون آخرون على رفع صوتهم التضامني مع شعبها الجريح والمقاوم. وفيلم “السفارة في العمارة” جاء في وسط الصمت العربي المطبق تجاه الانتفاضات الفلسطينية في أواخر القرن المنصرم.
في كل هذا، كان عادل إمام يُعبر عن لسان الحال العفوي والمحب للحياة وللوطن لأكثرية الشعب المصري، خصوصًا هؤلاء الذين يضيع صوتهم ضمن الأصوات المهيمنة “لمثقفي” الدولار واللحظة الانتهازية. وكل هذا الإرث من الطبيعي أن يستفز من وقتٍ لآخر مجموعات مركبة من الذين كرهوا وما زالوا يكرهون أعمال وتوجهات عادل إمام وأعماله، ليس لأسباب “فنية” كما يدعي بعضهم اليوم، بل لأسباب فكرية وسياسية وطبقية وإيديولوجية واضحة.
لكن هؤلاء يُمثلون أقلية، على الأقل بين الطبقات الشعبية المصرية. فعادل إمام دخل التاريخ من دون إذن من أباطرة التخلف وحديثي النعمة في بلادنا. وهو سيبقى في ذاكرة وضمير شعوبنا العربية شاء هؤلاء “المارون بين الكلمات العابرة” (بالإذن من محمود درويش) أم أبوا !