16 نوفمبر، 2024 5:41 م
Search
Close this search box.

ضباب الخليج .. بين حرب العولمة القادمة ولعبة تجارة الخوف !

ضباب الخليج .. بين حرب العولمة القادمة ولعبة تجارة الخوف !

خاص : كتب – محمد البسفي :

ماذا يحدث في العالم الآن ؟.. سؤال ليس بسهولة الاحتياج إلى بضع رشفات من قهوة الصباح والتأمل في بعض مشاهد الأحداث لكي تشرع في الإجابة عليه مطمئناً هضم كل تلك التطورات والإحداثيات الخبرية التي تجري فوق شريط أنباء المنطقة والعالم اليوم..

مشهد مركب لحد الإرتباك..

عدة أحداث ووقائع شهدتها المنطقة العربية والشرق أوسطية خلال الأسابيع والأيام القليلة الماضية تستحق التأمل بأمتياز من عدة زوايا.. يستهل شهر تشرين ثان/نوفمبر 2017 بحديث متصاعداً عن التنمية في الجزيرة العربية، رغم الإعلان الذي أصدره ملك العربية السعودية المرتقب وولي عهدها الحالي “محمد بن سلمان” في 31 تموز/يوليو الماضي عن إنشاء أضخم مشروع سياحي في جزر البحر الأحمر يقع قبالة شواطئ السعودية، يتضمن منتجعات ومحميات طبيعية ضمن الرؤية الاقتصادية الشاملة للمملكة (2030) لدعم الاقتصاد السعودي، ولكن تأتي استعادة تفاصيل ذلك المشروع الضخم وتحليلات دوافعه الحقيقية في مرآة أغلب الصحافة المصرية والإعلام العربي مع بداية هذا الشهر – تشرين ثان/نوفمبر – مقترنة بما عرف إعلامياً بـ”صفقة القرن”؛ التي تتواتر أخبارها بقوة على ساحة المنطقة في الأسابيع الأخيرة – وإن كانت مازالت في إطار الإشاعات – بين مصر وإسرائيل بإشراف أميركي، ولكن المؤكد أنها صفقة متفائلة التوجه متعددة الأهداف في إحلال السلام ودعم استقرار المنطقة؛ مثال ربط إسرائيل بمشروعات وطرق اتصال خدمية بجيرانها العرب لتسريع التطبيع السياسي والمجتمعي والتبادل التجاري من ناحية والتمهيد لتوطين اللاجئين الفلسطينيين بأرض الشريط الحدودي العازل بشمال سيناء من ناحية أخرى.

في أثناء ذلك ينفجر الوضع السياسي للمنطقة على أثر صاروخ “باليستي” موجه إلى قلب العاصمة السعودية “الرياض” تطلقه جماعة “أنصار الله” الحوثية اليمنية، ضمن الحرب المستعرة منذ سنوات على الميدان اليمني بين الحوثيين وأنصار الرئيس المخلوع “علي عبدالله صالح” من جانب والتحالف العربي الذي تتزعمه العربية السعودية من جانب آخر، ليأتي رد فعل ولي عهد العرش السعودي صادماً سريعاً وحازماً في اتهام إيران بمسؤوليتها المباشرة عن ذلك العدوان السافر، الذي لم يكن الأول من نوعه؛ فقد سبقه عدوان بصاروخ “باليستي” مشابه استهدف مدينة “مكة” خلال شهر تموز/يوليو الماضي، واصفاً “بن سلمان” النوايا الإيرانية تجاه بلاده بـ”حالة حرب”.. وعلى غير إنتظار يقفز “لبنان” إلى ساحة الصراع الإيراني السعودي؛ وذلك حينما ينتهز رئيس الوزراء اللبناني “سعد الحريري” زيارته الرسمية إلى العاصمة السعودية “الرياض” ويخرج على شاشات فضائية سعودية معلناً إستقالة حكومته الشفاهية على الهواء مباشرة؛ معللاً خطوته تلك بهجوم ضاري على “حزب الله” اللبناني كونه الذراع الإيراني القوي المسيطر على الدولة اللبنانية ومعطل لحكومتها ومقحم لبنان فيما لا طائل له به من صراعات دولية، لتعلو الأصوات وتصرخ التصريحات غضباً وتوجساً من أطراف متعددة متداخلة مع تحذيرات وتنبؤات استراتيجية وإعلامية تحاول إستقراء حالة الحرب التي باتت تتلبد بها سماء المنطقة واضعة سيناريوهات متعددة، لم تتوقف – حتى لحظة كتابة هذه السطور – ولا حتى عند تلك الإجراءات، المفاجأة أيضاً، التي أصدرها ولي العهد السعودي “محمد بن سلمان” بتوقيف عدد لا يستهان به من النخبة السياسية وأباطرة الاقتصاد والأعمال في المملكة والمنطقة، ينتمي أغلبهم إلى الأسرة الملكية، لتزداد السماء غيمة جديدة تضاف إلى ضبابية المشهد ارتباكاً..

على جانب آخر من المشهد؛ تنشغل مصر، ولمدة إسبوع تقريباً، بتنظيم فعاليات “منتدى شباب العالم” بمدينة “شرم الشيخ” جنوب سيناء، والذي سبق وأعلن عنه الرئيس “عبدالفتاح السيسي” في نيسان/إبريل الماضي، بدعوة الشباب من مختلف دول العالم للمشاركة بالمنتدى تحت شعار “رسالة سلام وتنمية ومحبة من أرض مصر”، وقد شارك فيه – بحسب ما أعلنته وسائل الإعلام المصرية – نحو 10 آلاف شاب من مختلف الدول عبر 41 جلسة حوارية؛ دارت كلها حول قضايا العولمة وصراع الحضارات ودور الشباب فيها وعبرها وربط كل ذلك بمهام مكافحة الإرهاب..

وقبل أن يمر إسبوعين فقط، وعلى غير إنتظار يشتعل الوضع المعقد لحدود الريبة في شمال سيناء، حينما فوجئ الجميع، يوم 24 تشرين ثان/نوفمبر 2017، بوقوع حادث إرهابي وصف بأنه الأضخم من نوعه على أرض مصر، بحسب وسائل إعلام محلية، وذلك بعدما هاجم عدد من الملثمين، تراوح بين 25 إلى 30 عنصراً من العناصر التكفيرية، يرفعون علم تنظيم “داعش” الإرهابي ويرتدون ملابس عسكرية، المصلين أثناء أداء شعائر صلاة الجمعة داخل “مسجد الروضة” بمنطقة “بئر العبد” شمال سيناء، وقد أتخذوا مواقع من أبواب ونوافذ المسجد بلغت 12 نافذة، وأطلقوا النيران على المصلين، وأكد بيان النائب العام المصري على أن الحادث قد أسفر عن استشهاد 305 مواطن بينهم 27 طفلاً وإصابة 128 آخرين، وفي تقديرات أخرى، طبقاً لشهادات الأهالي، أن ربع سكان منطقة الروضة تقريباً فقدوا جراء تلك المجزرة وأصبحت عشرات المنازل بدون رجال.

لتعلو من جديد أصوات هواجس تهجير أهالي مناطق شمال ووسط سيناء، وتقوى التحذيرات من آليات تنفيذ “صفقة القرن”.. لتأتي وسائل الإعلام الدولية الناطقة بالعربية – بعد أقل من 72 ساعة فقط -، وكأنها تقطع الشك باليقين، مبرزة تصريح مباشر أدلت به وزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية، “غيلا غملئيل”، لإحدى المجلات العبرية، والتي كانت بالمصادفة حين إثارة تلك التصريحات موجودة في مصر لمشاركة فاعليات مؤتمر نسائي تابع للأمم المتحدة، قائلة إن أفضل مكان للفلسطينيين ليقيموا فيه دولتهم هو سيناء. وبالطبع لم يجدي النفي الرسمي من الجانبين المصري والإسرائيلي في التغطية على تلك العواصف والهواجس التي ثارت على مواقع التواصل الاجتماعي أو بين أوساط أبناء سيناء.

ليرتد السؤال الرئيس، مرة أخرى، إلى عقل الراصد جاراً تساؤلات إضافية.. ماذا يحدث بالمنطقة الآن ؟.. وإلى أين تتجه ؟.. إلى “حرب بالوكالة” جديدة يتم استعمال لبنان فيها كمخلب قط في وجه إيران لصالح السعودية ومن وراءها الولايات المتحدة ؟.. أم هي “حرب معولمة” تتجهز لها الرأسمالية العالمية بتسخين بؤر المال والصناعة من دول الأطراف أستعداداً لدخول الدول المتقدمة الكبرى حرب النظام العالمي الحالي هو الأحوج إليها بعد أزماته المتكررة والمستمرة منذ 1998 و2007، بغية إعادة توزيع خريطة الموارد والثروات الطبيعية وتنشيط الخدمات والأسواق المتنوعة ؟.. أم تراها مجرد لعبة “تجارة التهديد والحماية”، والتي إحترفتها الولايات المتحدة منذ عقود الحرب الباردة، تلعبها اليوم مع دول الخليج مستغلة وضع إيران المتحفز الطامح دائماً ؟.. أو هي حرب شاملة لكافة تلك الأهداف؛ بعد أن تسد مصححة لبعض الثغرات والأخطاء الجواستراتيجية عن حقب سابقة ؟!

الزحف المقدس.. عولمة السوبر ماركت..

ربما أصاب المحلل والكاتب الصحافي “عبدالباري عطوان”، جانب كبير من الحقيقة حينما قال أن: “السعوديّة القديمة انتهت، والوهابيّة في النّزع الأخير، إن لم تَكن قد جَرى دفنها في أُمّهات الكُتب والمَراجع كلحظةٍ تاريخيّةٍ، والدّولة السعوديّة الرّابعة، بثوبٍ جديدٍ عَصري، وتحالفاتٍ جديدة تَطل برأسها عندما يُعلن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، ورَجل المَرحلة الذي يُريد أن يكون مُؤسّسها (إن إمداد إيران فصائل اليمن بالصّواريخ يُشكّل عُدوانًا عَسكريًّا مُباشرًا قد يَرقى إلى عَملٍ من أعمال الحَرب)، وذلك في مُكالمةٍ هاتفيّةٍ مع بوريس جونسون، وزير خارجيّة بريطانيا، ويَجد دعمًا ومُساندة من البنتاغون (وزارة الدّفاع الأميركيّة)، ونيكي هيلي، مندوبة الولايات المتحدة في المُنظّمة الأُمميّة، فإن هذا يعني أن تحالفًا يَتبلور في المِنطقة بقيادةٍ أميركيّة”.. فما كان ظهور جماعة مثل “تنظيم الدولة الإسلامية” المعروف إعلامياً وأختصاراً بـ”داعش”، بكل هذا الحجم من القوة والقسوة والعتاد العسكري والدعائي، إلا نقطة “الذروة” في الفكر الوهابي السعودي، التي ما بعدها إلا التهاوي من حالق.. فقد أنتهى دور تلك الإيديولوجية التي تم تصديرها وتشعبها داخل المجتمعات العربية والشرق أوسطية لمحاربة والقضاء على الأفكار التقدمية والمشاريع التنموية منذ أكثر من أربع حقب سابقة، كان نهايتها الإنتفاضات الشعبية التي ثارت ببعض البلدان العربية في 2011.. أنتهى دورها السياسي على مستوى النخب الحاكمة لتٌترك على مستوييها الثقافي والاجتماعي، وربما العسكري أيضاً، تتفاعل بين القواعد الشعبية والمجتمعية تمهيداً للمرحلة الجديدة المقبلة.

مرحلة “العولمة”.. تلك المرحلة التي تأخرت المنطقة كثيراً في دخولها، منذ النصف الثاني من ثمانينيات القرن المنصرم وهي تخطو بحذر وترويٍ على طريقها الممهد لها منذ البداية، فقد بات عليها الآن أن تخوض غماره جرياً وهرولاً علها تعوض بعضاَ من الوقت المفقود..

فلم تكن مفارقة طريفة بقدر ما كان مشهداً صادقاً حينما وقف الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، على منصة “منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ” (آبيك)، في مدينة “دانانغ” وسط فيتنام، قائلاً: “لن نسمح للولايات المتحدة أن تحقق مكاسب تجارية أفضل من غيرها، لكننا نضع دائماً مبدأ أميركا أولاً، أمام أعيننا”. مهاجماً في كلمته، ما وصفه بـ”السرقة الجريئة” لحقوق الملكية الفكرية الأميركية. وقال: “سنواجه الممارسات المدمرة التي تجبر الشركات على تسليم تكنولوجياتها، وإجبارها على إقامة مشروعات مشتركة مقابل الوصول إلى الأسواق”. ليرد عليه الرئيس الصيني “شي جين بينغ” قائلاً: “العولمة باتت إتجاهاً لا رجعة فيه، ويتعين على العالم العمل لجعله أكثر توازناً وشمولية”. وتابع: “الصين ستخفف بشكل كبير القيود المفروضة على الوصول إلى أسواقها، وستتعامل مع جميع الشركات الأجنبية في البلاد، على قدم المساواة”.

“العولمة”.. لغسل السمعة وسد ثغرات التاريخ..

بلا شك إن أردنا التدليل على إنعكاسات المفاهيم المعولمة وتأثيراتها الثقافية على مجتمعاتنا، في حل جميع مشكلات النظام العالمي الحالي، لم نجد أكثر صراحة ومباشرة من تلك الورقة البحثية التي نشرها “مركز دراسات الأمن القومي الإسرائيلي” مؤخراً للباحثين: المصري “مؤمن سالم” والإسرائيلي “أوفير فنتر”، حول مستقبل السلام المصري مع إسرائيل وعن تداعيات التحولات الداخلية لمصر على العلاقات بين القاهرة وتل أبيب، بمناسبة مرور 40 عاماً على المبادرة “التاريخية” التي قام بها الرئيس المصري الراحل “أنور السادات” بزيارة إسرائيل تمهيداً لتوقيع اتفاقية “كامب دافيد”.

يؤكد الباحثان في مقالهما على أن “يرى الكثيرون أن عداء الرأي العام المصري تجاه إسرائيل يمثل عائقاً رئيساً أمام تعزيز السلام بين البلدين, لكن هذا الرأي يحتاج الآن للمراجعة؛ لا سيما فيما يخص جيل الشباب تحت سن الثلاثين الذين يشكلون 60% من مجموع سكان مصر. لقد واجه “السادات”، بعد زيارته للقدس، معارضة شديدة من جانب “الإخوان المسلمين” والأحزاب الناصرية والماركسية داخل مصر؛ وكذلك من “جبهة الرفض العربية” بقيادة العراق وليبيا وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. فسياسته التصالحية أدت إلى قيام معارضة واسعة في الداخل والخارج, مُستندة إلى الأفكار القومية والعروبية والدينية الإسلامية، وأعلنت عن مناهضتها للسلام مع إسرائيل, فضلاً عن تطبيع العلاقات”.

متابعين: “لكن الثورتين الأخيرتين اللتين شهدتهما مصر في الـ 25 من كانون ثان/يناير 2011؛ والـ 30 من حزيران/يونيو 2013، قد خلقتا حراكاً جديداً يحمل في طياته إمكانية حدوث تغيير تاريخي إيجابي لدى الرأي العام المصري – لا سيما بين الشباب – فيما يخص السلام والتطبيع مع إسرائيل. علماً بأن التحولات الأخيرة في مصر أدت إلى قيام “ثورة ثقافية” داخل المجتمع المصري, مثل حالات خلع الحجاب وارتفاع نسبة الملحدين والإعلان عن حالات الشواذ من الجنسين. بالإضافة إلى تآكل الهوية العربية والإسلامية لصالح الهوية المصرية والإنسانية. وتحرُر الشبان والفتيات من القيود الأسرية, وإقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج والأكثر من ذلك انهيار الحكم الأبوي والسلطوي بكل جوانبه الاجتماعية والسياسية والدينية”.

أدت الثورتان الأخيرتان في مصر – بحسب الباحثين المصري والإسرائيلي – إلى خلق جيل من الشباب ذوي التوجه الليبرالي العلماني, الذي لا يخشى مواجهة الآباء والاعتراض على مسلمات الماضي، حتى وإن كانت قومية أو دينية أو اجتماعية. وهذه التحولات الاجتماعية والثقافية تلقي بظلالها على عقلية جيل الشباب في مصر، حتى فيما يتعلق بالعلاقات مع إسرائيل.

ويواصل الباحثان: “إن جيل الآباء غرس في الأبناء كراهية إسرائيل عبر تلقين شعارات القومية العربية، التي كانت تبثها أجهزة الإعلام والدعاية الناصرية في الخمسينيات والستينيات. وتلقى الأبناء تلك الشعارات دون نقاش أو تفكر من منطلق الاحترام لمقام الآباء. لكن تلك الأجواء تغيرت تماماً مع تدهور الحالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشباب، الذين رأوا أن الآباء يخنعون للسلطة ويخشون مواجهتها بل إنهم يتحدون مع السلطة ضد أبنائهم. فتمرد جيل الشباب على نظام الحكم والمناصرين له حتى لو كانوا آباءهم. وهذا الصدام بين الأجيال دفعت الشباب لمراجعة كل الموروثات الاجتماعية والفكرية بما في ذلك كراهية إسرائيل, لأن جيل الشباب أصبح يتبنى مواقف واقعية وعقلانية مقارنة بأبائهم الذين تربوا على الدعاية الكاذبة والتحريضية … إن ظهور جيل الشباب العلماني والليبرالي في مصر، الذي يرفض القومية العربية والنظام الإسلامي ويتقبل السلام مع إسرائيل, بات يمثل فرصة جيدة لتعزيز العلاقات بين الشعبين المصري والإسرائيلي”.

وبرغم مستويات الاختلاف أو الاتفاق مع هذه الرؤية التي يسوقها باحثين أحدهما مصري والآخر إسرائيلي، إلا ولا يستطيع أحد نكران اقترابهما بنسبة كبيرة، أو معقولة، من حقيقة الوضع العربي، وربما واقع دول العالم الثالث بأسره، بالطبع مع عدم أغفال عوامل أخرى أكثر تأثيراً وفاعلية من أهمها أن كل بلد أو حتى إقليم أصبح لديه مشاكله واحتياجاته التي بدت مستعصية لدرجة اليأس من الحل.. فانتهاج مدارس التفكيكية والفوضوية فلسفياً وتطبيق مخرجاتها وتوفيقاتها في تناول مشاكلنا الاجتماعية والثقافية، مع غياب كامل لأي مشروع حضاري جامع، باتت هي القاعدة الاجتماعية التي يبني عليها النظام العالمي الحالي جميع مصالحه ويعالج بها جميع مشاكله وعثراته، رغم التناقضات الموضوعية التي أفرزتها منظومة العولمة من تزكيه المشاعر الفئوية والنعرات الطائفية والمذهبية حتي أصبحت الآن هي المقياس الشعبوي الغالب لدى الكثير من جماهير العالم الثالث وربما أيضاً العالم بأسره، فمن الطبيعي إذاً أن نجد أحد المواطنين العراقيين، (الأكراد)، يعلق على إحدى الأخبار الجارية عن مدى استفادة إسرائيل من مواجهة الغرب وأميركا لإيران حالياً، على “السوسيال ميديا”، بقوله: “خلي العرب يخلصوا من الهجمة الإيرانية وبعدها فكروا بإستفادة إسرائيل.. إيران أحتلت الوطن العربي، وأنتم تتهمون إسرائيل أنها محتلة فلسطين، هي أرضهم التي ولدوا فيها وتعبدوا عليها، فلم يولد محمد فيها بل أنبيائهم ولدا فيها” (!!).. هكذا أصبح التناول الشعبي لجميع القضايا الإجتماعية والتاريخية بل والمصيرية، بالمنظار الطائفي والديني والمذهبي بعد “تفكيك” جميع القضايا وتفريغ مضامينها العادلة بخلط الحقائق والوقائع والتاريخ ذاته !

بين حرب الثمار الطازجة ولعبة “تجارة التهديد والحماية”..

في إحدى هوامش دراسة (العولمة الجديدة.. أبعادها وانعكاساتها)، يذكر “د. حسين علي إبراهيم الفلاحي” أن أولى الحروب العسكرية التي يمكننها تسميتها بـ”حروب العولمة”؛ هي تلك الحرب التي تم شنها ضد العراق في فجر يوم 20 آذار/مارس 2003، “إذ قادت الولايات المتحدة الأميركية (وبعد فشلها في الحصول على موافقة مجلس الأمن) تحالفاً دولياً يضمها إلى جانب بريطانيا وأستراليا ودولاً أخرى في حملة أطلق عليها من قبل التحالف المذكور اسم حرب تحرير العراق (حرية العراق)، أفضت إلى إسقاط نظام الرئيس صدام حسين باحتلال القوات الأميركية العاصمة بغداد يوم 9/4/2003”.

والآن.. وبنظرة واحدة على اقتصاديات الدول الكبرى وميزان إنتاجيات الصناعة والتكنولوجيا بينها، بالإضافة إلى عوامل أخرى أبرزها الصعود السياسي لليمين المتطرف والمحافظ داخل مكوناتها الحاكمة، كتناقض موضوعي تفرزه آليات العولمة على مدار عقودها السابقة، نجد أن النظام العالمي الحالي في أحوج لحظاته لنشوب حرب كبرى تستهدف إعادة توزيع خريطة الثروات الطبيعية وتقاسم الأسواق والنفوذ بجانب تنشيط منتجات الأسواق “القذرة” أو الاقتصاد الأسود على هامش ترويج الصناعات الكبرى.

يقول الكاتب “عبدالباري عطوان”، في تحليل حاول خلاله رسم خريطة طريق للأزمة المحتقنة حالياً بالمنطقة، “حتى نَعرف مدى جِديّة أو خُطورة أيّ أزمة، أو تحرّكاتٍ سياسيّة، أو عسكريّة لافتة في أيِّ مِنطقةً في العالم، علينا أن نُراقب أسعار الطّاقة (النّفط والغاز)، وحركة البورصات والأسواق الماليّة هُبوطًاً أو صُعودًا، وهذا هو التيرمومتر الأهم والأكثر دِقّةً في العالم الرأسمالي الغَربي على الأقل”. مستطرداً: “أسعار النّفط وَصلت اليوم إلى أعلى مُعدّلاتها منذ عامين، أمّا البورصات الخليجيّة فقد واصلت التّراجع بشكلٍ لافت، والسعوديّة بالذّات خَسرت اليوم حوالي 3 بالمئة من قيمتها، وحركة البَيع فاقت حَركة الشّراء، وهذا وما زِلنا على الشاطِئ، ولم تُبحر أشرعةُ الحَرب بَعد”.

وفي حديث سابق لنا مع الخبير والمحلل الاقتصادي “مجدي عبدالهادي”، عن مدى تأثر دول العالم النامي ودول الخليج بأزمة سياسات النيوليبرالية الاقتصادية ومدى إنعكاسها على تلك الدول كلاً حسب جغرافيته ومقدراته، فيوضح أنه “لا يمكن وضع إندونيسيا وماليزيا ومصر في كفة واحدة مع دول الخليج، كما لا يمكن وضع مصر في كفة واحدة مع إندونيسيا وماليزيا.. هناك إعتبارات وفروق كثيرة تحدد إحتمالات التوظيف والمواقع المحتمة لكل دولة في النظام العالمي وضمن تقسيم العمل الدولي، ومن هذه الإعتبارات حجم الدولة سكانياً وحجم سوقها الفعلي الناتج عن التفاعل بين حجم سكانه وحجم دخلها وشكل توزيعه، وبالطبع طبيعة مواردها، وطبيعة هياكلها الإنتاجية القائمة وقدراتها على تحويل الموارد الطبيعة لمنتوجات إقتصادية وموقعها الجيوسياسية وعلاقاتها وإطاراتها الثقافية”. ويتابع “عبدالهادي”: “وتقسيم العمل الدولي الجديد يتسم بعدة سمات، أهمها: تصدير الصناعات التقليدية والملوثة للبيئة ومنخفضة القيمة المضافة للبلدان المتخلفة والفقيرة، واحتفاظ المراكز الرأسمالية بالصناعات المتقدمة عالية القيمة المضافة، واستمرار أغلب الرأسماليات المتخلفة كرأسماليات طرفية في ذيل سلاسل إنتاج القيم الصناعية على المستوى العالمي، والإستفادة من إنخفاض الأجور في تلك الدول، فضلاً عن إستغلالها كآداة ضغط على أجور عمال المراكز الرأسمالية كما هو الحال منذ منتصف السبعينيات، وهو ما يتحقق بمساندة الديكتاتوريات في الأطراف وتفريغ الديموقراطية من مضمونها في المراكز، وفي الحالتين تدمير النقابات كلياً في الأولى وجزئياً في الثانية”.

تعليقاً على المشروعات التنموية الطموحة داخل المملكة العربية السعودية والخروج بها من تحت سطوة النفط، والتي يتبناها ولي العهد الأمير “محمد بن سلمان” تحت شعار “رؤية 2030″، ويتردد صداها خارج الخليج، في مصر كمثال، يقول الدكتور “أسامة عبدالرحمن”، المستشار السابق في وزارة التعليم العالي بالمملكة العربية السعودية، إن معظم منطلقات التنمية في دول المنطقة عشوائية ومبتورة، وهي ترسخ يومًا بعد يوم حلقات التبعية بدلًا من خلق القدرة الإنتاجية الذاتية، واستئصال التخلف وتحقيق التنمية الشاملة، وإدارة التنمية تُمارس دورًا في أغلبه عشوائي قاصر في تحقيق ما ترمي إليه، ولم تتمكن من بناء مقومات داخليًا أو منهجًا واضحًا لتحقيقها.

وفي البحرين خلال الفترة 24: 26 كانون أول/ديسمبر 1980، أرتكزت ندوة التنمية – وهي ملتقى فكري وعلمي لأبناء المنطقة العربية – على مسحة التشاؤم التي سيطرت على أجواء اللقاء السنوي في عهده الثاني حول إدارة التنمية في دول الجزيرة العربية المنتجة للنفط. وكان نتاج هذا اللقاء أن البنيان الاقتصادي لدول الجزيرة العربية المنتجة للنفط هو بنيان تبعي مرتكز على مصدر واحد قابل للنضوب؛ إضافة إلى الأطماع والضغوط الخارجية المحيطة بالمنطقة العربية فضلًا عن إنعدام الجهد المكثف والجاد لكسر حلقات التخلف والتبعية السياسية والاقتصادية لدول الأقطاب الغربية ناهيك عن المنطلقات المغلوطة للتنمية وما ينجم عنها من ضعف إنجازات التنمية في تلك الدول.

كانت هذه الندوة، التي عقدت في ثمانينيات القرن الماضي؛ مفتاحًا للحديث الذي دار في أروقة منتدى العلاقات العربية والدولية بمشاركة معهد قطر لأبحاث الطاقة والبيئة تحت عنوان: (ذروة النفط: التحديات والفرص أمام دول الخليج) خلال الفترة بين 3 – 4 نيسان/إبريل 2013، بالحي الثقافي “كتارا” بمدينة الدوحة في قطر، وشارك فيه نخبة من العلماء والباحثين في مجالات التاريخ والاقتصاد والسياسة، إلى جانب عدد من التقنيين والمهندسين، والتي انتقل النقاش خلالها إلى الدولة الريعية وذروة النفط، التي يرجع مفهومها في الأساس إلى الدكتور “ماريون كينغ هوبرت”، وهو عالم جيولوجي وجيوفيزيائي نشر عام 1956 بحثًاً عرض فيه مسألة ذروة النفط، وإنطلاقًا من نظريته لابد من أن تقترن رؤية “بن سلمان” بالبحث الدائم عن التكنولوجيا كبديل شرعي للنفط، وللوصول لمثل هذه النقطة لابد من تغيير بنيوي اقتصادي قائم على الانفتاح المشروط على العولمة، وبنية رأسمالية قائمة على الملكية الاقتصادية وتنظيم المشاريع، بما في ذلك دور الدولة في ملكية القطاع التجاري وتنظيمه على حد سواء، وسيطرة الدولة المحكمة على النخب التجارية.

وبلهجة أخرى، أكثر مباشرة، يقول الكاتب الصحافي الراحل “محمد حسنين هيكل”، في معرض تحليله الموسع لأزمة وحرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت)، “إن دول الخليج المنتجة للبترول كلها دول ذات طابع خاص، لعبت فيها مصادفات الجغرافيا دوراً أسطورياً. فهي جميعاً دول قليلة السكان، وبالتالي فإن قدرتها الإستيعابية لاستثمار عوائدها في بلادها محدودة، ومن ثم فإن فوائضها المالية متناهية.

“وعندما قفزت الأسعار بعد حرب البترول الأولى (تشرين أول/أكتوبر 1973)، وعندما عادت القفزة في الأسعار تعيد نفسها مرة أخرى على نحو أكبر عند بواكير حرب البترول الثانية (من الثورة الإسلامية في إيران سنة 1978 حتى الحرب العراقية الإيرانية سنة 1980) – استطاعت الدول الصناعية أن تستوعب الفوائض لأنها وضعت سياسة ذكية لتدويرها، أو في الحقيقة إمتصاصها … نشطت تجارة السلاح لغير عدو، وزادت معدلات الإستهلاك المستورد من الخارج لغير حاجة، ووضعت القيود على حركة المال بنظم من نوع سندات الخزانة المرهونة بغير ضرورة للرهن – والحاصل أنها كانت جميعاً وسائل لإستعادة المال خصوصاً وقد فاض عن احتياجات من وصل المال إليهم.. لقد عجزوا عن استخدامه واستباحه الآخرون”.   

وبالعودة إلى واقع المشهد العالمي الحالي، وما يترتب عليه من ردود فعل تتيح الفرص للآلة العسكرية أن تحتشد وتعمل، نجد أن أقرب السيناريوهات إليه هي التي تنبأ بها “عطوان”، حينما قال:

“أولاً: بِدء صِدام عَسكري سُعودي إيراني على أرضيّة حِصار اليمن الخانق، وإغلاق السعوديّة كل المَنافذ البريّة والجويّة والبَحريّة اليمنيّة تحت ذَريعة سَد الثّغرات، ومَنع وصول الصّواريخ الإيرانيّة إلى الحوثيين.

ثانيًا: تكوين حِلف جَديد على طَريق حِلف عاصفة الصّحراء الذي أسّسه الجنرال شوارسكوف لإخراج القوّات العِراقيّة من الكويت عام 1990، والدّول المُرشّحة للانضمام إلى هذا التّحالف العَسكري إلى جانب السعوديّة هي الإمارات والأردن، ومصر، والسودان، والمغرب.

ثالثًا: قَصف لبنان، وتدمير بُناه التحتيّة تحت ذريعة مُحاولة إجتثاث “حزب الله”، وقد يَرد الحزب بقَصف دولة الاحتلال الإسرائيلي بآلاف الصّواريخ، وهُنا سَيكون احتمال التدخّل الإيراني والسّوري أكبر من أيِّ وقتٍ مَضى.

رابعًا: اجتياح دولة قطر بقوّاتٍ مِصريٍة إماراتيّة سعوديّة، وتغيير النّظام في الدوحة، والاشتباك مع القوّات التركيّة التي وَصل تِعدادها إلى أكثر من 30 ألف جندي بعَتادهم الثّقيل، ويبدو أن الرئيس “رجب طيب أردوغان” أستشعر هذا الخَطر، ولهذا أوفد وزير دفاعه “نور الدين كنكيلي” إلى الدوحة في زيارةٍ غير مُبرمجة، ولن يَمنع هذا الإجتياح إلا حُدوث تغييرٍ مُفاجِئ في المَوقف القَطري بضَغطٍ أميركي.

خامسًا: هُجوم مُضاد أميركي إسرائيلي سعودي في سورية، وإعادة السّيطرة على مناطق خَسرها حُلفاء أميركا فيها، مثل حلب وحمص ودير الزور، فأميركا لن تَغفر بسهولة هَزيمتها أمام روسيا وإيران، ولكن أيّ تدخّل أميركي إسرائيلي في سورية ربّما لن يَمر دون الصّدام مع روسيا، وفي هذه الحالة علينا تَوقّع حربًا عالميّة، وأميركا هي التي أفشلت مؤتمر الحِوار الوطني السوري في سوتشي الذي دَعت إليه موسكو، عندما طلَبت من المُعارضة السوريّة المُقاطعة.

سادسًا: تحريك الميليشيات الكرديّة في أربيل وشمال سورية، وتَوريطها في هذهِ الحُروب إلى جانب أميركا لإستنزاف كل من إيران وتركيا والعراق، وإغراقها في حُروبٍ أهليّةٍ داخليّة”.

ورغم كل ذلك يوجد سيناريو آخر لا يمكن لأي راصد أو متابع إغفاله، خاصة مع شخصية مضطربة شديدة البراغماتية متطرفة النفعية، تضاف إلى القدر الوافر من البراغماتية والتطرف لسياسات بلاده المعهودة، مثل شخصية الرئيس الأميركي الحالي “دونالد ترامب”، والذي يدير سياسات بلاده بمنطق رجل الأعمال الذي لا يرى لبلاده سوى مقياس المكسب والخسارة فقط، ومع هذه الملابسات وتلك الشخصية لا يجب أن تتوارى لعبة “تجارة التهديد والحماية” عن المشهد الدولي الراهن.. هذه اللعبة التي أعتبرها “حسنين هيكل”، ضريبة “النموذج الخطر في العلاقة المعقدة بين الثروة والقوة؛ وهو نموذج الدولة نادرة التعداد والمتخمة بالموارد”.

والمتمثلة في دول الخليج المتخمة بثرواتها النفطية، القابلة للنضوب، وفي نفس الوقت في احتياج دائم للقوة حماية لأمنها وثرواتها الطبيعية، واللاهثة دوماً وراء مصادر وأدوات تلك القوة المرجوة، فتعددت مظاهر ذلك الإحتياج لتدور داخل دوائر “لعبة تجارة التهديد والحماية”، كما يشرح “هيكل”، قائلاً: “وقد أتسعت تجارة التهديد والحماية، فأصبحت من أكبر الظواهر في النظام الدولي المعاصر. فالولايات المتحدة الأميركية كانت تبيع لألمانيا الغربية (قبل الوحدة) خطر التهديد المتمثل في الاتحاد السوفياتي، وكانت ألمانيا تدفع. ونفس الخطر المتمثل في التهديد السوفياتي كانت الولايات المتحدة تبيعه لليابان، وكانت اليابان تدفع … وكان الدور الذي تقوم به إسرائيل في الشرق الأوسط نموذجاً متطوراً ومركباً في تجارة التهديد والحماية … وحينما كان خطر التهديد بإسرائيل يثقل على العرب فإنه – وهذا ما حدث فعلاً – كان يدفعهم دفعاً إلى الإلتجاء بأنفسهم إلى الولايات المتحدة تبيع لهم نوعاً من الحماية، بينما هي التي باعت لإسرائيل أدوات التهديد الأصلية”.

فهل دخلت “إيران” إلى دائرة تلك اللعبة متخذة دور “التهديد” بجوار إسرائيل ؟.. ليضاف إلى ليل الفزع الخليجي شبحاً إضافياً.. سؤال ربما تكشفه وقائع الأيام والأشهر القادمة.

المصادر:

  • “مشروع نيوم السعودي بين البيروقراطية النفطية ومعضلة الأمن الإقليمي” – عبدالله المصري – مركز البديل للتخطيط والدراسات الاستراتيجية – بتاريخ 2 تشرين ثان/نوفمبر 2017.

https://elbadil-pss.org/2017/11/02/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D9%86%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D9%88%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7/

  • مقال: “اسمعونا جيّدًا” – عبدالباري عطوان – صحيفة “الرأي اليوم” – بتاريخ 7 تشرين ثان/نوفمبر 2017.

http://www.raialyoum.com/?p=774722

  • “في ذكرى زيارة السادات للقدس” – ترجمة: سعد عبد العزيز – صحيفة “كتابات” – بتاريخ 8 تشرين ثان/نوفمبر 2017.

goo.gl/N2goSJ

  • “العولمة الجديدة.. أبعادها وانعكاساتها” – د. حسين علي إبراهيم الفلاحي.
  • “حرب الخليج.. أوهام القوة والنصر” – محمد حسنين هيكل” – مركز الأهرام للترجمة والنشر – الطبعة الأولى 1992.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة