13 أبريل، 2024 6:08 ص
Search
Close this search box.

“ضوء القمر” .. أو حين توج الأوسكار “هامش هوامش” الموسم الهوليوودي

Facebook
Twitter
LinkedIn

خاص : بقلم – د. مالك خوري :

مع كل الضجة التي أحاطت بليلة “الأوسكار”، عام 2017؛ (بما في ذلك دراما الفوز المفاجيء لفيلم “ضوء القمر” (Moonlight)، من إخراج باري جينكينز على منافسه “لا لا لاند” (La la Land) من إخراج: داميان غزيل والذي كان فوزه شبه مؤكد)، فإن الكثير من التعليقات كانت تتمحور حول السياسة التي أدت إلى هذه النتيجة غير المتوقعة. ومنذ ظهور الفيلمين “على رادار” التقييم في دوائر الاحتفالية الهوليوودية السنوية الأكثر أهمية، فإن الاستعراضية الموسيقية الأخاذة لفيلم “غزيل” بدت مرشحة لفوز مؤكد ضمن الأفلام الأكثر تفضيلاً في هذا العام. لكن في نهاية المطاف، وعندما تم الإعلان عن الفائزين، وفي خضم عام كان حافلاً بكل أنواع المخاوف والتوجسات السياسية والاجتماعية الناجمة عن فوز المرشح اليميني المتطرف، “دونالد ترامب”، في سباق الرئاسة الأميركية، فأن الميل التقليدي لهوليوود إلى الدراما التي تدفع بالمشاهد إلى الهروب من الواقع ونسيانه المؤقت، (والجنر الموسيقي بالطبع يمثل أهم تجسيدات هوليوود لهذا النوع من الأفلام)، تحول باتجاه آخر تمامًا.

انطلاقًا من حرصها على سمعتها “الليبرالية” التقليدية وجماهيرها، فقد اختارت النخبة التي تقوم بالاقتراع في الأكاديمية الأميركية لمهرجان الأوسكار، في ذلك العام؛ فيلمًا لا يعكس على الإطلاق المزيج الذي تفضله هوليوود عادة لدى اختيارها لأفضل فيلم. فالفيلم الفائز، (مون لايت)، ركز على شخصيات من شريحة تمثل أولئك الأكثر تهميشًا بين المهمشين في المجتمع الأميركي: فشخصية بطل الفيلم هي لشاب مثلي من أصول أميركية إفريقية من الطبقة العاملة ويعمل في تجارة المخدرات. وبالإضافة لهذا الموضوع الذي يبقى في عداد “التابوهات” في سينما هوليوود المهيمنة، ففيلم “جينكينز” ينتمي إلى ما يُطلق عليه وصف: “سينما الفن” (Art Cinema) أو سينما النخبة، وتم إنتاجه من قبل شركة إنتاج مستقلة صغيرة بميزانية قدرها: 1.5 مليون دولار، (وبالتالي فهو كان الأقل ميزانية بين المتنافسين ذلك العام، كما في تاريخ كل الأفلام الفائزة بجائزة أوسكار لأحسن فيلم منذ إنشاء الجائزة). أضف لكل هذا، أنه حين تم الإعلان عن فوز الفيلم فإن إيراداته في شباك التذاكر كانت أدنى من أي فيلم في تاريخ الأفلام التي حصلت على هذه الجائزة: (22 مليون دولار).

لقد جاء كل شيء بالنهاية وإلى حد كبير مناقضًا لما يُتوقع عادة من أكاديمية واسعة القاعدة ويشارك بالتصويت فيها ما يقارب: الـ 6000 شخص. وفي حين أن العدد التفصيلي لعضوية هذه الهيئة النافذة لا يزال سرًا محميًا بشدة، فأن هذه العضوية طالما مثلت حقيقة شبه معروفة لكل المختصين والعاملين في هذا المجال. وبناء على دراسة أجريت عام 2011، من قبل صحيفة (لوس أنغلوس تايمز)، فإن نسب المشاركين في انتخابات الأكاديمية هم أقل تنوعًا بكثير من الناحية الديموغرافية من التشكيلة العامة لجمهور للسينما، وأكثر أحادية مما تدعيه صناعة السينما في هوليوود. فيشكل القوقازيون البيض حوالي: 94 بالمئة من نسبة الذين يدلون بأصواتهم في حفل “الأوسكار”، والذكور نسبة: 77 بالمئة، والأميركيون الأفارقة نسبة: 2 بالمئة من المقترعين، واللاتينيون أقل من نسبة: 2 بالمئة.

وفي العالم العربي، (حيث بدا الكثيرون أكثر تحيزًا إلى تقاليد هوليوود من هوليوود نفسها)، فالشعور العام لدى العديد من النقاد عند إعلان النتائج كان معبرًا عن خيبة أمل كبيرة… ربما أكثر من معظم النقاد في جميع أنحاء العالم. وأرجع العديد من هؤلاء النقاد رد فعلهم هذا إلى استيائهم مما رأوا فيه إزديادًا لهيمنة “الصوابية السياسية” (Political Correctness) بين النخب الهوليوودية، خاصة في خضم انتخاب “ترامب” رئيسًا للولايات المتحدة. ومن وجهة نظر هؤلاء النقاد، فالنتيجة جاءت بمثابة مهزلة لتكشف جانبًا غير مهني في توجهات هذه النخبة. فالتصويت برأيهم شكل مثلاً على انتهازية مجموعة نخبوية تحاول إثبات تعاطفها مع الأقليات العنصرية والدينية والاجتماعية داخل المجتمع الأميركي؛ والتي كانت تتعرض في حينه إلى هجوم من الإدارة السياسية اليمينية الجديدة في واشنطن.

وفي الواقع، فإن التصويت عكس نوعًا من عدم الجدية وعدم الاتساق. فمع أن الفيلم فاز بجوائز “أفضل فيلم” و”أفضل سيناريو مقتبس” و”أفضل ممثل مساعد”، فقد خسر في جميع فئات الجوائز الرئيسة الأخرى، بما في ذلك جوائز التصوير السينمائي والمونتاج، كما أنه لم يتم ترشيحه في فئة الإخراج. فالفيلم كان مرشحًا لثمانية جوائز أوسكار، بدءًا بـ”أفضل فيلم”، ومرورًا بـ”أفضل تصوير سينمائي”، (جيمس لاكستون)، و”أفضل مونتاج”، (نات ساندرز وجوي ماكميلون)، و”أفضل أغنية أصلية”، (نيكولاس بريتل)، و”أفضل ممثل مساعد”، (مهارشالا علي)، و”أفضل ممثلة مساعدة”، (ناعومي هاريس)، و”أفضل سيناريو مقتبس”، (باري جينكنز). لكنه بالنهاية لم يفز إلا بجائزتي “أفضل ممثل مساعد” و”أفضل سيناريو مقتبس”، وذلك بالإضافة إلى جائزة “أفضل فيلم”. وأعتبر البعض أن هذا عبر عن تناقض وانعدام تناسق في المواقف التقييمية لناخبي الأكاديمية، والذين يميلون عادة (وإن ليس بالضرورةً) إلى أخذ هذه الفئات الفنية في الاعتبار لدى تصويتهم لـ”أفضل فيلم”. ما أخطأ هؤلاء النقاد في تصويب سهامهم عليه، هو استحقاق (مون لايت) وعن جدارة لجائزة “أفضل فيلم”. بل أن خطأ الأكاديمية الحقيقي في تقييمها، برأيي، تجسد في عدم منح الفيلم لعدد من الجوائز الأخرى التي كان يتنافس عليها.

فالفيلم عبّر موضوعًا وأسلوبًا عن أصالة لا يمكن إنكارها، وخبرة إبداعية بصرية مميزة، واستيحاء خلاق لقصة شديدة البساطة؛ لكنها ترتبط بصلة وثيقة بواقع أميركا اليوم. إن عدم قدرة ناخبي الأكاديمية على التعرف على الأوجه الأخرى للفيلم كشفت عن هشاشة الواجهة الحرفية التي حاولت الأكاديمية أن تقدم نفسها من خلالها. فما جعل (مون لايت) ما هو عليه في الواقع هو تصويره السينمائي الفائق النجاح في تقنياته التعبيرية عن الثيمة. فالفيلم ليس بالضرورة فيلمًا واقعيًا، خاصة من الناحية المرئية. ومع ذلك، فالفيلم يجسد نوعًا من التوازن الدقيق في تقديم الصور التي تتيح للجمهور الشعور وكأنهم يشاهدون تجربة حقيقية. لكنه في نفس الوقت يقدمه بطريقة توفر عدسة أكبر للنظر من خلالها. ومدير التصوير يرصد حياة “تشيرون” بدقة متناهية، مرافقًا إياه عبر مشاهد تحدد معالم حياته تلك في جزء باهت وقاس من مدينة ميامي. عبر العدسة والتصوير الجريء لكاميرا “لاكستون”، يتم تذكير المشاهدين بأن غوص التصوير في التعبيرية يمكن أن يساعد في جعل القصة تلقى صدى واقعيًا لدى الجمهور. فيصبح التصوير هنا جزءًا في عملية إبقاء الجمهور على دراية بيد مدير التصوير كما الممثلين الذين يلعبون على الشاشة أمامه، وذلك في إبتعاد واضح ومتعمد عن أسلوب التصوير “المتكامل” لمعظم أفلام الميزانية الكبيرة اليوم؛ والتي تحاول الاختفاء “بواقعيتها”.

يستخدم مدير التصوير ثلاث لوحات ألوان مختلفة لكل من المقاطع الثلاثة للفيلم. بل إنه يستخدم نوعًا مختلفًا من الكاميرات لتصميم تجربة فريدة لكل لحظة من اللحظات الثلاثة في حياة “تشيرون”. عند القيام بذلك، ينتقل “لاكستون” بعيدًا عن المنهج الوثائقي “الواقعي” المفضل في الأفلام التي تتناول قضايا التهميش الطبقي. البديل هنا هو صورة متأصلة في تدقيق “تشيرون” تجاه الألوان والأضواء في أجواء ميامي. وبشكل أكثر تحديدًا، يسمح هذا النسيج البصري بمعالجة سينمائية أكثر انطباعية لألوان الباستيل الزاهية والخضرة والأشجار الخضراء الإستوائية والعشب. يقترب تصميم الإضاءة بشكل مختلف من درجات الألوان الخاصة ببشرة الشخصيات. ويصبح هذا كله أكثر ثراءً عند وضعه في سياق حي ليبرتي سيتي الذي تصطليه الشمس، وهو القسم الفقير من ميامي، حيث نشأ مخرج الفيلم، “جينكينز”، وكاتب السيناريو الشريك، “تاريل ماكريني”.

استيحاء لأجواء الطقس في ميامي، أراد مدير التصوير، “لاكستون”، أن تلمع بشرة الممثلين حتى يتمكن المشاهد من الإحساس باصطلاء الشمس لهم. ولتحقيق ذلك، دفع المصور السينمائي بنسبة التباين تقريبًا في كل مشهد من مشاهد الفيلم. وتجنب خلال هذه العملية استخدام أي إضاءة مشبعة، مما يسمح للضوء بالإسقاط في الظلال ونحت وجوه الشخصيات. وجاءت النتيجة قوية بالفعل، إذ جعلت كل لقطة في الفيلم تستحق التعامل معها كصورة ثابتة أو لوحة. ويعتمد الفيلم أيضًا على العديد من اللقطات المقربة لأوجه الشخصيات في تمثيل يجسد الواقع الخانق لعالمهم الشخصي. فتلتقط الكاميرا الوجوه أماميًا في العديد من النقاط، بشكل نشعر وكأنهم يتحدثون إلينا من خلال العدسة. في نفس الوقت، تساهم تقنيات أخرى للكاميرا في زيادة الشعور بعدم الراحة لدى المشاهد، حيث يتم استخدام الكاميرا المحمولة باليد والمستخدمة ضمن العديد من المشاهد. حتى في أكثر مشاهد الفيلم سموًا، يكافح  بصريًا للحفاظ على سيطرته على الموجات العاطفية للبطل. ربما يكون أحد المشاهد الأكثر شهرة في الفيلم هو مشهد “المعمودية”، حيث يتم تعليم طالب الابتدائية “تشيرون” كيفية السباحة. تغطس الكاميرا في الماء على مقربة من “خوان” و”تشيرون” وهي تقاوم المد والجزر في المحيط، (المشهد مليء باللقطات المتوسطة والمقربة)، وكأنها تحاكي ما تمر به تلك الشخصيات… القلق المقرون بالغبطة في تجربة “تشيرون” الأولى في الاستمتاع المتواضع ببعض البهجة في حياته كطفل.

أما المونتاج غير المصطنع والمتوازن مع تفاعلات التغير في حياة “تشيرون”، فقد تناغم مع طبيعة اعتماد الفيلم غير المساوم على توفير الوقت الكافي للمشاهد للغوص في تجربة التعبير “التشكيلي” التي توفرها الصورة. إذ يُظهر أسلوب التوليف البطيء للفيلم إنشغاله في التقاط اللحظات الداخلية للشخصيات، مما يسمح بمساحات بصرية أطول للتأقلم مع محيطها الشخصي والاجتماعي والبيئي. ​​تصف المونتير، “جوي ماكميلين”، في مقابلة مع (ABC) محاولتها إظهار الشخصية “الداخلية” لـ”تشيرون” فتقول: “إنه لا يتكلم كثيرًا، وكمونتير يتوجب عليك أن تقطع عبر العديد من المشاهد التي لم تتخللها حوارات”. لكن في حقيقة الأمر، فإن اللقطات الطويلة والصمت في الفيلم يفصح في الواقع عن مجلدات تتناول الخلفية الحسية في حياة الشخصيات. وهذه اللقطات تلعب أيضًا دور الممهد الذي يفسح في المجال أمام مهندس الصوت لينطلق في تخطيطه للتعامل مع الشريط الصوتي وموسيقاه الأخاذة والمعبرة.

ففي ظل شح الحوار في الفيلم، لعبت الموسيقى، سواء تلك المقترنة بـ”الهيب هوب” أو بأنغام “نيكولاس بريتل” الكلاسيكية دورًا أساسيًا في جعل (مون لايت) ما هو عليه كفيلم “تعبيري” بالدرجة الأولى. فاستكمالاً للتصوير التشكيلي البصري للفيلم، يشكل تسجيل “نيكولاس بريتيل” الصوتي خروجًا عن الاستقراء التقليدي الحساس والمعطاء والحميمي المرتبط بالعديد من التسجيلات الصوتية التي اعتدنا عليها في الكثير من الأفلام. حيث يجري في (مون لايت) استخدام موسيقى مقطعة الأوصال وغير متكاملة، وذلك نزولاً عند اقتراح المخرج “جينكينز”. فنرى أحداث الفيلم تتقاطع مع مزيج جامح و”غير المروض” لموسيقى الهيب هوب الجنوبية، حيث تنحني الأغاني وتنزلق وتتباطأ، لتشتبك من وقت لآخر مع الأصوات الموسيقية لنسخ معدلة جذابة من موسيقى كلاسيكية خاصة، مما يمنحها تأثيرًا أكثر عمقًا وثراءً. والنتيجة، مرة أخرى، صارخة ومؤثرة بقوة.

ويأتي دور المخرج وقدرته على دمج كل هذه العناصر في تنفيذ دقيق لسيناريو مكتوب بشكل جيد وبدون تصنع ليكمل المعادلة التي تعبر عنها مكونات الفيلم الفنية. والأهم في هذا، هي قدرة “جينكينز” على جعلنا نستوعب أهمية الشخصيات التي نحدق بها على الشاشة العريضة، وذلك على الرغم من كونها شخصيات غير مألوفة في سينما هوليوود.

يضيف (مون لايت) إذاً بعدًا جديدًا لمفهوم الواقعية الاجتماعية كممارسة سينمائية، وكإطار لرصد حياة شخصية رئيسة تتقاطع ملامح تكوينها على مفترق خلفيتها المسحوقة طبقيًا، والآتية من أصول إفريقية أميركية، وذات الهوية الجنسية المثلية. ويطال مسار قصة الفيلم ثلاث فترات زمنية متتالية في حياة تلك الشخصية، فينقلنا عبر مراحل الطفولة فالمراهقة فالشباب، لنستكشفها بأسلوب أقرب إلى القصيدة منه إلى الدراما. إذ يصور الفيلم لنا نسخة من الواقع الاجتماعي كما يُرى من خلال عيون بطل شاعر، وبالتالي، ومن خلاله، عبر عيون صانع أفلام شاعر. وعلى هذا النحو، يلتقط الفيلم أبعادًا اجتماعية تفوق التأملات الشعرية الفردية والمعزولة لشخصيته الرئيسة، ويتخذ منها “مثالاً مصغّرًا” (Microcosm) يحكي من خلاله واحدة من قصص قسوة التهميش الاجتماعي في أميركا المعاصرة.

سيناريو الفيلم مقتبس عن قصة غير مؤرخة بعنوان: (تحت ضوء القمر، الفتية السود يتلونون بالأزرق)؛ والتي كتبها “تاريل ألفن ماكريني”، ويتكون من ثلاثة أقسام تصور لقطات عبر ثلاثة لحظات رئيسة في مراحل في حياة “تشيرون”. ومن الواضح توجس (مون لايت) للسياسات ولواقع العنصرية وسوء المعاملة الحكومية والإهمال والبطالة ورهاب المثلية والانعزال والتقوقع الجماعي والمخدرات والفقر، وكيف أثرت على حياة الأميركيين الأفارقة في العقود الثلاثة الأخيرة. لكن الفيلم لا يدعي تقديم حلول لهذا الواقع ويترك الأمر لنا لنتفكر فيه مليًا.

يتناقض (مون لايت) بوضوح وعند كل منعطف مع الصور النمطية التي طالما اقترنت بتجسيد هوليوود للأقليات العنصرية والأثنية والجنسية والجندرية، وكذلك في تجسيدها لأبناء الطبقة العاملة أو الفقراء. ويركز بالمقابل على ربط رسمه لشخصياته عبر رصد تفاصيل تصف السياق الاجتماعي والثقافي للعنف والاغتراب النفسي لأبناء الفئات المهمشة في أميركا الحديثة. على سبيل المثال، فإن “خوان”، معلم “تشيرون” في الطفولة، هو تاجر مخدرات، يجبر على التعامل مع خياراته “الأخلاقية” عندما يدرك أن والدة “تشيرون” هي أحد زبائنه. إلا أن الفيلم يعقد ظاهرة المخدرات داخل المجتمعات السوداء في الولايات المتحدة كقوة مدمرة وكمهرب لا يرتبط فقط باختيارات أخلاقية. فيقدمها كواقع نشأ وتفاقم تاريخيًا كبديل للتهميش الممنهج والمفروض قسريًا بالنهاية على المستويات الاقتصادية والاجتماعية، والذي يشكل مصدرًا لبعض “الحرية الاستهلاكية” و”الاستقلال” في المناطق الحضرية المقموعة والمهملة والمهمشة.

يروي الفيلم قصة “تشيرون”، ويعرض من خلالها سياقًا تاريخيًا للعنصرية الأميركية. يذكرنا ببلد يجرد الأفارقة من هويات أجدادهم الثقافية والحرفية. في أحد المشاهد، يسأل شخص ما “تشيرون”، “من أنت يا رجل ؟”، وكأنه يذكرنا بسؤال طرحه المغني والممثل الإفريقي الأميركي/الناشط الكبير “بول روبسون” ضمن أغنيته: “ماذا تمثل أميركا لي ؟”، في فيلم (قاتل الأغنام). فهذا الفيلم الأيقونة في تاريخ سينما النضال الأميركي الإفريقي ضد العنصرية، يبدو وكأنه مقدمة مباشرة لـ (مون لايت) في تصويره الشعري لمصير الأميركيين من أصول إفريقية. لكن وجهًا رئيسًا لجمال (مون لايت) كفيلم يعود للإبداع الفني في تنفيذه. فاستخدام التصوير الانطباعي وأسلوب التوليف والموسيقى كلها تجذب المشاهد باستمرار إلى عالم وزوايا غير مألوفة من المشاعر الداخلية للبطل. فيصطحبنا الفيلم بالنهاية في رحلة قاسية ومؤلمة، والتي تصر الطبقات الحاكمة في أميركا، (وضمن هوليوود)، على تجاهلها وتهميشها.

النتيجة هي مقاربة سينمائية غير اعتيادية وربما غير مريحة لأولئك الذين لم يعتادوا عليها. إنها مقاربة تهدف إلى مواجهة الفذلكات الوهمية لأدوات الإبهار “الواقعية” الجديدة في السينما، (والتي تصل الآن إلى ارتفاعات تسويقية جديدة مع تأثيرات خاصة أكثر “مثالية”، ونظارات ثلاثية الأبعاد، وحتى المقاعد الهزازة وتجربة المحاكاة). بدلاً من ذلك، يكرم (مون لايت) جماليات تصوير ورصد الملامح التي تسمو بتجسيد ذاتية شخصياتها والموضوع نفسه إلى مستويات: “الواقعية الشعرية”.

يستشهد (مون لايت) بتأثير انطباعي للهوية ليس كتجسيد لأقسام مجتزأة، وإنما كبنية تاريخية اجتماعية وطبقية معيدًا بذلك رسم تعقيدات فكرة الهوية الاجتماعية بحد ذاتها. وفي الوقت الذي يتم فيه استخدام هذه الفكرة ويعاد تصميمها لتحكي قصة عن الكراهية والانقسام، يتخذها الفيلم أيضًا كامتداد لحقائق الواقع العرقي والجنساني والاجتماعي الأوسع. حتى ذكورية شخصية الـ”gangsta” التي يتقمصها “تشيرون” في القسم الثالث من الفيلم، تخفي في الواقع المشاعر الداخلية لبطل الرواية فتبقى هوية واحدة بين كثر، كلها ​​منشغلة بأشكال مختلفة من التهميش التي تؤثرعلى واقع الطبقة العاملة الأميركية اليوم. وفي النهاية، فإن نمط التركيز على ما هو فردي وانطباعي في حياة ورؤية شخصيات الفيلم، يفسح في المجال لما هو أكبر وأكثر التصاقًا بواقع أميركي أوسع بكثير. لذلك، يوفر (مون لايت) بديلاً أصيلاً في إطار تقاليد الأفلام ذات الاهتمامات الاجتماعيةً وأسلوب تعاطيها مع الجوانب العديدة للتهميش الاجتماعي.

ربما كانت النخبة في هوليوود مشوشة في منطق اختيارها لفيلم (مون لايت) في حفل “أوسكار” 2017، لكن النتيجة كانت منعشةً حتمًا.

نقلاً عن موقع “سينماتك”.

أخبار ذات صلة

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب