خاص: كتبت- سماح عادل
“طه حسين” كاتب مصري، له انجاز كبير في مجال الأدب والثقافة، خلف الكثير من الكتب القيمة والروايات، ومن أحد انجازاته الهامة في تاريخ الثقافة العربية كتابه “في الشعر الجاهلي” الذي أصدره في 1926، والذي اتبع فيه منهج الشك الديكارتي، وأخضع التراث العربي متمثلا فيما عرف بالشعر الجاهلي كمصدر هام من مصادر التراث الى البحث والتدقيق والشك والتحليل.
أثار الكتاب ضجة كبيرة في الوسط الثقافي المصري، ومنع وأعاد “طه حسين” نشره بعد عام من الجدال والسخط، مع بعض التعديلات القليلة وغير عنوانه إلى “في الأدب الجاهلي”كما قدم “طه حسين” إلى المحاكمة بتهمة “إهانة الإسلام” بسبب 4 عبارات جاءت في الكتاب، لكن القاضي “محمد نور” حكم ببراءته وأمر بحفظ أوراق القضية إداريا وقال أن هذا رأي أكاديمي لا يؤخذ ضده أي إجراء قانوني لعدم توافر القصد الجنائي، مما يعكس حال النهضة الثقافية في ذلك الوقت والجو العام الذي كان يسمح بحرية الرأي والتعبير في مصر، على خلاف ما حدث بعد ذلك بدء من السبعينات القرن الفائت من تضييق للحريات واتجاه للتشدد الديني الذي ساد في المجتمع.
انتحال الشعر الجاهلي..
سوف نعرض لبعض آراء “طه حسين” في كتابه “في الأدب الجاهلي”، والتي تدور حول فكرة رئيسية وهي أن الشعر الذي يسمى جاهليا إنما هو شعر منتحل تمت كتابته بعد ظهور الإسلام، ونسب إلى الفترة التي قبل الإسلام لعدة أغراض، قسم “طه حسين” كتابه إلى سبعة أقسام، أسمى كل قسم منها باسم كتاب، يقول “طه حسين” في الكتاب الثاني والمعنون ب”الجاهليون”: “الكثرة المطلقة مما نسميه أدبا جاهليا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منتحلة بعد ظهور الإسلام فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواؤهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين، وأكاد لا أشك في أن ما بقى من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدا، لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء، إن ما تقرؤه على أنه شعر أمريء القيس أو طرفه أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء، وإنما هو انتحال الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو اختراع المفسرين، البحث الفني واللغوي سينتهي بنا إلى أن هذا الشعر الذي ينسب إلى أمريء القيس أو الأعشى أو إلى غيرهما من الشعراء الجاهليين لا يمكن من الوجهة اللغوية والفنية أن يكون لهؤلاء، ولا أن يكون قد قيل وأذيع قبل أن يظهر القرآن، هذه الأشعار لا تثبت شيء ولا ينبغي أن تتخذ وسيلة إلى ما اتخذت إليه من علم بالقرآن والحديث، فهي إنما تكلفت واخترعت اختراعا ليستشهد بها العلماء على ما كانوا يريدون أن يستشهدوا عليه”.
الجاهليون ليسوا كذلك..
ينفي “طه حسين” ما نسب للعرب قبل الإسلام من فظاظة وجهل وقسوة، يقول عن ما عرفوا بالجاهليون: “أتظن قوما يجادلون في هذه الأشياء جدالا يصفه القرآن بالقوة، ويشهد لأصحابه بالمهارة، أتظن هؤلاء القوم من الجهل والغباوة والغلظة والخشونة بحيث يمثلهم لنا هذا الشعر الذي يضاف إلى الجاهليين، كلا لم يكونوا جهالا ولا أغبياء ولا أصحاب حياة خشنة جافية، وإنما كانوا أصحاب علم وذكاء، وعواطف رقيقة، وعيش فيه لين ونعمة”.
العرب قسمين..
يستمر “طه حسين” في تفنيد أسبابه في أن الشعر الجاهلي منتحل يقول: “هذا الأدب، الذي رأينا أنه لا يمثل الحياة الدينية والعقلية والسياسية والاقتصادية للعرب الجاهليين، بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه، الرأي الذي اتفق عليه الرواة أو كادوا يتفقون عليه هو أن العرب ينقسمون إلى قسمين قحطانية منازلهم الأولى في اليمن، وعدنانية منازلهم الأولى في الحجاز، وهم متفقون على أن القحطانية فطروا على العربية فهم العاربة، وعلى أن العدنانية قد اكتسبوا العربية وكانوا يتكلمون لغة أخرى هي العبرانية أو الكلدانية، ثم تعلموا لغة العرب العاربة، ومتفقون على أن العدنانية المستعربة يتصل نسبهم بإسماعيل ابن إبراهيم، ويتفقون على أن هناك خلافا قويا بين لغة حمير وهم العرب العاربة، ولغة عدنان العرب المستعربة، والبحث الحديث أثبت خلافا جوهريا بين اللغة في جنوب البلاد العربية واللغة في شمال هذه البلاد، والخلاف يقع في للفظ وفي قواعد النحو والتصريف أيضا”.
اللغة الفصحى لغة قريش..
وعن اللغة العربية الفصحى يقول “طه حسين”: “كانت اللغة العربية الفصحى لغة هذا الدين الجديد، ولغة كتابة المقدس، ولغة حكومته الناشئة القوية، فأصبحت لغة رسمية للعرب ثم أصبحت لغة أدبية لهم، كما أصبحت بعد الفتح لغة رسمية ثم لغة أدبية للدول الإسلامية كلها، الرواة مجمعون على أن قبائل عدنان لم تكن متحدة اللغة ولا متفقة اللهجة قبل أن يظهر الإسلام فيقارب بين اللغات المختلفة ويزيل كثيرا من تباين اللهجات، إن القرآن، الذي تلي بلغة واحدة ولهجة واحدة هي لهجة قريش، لم يكد يتناوله القراء من القبائل المختلفة حتى كثرت قراءاته وتعددت اللهجات فيه، وتباينت تباينا كبيرا جد القراء والعلماء المتأخرون في ضبطه وتحقيقه، وأقاموا له علما أو علوما خاصة، وقد اتفق المسلمون على أن القرآن أنزل على سبعة أحرف أي على سبع لغات مختلفة، في ألفاظها ومادتها، واتفق المسلمون على أن أصحاب النبي تماروا في هذه الأحرف والنبي بين أظهرهم، فنهاهم عن ذلك وألح في نهيهم، فلما توفى النبي استمر أصحابه يقرئون القرآن على هذه الأحرف السبعة، كل يقرأ على الحرف الذي سمعه من النبي، فاشتد الخلاف والمراء في ذلك حتى كادت الفتنة تقع بين الناس، ولاسيما في جيوش المسلمين التي كانت تغزو وترابط في الثغور بعيدة عن مهبط الوحي ومستقر الخلافة”.
ويواصل” طه حسين “: “فرفع الأمر إلى عثمان فجزع له وأشفق أن يقع بين المسلمين مثل ما وقع بين النصارى من الاختلاف في نص القرآن كما اختلفوا في نص الإنجيل، فجمع لهم المصحف الإمام وأذاعه في الأمصار، وأمر بما عداه من المصاحف فمحي محوا، وعلى هذا محيت من الأحرف السبعة ستة أحرف ولم يبق إلا حرف واحد هو الذي نقرأه في مصحف عثمان وهو حرف قريش”.
الاستشهاد بالشعر..
يبين “طه حسين” في كتابه أن: “نلاحظ أن العلماء قد اتخذوا هذا الشعر الجاهلي مادة للاستشهاد على ألفاظ القرآن والحديث ونحوهما ومذاهبهما الكلامية، ومن الغريب أنهم لا يكادون يجدون في ذلك مشقة ولا عسرا، حتى أنك لتحس كأن الشعر الجاهلي إنما قد على قد القرآن والحديث كما
يقد الثوب على قد لابسه لا يزيد ولا ينقص، هذه الدقة في الموازاة تحملنا على الشك والحيرة، أليس من الممكن أن تكون قصة ابن عباس ونافع ابن الأزرق حول لغة القرآن قد وضعت في تكلف وتصنع لغرض من الأغراض المختلفة، التي تدعو إلى وضع الكلام وانتحاله لإثبات أن ألفاظ القرآن كلها مطابقة للفصيح من لغة العرب، وأن تعلم أن إثبات هذا الحفظ الكثير لعبد الله ابن عباس لم يكن يخلو من فائدة سياسية”.
أسباب انتحال الشعر..
وفي الكتاب الثالث بعنوان “أسباب انتحال الشعر” يستشهد “طه حسين” في كتابه ب”محمد بن سلام” في كتابه “طبقات الشعر” والذي يقول أن قريشا كانت أقل العرب شعرا في الجاهلية فاضطرها ذلك إلى أن تكون أكثر العرب انتحالا للشعر في الإسلام، وينتهي “طه حسين” إلى أن “العصبية وما يتصل بها من منافع سياسية قد كانت من أهم الأسباب التي حملت العرب على انتحال الشعر وإضافته إلى الجاهليين، ولم تكن العواطف والمنافع الدينية أقل من المنافع السياسية أثرا في تكلف الشعر وانتحاله، لا نقول في العصور المتأخرة وحدها، بل فيها وفي العصر الأموي أيضا، وربما ارتقى عصر الانتحال المتأثر بالدين إلى أيام الخلفاء الراشدين أيضا، فكان هذا الانتحال في بعض أطواره يقصد به إلى إثبات صحة النبوة وصدق النبي، ويحمل على هذا كل ما يروى من هذا الشعر الذي قيل في الجاهلية ممهدا لبعثة النبي، وفي سيرة ابن هشام وغيرها من كتب التاريخ والسير ضروب كثيرة من هذا النوع، فقد أرادت الظروف أن تكون الخلافة والملك في قريش، رهط النبي، وأن تختلف حول الملك، فيستقر حينا في بني أمية وينتقل إلى بني هاشم، رهط النبي الأدنين، ويشتد التنافس بين أولئك وهؤلاء، ويتخذ أولئك وهؤلاء القصص وسيلة من وسائل الجهاد السياسي، فأما في أيام بني أمية فيجتهد القصاص، مستعينين بنماذج من الشعر الجاهلي، في إثبات ما كان لأمية من مجد في الجاهلية، وأما في أيام العباسيين فيجتهد القصاص في إثبات ما كان لبني هاشم من مجد في الجاهلية، ولا يقتصر الأمر على هذين الفرعين من بني عبد مناف، فالارستقراطية القرشية كلها طموحة إلى المجد، والبطون القرشية على اختلافها تنتحل الأخبار والأشعار”.
تأسيس لنهضة ثقافية..
كان “طه حسين” جريئا في طرحه هذا في كتابه “في الأدب الجاهلي”، كما سن منهجا جديدا لدراسة التراث ومسائلته يعتمد على منهج علمي تحليلي كان مناسبا وحديثا في ذلك الوقت، العشرينات من القرن الفائت، وإن تطورت المناهج والأبحاث والدراسات، وتم اكتشاف حقائق كثيرة حول تاريخ منطقة الشرق الأوسط بأكملها وتاريخ دولها وأممها، ويحسب ل”طه حسين” جرأته وسعيه لتأسيس نهضة ثقافية مصرية وعربية على أسس صحيحة وعلمية.
كما كان كتابه” في الأدب الجاهلي” مصدرا لجدل كبير أثرى الساحة الثقافية وألفت حوله عدة كتب لدحض ما توصل إليه “طه حسين” من افتراضات حول انتحال الشعر الجاهلي، وسعى الرواة والقصاصين والمؤلفين إلى خلق شعر يدعم ما يرمون إلى توجيهه للناس من افكار.
من أهم الكتب التي عارضت كتاب” في الأدب الجاهلي”:
1- النقد التحليلي لكتاب “في الأدب الجاهلي” للأستاذ محمد أحمد الغمراوي.
2- نقد كتاب “في الشعر الجاهلي”، للأستاذ محمد فريد وجدي.
3- نقض كتاب “في الشعر الجاهلي”، للأستاذ محمد الخضر حسين.
4- “الشهاب الراشد” للأستاذ محمد لطفي جمعة.
5- “تحت راية القرآن” للأستاذ مصطفى صادق الرافعي.