23 ديسمبر، 2024 1:03 م

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (10) .. الحرب بالوكالة وخصخصة الجيوش !

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (10) .. الحرب بالوكالة وخصخصة الجيوش !

خاص : كتب – محمد البسفي :

“.. بصرف النظر عن كل ما يقوله الآخرون، فإن الاستعمار رسالة إنسانية تستحق عرفان البشر جميعًا وتقديرهم لفضلها. وإنه لمن السُخف أن يفكر أحد في منح الاستقلال لشعوب لا تستطيع، وليست مؤهلة لإقامة حكومات مستقلة”.

ونستون تشرشل

رئيس وزراء إنكلترا خلال اجتماع خاص مع “دوايت إيزنهاور”، رئيس الولايات المتحدة، عقب الحرب العالمية الثانية..

ويستمر سقوط تبعية “الشيك على بياض”..

بلا شك أن أقل نظرة متفحصة لتحليل الأوضاع الراهنة المْشَكلة لمسرح الأحداث الدولية اليوم؛ يجب أن تجتر ما حمله عقد السبعينيات، من القرن الماضي، في أحشائه من وقائع وممارسات نحتت ملامح كثيرة من واقعنا في مشهدنا العالمي الراهن، سواءً داخل واقع دول العالم الثالث عمومًا أو ضمن أحداث المشهد المصري خاصة.. وكما أكدت العديد من الدراسات التأريخية والتحليلية لتلك الحقبة بأنه منذ اللحظة الأولى التي اُختير لها أن تتوقف “الآلة العسكرية” عن الفعل والعمل في حرب تشرين أول/أكتوبر 1973، أصبح “أمن النظام” و”أمن الرئيس”، في “مصر السادات”، قضية أساسية وحيوية لضمان استمرار سياسات مستجدة طرأت على الظروف التي أحاطت بالأسبوع الثاني من حرب تشرين أول/أكتوبر وتداعياتها.

وبأي حال، عند التعرض لتحليل وسرد وقائع تلك الفترة الخصبة بالتحولات والتناقضات، لا غنى عن شهادات ورؤى شخصية في حجم، “محمد حسنين هيكل”، ليس لما له من أهمية صحافية تفردت بوفرة المعلومات فحسب؛ ولكن لما تمتع به كـ”رجل دولة” بمهارات مهنية حرص على توثيق معلوماته ومشاهداته الشخصية ومشاركاته الحدثية مستنديًا، فضلاً عن إطلاعاته على “كواليس” كثيرة مازالت تتحكم وتفسر الكثير من علامات تعجب تعاصرنا حاليًا..   

يؤكد الصحافي المصري، “حسنين هيكل”، على أنه جرى طرح موضوع “الأمن” و”التأمين” للمرة الأولى أثناء اجتماع بين الرئيس، “أنور السادات”، وبين وزير الخارجية الأميركي، “هنري كيسنغر”، في “استراحة أسوان”، يوم 6 تشرين ثان/نوفمبر 1973، وكان تقدير الرجلين معًا أن التحولات الكبرى في “مصر” والسياسات المستجدة على إستراتيجيتها بعد حرب (تشرين أول) أكتوبر – تقتضي إجراءات حماية واسعة للرئيس وللنظام، حتى تتمكن تلك التحولات وتترسخ !!

وكان المدخل إلى طرح موضوع “الأمن” و”التأمين” – أن الرئيس “السادات” توصل إلى قناعات نهائية في قراءته لشكل المستقبل في “مصر” – وهو مقتنع كل الإقتناع بموجباتها – وقد طرح وجهة نظره فيها بطريقة قاطعة:

1 – إن المستقبل لـ”أميركا”، وهو يريد أن تكون “مصر” في هذا المستقبل مع “أميركا” وليس مع غيرها.

2 – أنه ترتيبًا على ذلك؛ فإنه سوف يتخذ في سياساته الدولية والعربية منهجًا يختلف عما جرت عليه السياسة المصرية من قبل.

3 – ثم إنه وبمقتضى اختياراته بعد حرب (تشرين أول) أكتوبر – على استعداد من الآن للتحرك نحو سياساته الجديدة وحده، دون انتظار بقية “العالم العربي”، ثم إنه سوف يصطف مع “الولايات المتحدة” في مواجهة “السوفييت”.

4 – وهو، بالتوازي مع ذلك، يعتبر أن حرب (تشرين أول) أكتوبر 1973 – ضد “إسرائيل”، هي آخر حروب “مصر” معها، وذلك سوف يجري إعتماده وإعلانه تأكيدًا نهائيًا للسياسات الجديدة.

5 – وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن تصوره للتطور الاجتماعي المصري سوف يختلف عن تصورات سلفه، عن يقين لديه بأن متغيرات العالم تثبت أن المستقبل لـ”الرأسمالية”.

ولأول وهلة تبدى لـ”كيسنغر” أن تلك سياسات تتجاوز الحقائق الراهنة في “مصر”، وربما تتصادم معها، وساوره الشك في قدرة الرئيس “السادات” عليها.

وبرغم ذلك، كما يوضح “هيكل”؛ حمل “هنري كيسنغر” معه إلى “واشنطن” ما سمعه من الرئيس “السادات” وهناك جرى بحثه، وعاد مرة أخرى إلى مصر يوم 12 كانون ثان/يناير 1974، والتقى الرئيس “السادات” في استراحة الرئاسة وراء “خزان أسوان” القديم.

وكان الرئيس “السادات” مازال على موقفه، وكان “كيسنغر” جاهزًا بخطة أمن رآها ضرورية للرجل المقبل على مخاطر تحول أساس في إتجاه “مصر”، وللإستراتيجية الجديدة التي تحمل مسؤولية سياساتها.

وعرض “كيسنغر”، في هذا الاجتماع الثاني، على الرئيس “السادات”، خطة أمن وتأمين يتم تنفيذها على ثلاثة محاور :

1 – الأمن الشخصي للرئيس، وهو يقتضي إعادة تنظيم حراسة أماكن إقامته في أي مكان وأي وقت.

2 – والأمن الإقليمي للدولة في حركتها على الخطوط الإستراتيجية الجديدة، وهي تشمل عنصرين :

  • أن تكون “البلد”، The County، تحت مظلة منظومة الدفاع الإقليمي التي تشرف عليها “القيادة المركزية الأميركية” المكلفة بالدفاع عن الشرق الأوسط.
  • وأن تتواكب مع هذه المظلة العسكرية، مظلة أمنية هي شبكة المخابرات الكبرى في المنطقة، التي تتلاقى في إطارها جهود الوكالتين الرئيستين؛ وهما :
  • “وكالة المخابرات المركزية الأميركية” العاملة مع “مجلس الأمن القومي” في البيت الأبيض.
  • ثم “وكالة الأمن الوطني” العاملة في إطاره “وزارة الدفاع الأميركية”، وهي وكالة S.A-National Security Agency، وكذلك يكون الغطاء شاملاً – مدنيًا وعسكريًا – عابرًا للحدود بين الدول، نافذًا إلى العمق داخل هذه الدول.

وبالفعل فإن “هنري كيسنغر”، بعد سفره من أسوان بعشرة أيام، بعث إلى وزير الخارجية السيد، “إسماعيل فهمي”، برقية شفرية لإبلاغه أن بعثة على مستوى فني متقدم سوف تجيء إلى “القاهرة” لوضع خطة كاملة لتأمين الرئيس، (ولم تكن هذه المسألة من اختصاص وزير الخارجية المصري، لكنه وقد حضر جانبًا من اجتماع أسوان الذي عرض فيه الموضوع – كان هو الطرف الذي آثر “كيسنغر” أن يوجه إليه الرد، وفي الحقيقة فإنه كان يجب أن يوجه إلى السيد، “حافظ إسماعيل”، (مستشار الأمن القومي والمسؤول عن نظام العمل في الرئاسة)، لكن “حافظ إسماعيل” لم يكن حاضرًا ذلك الاجتماع في أسوان).

وكان نص رسالة “كيسنغر”؛ التي تسلمها “إسماعيل فهمي” :

وزارة الخارجية – واشنطن

مكتب الوزير

سري للغاية

28 (كانون ثان) يناير 1974

رسالة من وزير الخارجية “كيسنغر” إلى الرئيس “السادات” عبر وزير الخارجية “فهمي”.

نص الرسالة:

بالنسبة للمشاورات التي دارت بيننا حين تناقشنا حول مسألة أمنكم الشخصي، فنحن على استعداد لإرسال فريق الخبراء التالي إلى القاهرة فورًا :

“جورج ك. كيثان” Keithan – وهو خبير في شؤون الحماية الشخصية.

“بول لويس” Paul Lewis – وهو خبير في شؤون مقاومة التنصت.

“هيو وارد” Hugh Ward – وهو متخصص في تدريب المسؤولين عن الحماية الشخصية.

وإلى جانب ذلك؛ فإن خبيرًا في الأمن المباشر وفي كشف المتفجرات سوف يلحق بالفريق بعد أيام قليلة، بالإضافة إلى ذلك فنحن نقترح أن نرسل فريقًا آخر برئاسة المستر، “آلان د. وولف” Alan D. Wolf، وهو متخصص في شؤون المخابرات، وإذا وافق الرئيس “السادات” فإننا نريد الحاقه ببعثة رعاية المصالح الأميركية في القاهرة، والغرض من قدومه هذه المرة هو أن يتاح لخبرائكم في الأمن الفرصة للقائه ومناقشة مقترحاته للتأكد من قبولكم لها.

إننا ننوي إرسال هذا الفريق بسرعة إلى القاهرة وفي موعد لا يتجاوز 2 (شباط) فبراير، وإذا رأيتم موعدًا أنسب فإننا بالطبع على استعداد للتلاؤم مع رغباتكم.

هنري كيسنغر (1).

وتقاطرت على “مصر” وفود من خبراء الأمن، وظل بعضها في “مصر” لمدة سنتين، تم أثناءها وضع الخطط اللازمة لهذا الجزء من خطة الأمن، وهو المتعلق بالحماية الشخصية للرئيس، والإشراف على تطبيقها عمليًا، ثم وضع ترتيبات دائمة لأمن الرئيس.

وكان البند الثاني في خطة “الأمن” و”التأمين”؛ ربط “أمن النظام” بمؤسسات الأمن والتأمين الإقليمية لـ”الولايات المتحدة الأميركية”، والتي تضم “شبكة القيادة المركزية الأميركية” في الشرق الأوسط و”وكالة المخابرات السياسية”، (C.I.A)، و”وكالة الأمن الوطني” التابعة لـ”وزارة الدفاع الأميركي”، (N.S.A).

حول هذا الاتفاق يدلي الصحافي الأميركي؛ الذي أشتهر بنفاذة مصادره ومدى وثوق قربها من الإدارات الأميركية المتعاقبة، “بوب وودوارد”، بمعلومات عامرة بالتفاصيل؛ قد أجملها أيضًا في تلميحات معلوماتية دالة، في كتابه (البرقع أو الحجاب-The Veil)؛ قائلاً: “لقد أوضحت عملية الدعم الأمني والمخابراتي للرئيس الراحل «أنور السادات» ميزات وعيوب هذه النوعية من العلاقات السرية. لقد وصل «السادات» إلى الحكم عام 1970، وبعدها بعامين أطاح بالروس خارج مصر، وبعد سنتين أعدت الـ (C.I.A) واحدًا من أقوى برامجها للحماية الشخصية والمساعدة الاستخباراتية. في المقام الأول أرادت الولايات المتحدة أولاً أن يبقى «السادات» على قيد الحياة. وثانيًا أرادت تحصيل أكبر ما يمكن للمعلومات عن «السادات»، وعن سياسات ومناورات القصر، وكان هناك طوفان من تلك المعلومات وبعضه غير ذي قيمة، ولكن كانت هناك حالة إنتعاش في الـ (C.I.A) بالحصول على مصادر موثوقة، وعمل جداول لنزوات وطموحات وسياسات العشرات من الوزراء ونواب الوزراء”.

“لم يكن هناك تقييم كافٍ لما تحصل عليه المخابرات، فقد غلب الكم على الكيف، بتدفق هذا الكم الغزير من المعلومات، وتحول العمل السري للمخابرات إلى إدمان، وفي أوقات معينة بدا أن الأمر يستحيل تقييمه ويصعب تصنيفه، وكلما زادت المعلومات التي تعرفها الـ (C.I.A) كلما قل ما يمكن الاستفادة به منها، لقد استخدم قادة مثل «السادات» هذه العمليات المخابراتية باعتبارها مرتكزًا ومتكأً، يؤمن لهم بابًا خلفيًا لحكومة الولايات المتحدة، وهي طريقة للإلتفاف حول القنوات الدبلوماسية المعتادة، وطلب معلومات خاصة من الـ (C.I.A) وخدمات مختلفة، أو حتى اعتمادات مالية”.

أما عن اللحظة الدامية وشديدة الحساسية، لمنظومة الأمن والتأمين الأميركية، التي شهدها العالم بأسره في ظهيرة يوم السادس من تشرين أول/أكتوبر 1981 بقتل الرئيس المصري، “أنور السادات”، على الهواء مباشرة.. يوضح “بوب وودوارد” وقع تلك اللحظة من داخل كواليس الإدارة الأميركية، قائلاً: “في 6 (تشرين أول) أكتوبر تلقى «كايسي» Casey، («ويليام كايسي» رئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية)، تقريرًا عاجلاً بأن الرئيس المصري السادات تعرض لإطلاق النار أثناء مشاهدته العرض العسكري، وعلى مدى ثلاث ساعات كررت التقارير الصادرة من محطة وكالة المخابرات المركزية في القاهرة الخط الرسمي للحكومة المصرية بأن إصابة «السادات» ليست خطيرة، على الرغم من أن التليفزيون الأميركي كان يبث تقارير تقول أن الرئيس المصري قد مات.

“وبعد قرابة ثلاث ساعات من التقرير الأول ليوم 6 (تشرين أول) أكتوبر؛ أكدت محطة القاهرة أن «السادات» قد قُتل، وأنه قد توفي على الفور بعد إصابته بعدة طلقات.

“شعر «كايسي» Casey بالخزي، في حين أمضى «ريغان» Reagan النهار في المكتب البيضاوي يتلقى تطمينات بأن تقارير التليفزيون خاطئة. كان «كايسي» و«إينمان» Inman قلقين من أن يتقدم الرئيس الجديد، «حسني مبارك» باحتجاج عنيف وربما إنفعالي، لأن الـ (C.I.A) التي قامت بتدريب الحرس الشخصي لـ«السادات» قد فشلت في تحذيرهم، إلا أن أيًا من هذا لم يحدث، ولا حتى شكوى رقيقة.

“لقد أتضح أن منفذي الاغتيال كانوا جزءًا من مجموعة إسلامية أصولية في مصر، لقد أولت الـ (C.I.A) اهتمامًا كبيرًا بالتنصت واختراق حكومة «السادات»، وتحذير «السادات» من الأخطار الخارجية إلى درجة أنها تجاهلت القوى الداخلية في مصر، لقد بدا الأمر قريبًا لدرجة الخطر من كونه إعادة لكارثة إيران، وأنتاب «كايسي» الغضب الشديد، لقد احتاجت الـ (C.I.A) قنوات مستقلة أوسع وأكثر للمعلومات في مصر، وأراد «كايسي» المزيد، سواء من المصادر البشرية أو ما يتم جمعه إلكترونيًا، وعلى أعلى مستوى في الحكومة الجديدة، وكانت أوامر «كايسي»: «أخرج بعض الناس في الشارع اللعين للتحقق عما إذا كان أحد سيطلق الرصاص على «مبارك»!!”. (2)

تهيئة الأرض.. وهندسة المجتمع..

عبر جملة دالة يلحظ “هيكل”، في معرض نقله لوقائع الاجتماع المنعقد بين “السادات” و”كيسنغر”، بدايات عقد السبعينيات من القرن الماضي، حول منظومة “الأمن” و”التأمين” الأميركية التي يطالب “السادات” بأن تمد ظلالها عليه في “القاهرة”، يقول “حسنين هيكل”: “وبعد الأمن الشخصي للرئيس – والأمن الإقليمي للدولة – يجيء الدور ثالثًا، في خطة «كيسنغر»، على الأمن الاجتماعي للنظام، وهو الآن يقتضي إعادة الهندسة الاجتماعية، وخلق طبقات جديدة تسند التوجهات الجديدة بأسرع ما يمكن”.

ويكمل “هيكل” شهادته: “والحقيقة أن الظروف كانت تفتح الأبواب واسعة لهذا البند، ذلك إنه على الطريق إلى أكتوبر – وكذلك بعد المعركة – بدا واضحًا أن هناك مستجدات وضرورات لابد على نحو ما من التوافق معها، وكانت هذه المستجدات علمية واقتصادية واجتماعية هبت رياحها على مصر، وتوافقت معها فوائض ثروات من قفزات أسعار البترول أشاعت جوًا من التوقعات تفاعلت بين المستجدات والتطلعات، ونشأ بالتالي مناخ مستعد ومهيأ لكل شيء وأي شيء، ولأن الظروف تستدعي الرجال، فقد كانت تلك هي اللحظة التي ظهر فيها رجال مثل المهندس، «عثمان أحمد عثمان»، بالقرب من الرئيس «السادات»، مبشرين بالمنطق «العملي» و«الواقعي» دون «أحلام أو خيالات» !!”.

مدللاً على ذلك بنص ما قاله الرئيس “السادات” لوزير الخارجية الأميركية، أثناء اجتماعهما حول هذه النقطة تحديدًا؛ “إن الظروف المستجدة على إستراتيجية مصر – بالفعل – تفتح المجال لظهور طبقة أو جماعات اجتماعية تؤيد السياسات الجديدة وتسندها، ورأى الجميع أن تلك عملية ممكنة ومقبولة، لأن مصر تواجه حالة فراغ طبقي، فقد قام «ناصر»، (جمال عبدالناصر)، بتصفية الملكيات الكبيرة للأرض، وبتأميم كثير من شركات التجارة الخارجية والبنوك، وبطرد القائمين على شركات التجارة الخارجية والبنوك والتوكيلات التجارية، وكلهم من الأجانب – وترتب على ذلك أن الطبقة العليا في المجتمع المصري فقدت قاعدتها، وفي نفس الوقت فإن الطبقات الوسطى والفقيرة التي قصد إليها «جمال عبدالناصر» بإجراءاته، لم تتمكن بعد من صُنع قاعدتها، رغم وجود قطاع عام واسع فيه جماعات من أصحاب الكفاءات، لكن، رباطهم بعملهم وظيفي، (بيروقراطي)، لا يصنع طبقة سياسية، لأن الطبقات تصنعها الملكية”. (3)

ولكشف مدى أهمية تهيئة مجتمعات دول العالم الثالث، ومصر خاصة، سوسيولوجيًا لتقبل وانتشار أفكار ومباديء سياسية/اقتصادية مغايرة عليها – حتى قبل الانفتاح العولمي الحادث حاليًا بسنوات بل وعقود -، ربما من المفيد لنا، في معرض تلمس جذور ذلك المطلب المُلح بهندسة المجتمعات على مقاس احتياجات إستراتيجية، ان نرجع إلى نهايات عقد الخمسينيات ذروة صراع الحرب الباردة المستعرة بين “الاتحاد السوفياتي” و”الولايات المتحدة”، نجد وثيقة بمحضر اجتماع للجنة تنسيق السياسات التابعة لـ”مجلس الأمن القومي”، والتي تكشف أن الرئيس الأميركي، “إيزنهاور”، قد بعث بورقة تحمل توجيهات منه إلى اللجنة. وفيها قال “إيزنهاور” نصًا :

“أن أهدافنا في الشرق الأوسط مازال يمكن إجمالها في مطلبين:

1 – إبعاد السوفييت عن المنطقة.

2 – استمرار تدفق البترول العربي دون عوائق.

لكن الظروف تعطينا الآن مرونة أكبر، وآفاقًا أوسع في العمل. وبصرف النظر عما تقوم به الإدارات المختلفة للسياسة الأميركية – بما فيها وكالة المخابرات المركزية – فإننا يجب أن نركز على قادة المستقبل في العالم العربي؛ ولهذا فإنني أريد توسيع نشاطنا الدعائي والثقافي، خصوصًا في أوساط الطلبة والمدرسين، وأساتذة الجامعات والمثقفين إلى أكبر حد ممكن، وليس ضروريًا أن تلتصق جهودنا في هذه المجالات بمطالبنا المباشرة من المنطقة، فعلينا أن نفكر فيما هو أبعد من احتياجاتنا المُلحة كما نقدرها في الوقت الحاضر.

وأنا أريد مرونة أكثر في إتجاهات عملنا في المنطقة. فعلينا أن نعيد دراسة توجيهاتنا السابقة التي صدرت في ظروف مختلفة. وبدون أن نتخلى عن احتياجاتنا الضرورية النهائية، فإن مراجعة توجيهاتنا السابقة سوف تكشف لنا أن هناك حدودًا واسعة وراءها وفرصًا متاحة يتحتم استغلالها”. (4)

وتشهد الساعات المتوالية من أيامنا الحالية الكثير جدًا من المفاهيم والتنظيرات، الموجهة، التي يتم الآن بثها كقراءات جديدة لإعادة صياغة مباديء وقيم سواءٍ كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية عمومًا، تحت دعاوي الثورية أو التغيير !

في صيف عام 2007؛ انفجرت معركة ثقافية/سياسية، لم تحظى بالاهتمام الإعلامي الكافي فتم حصرها بالتالي داخل الأوساط الأكاديمية والثقافية المعنية.. كان أول طلقاتها مقالة مطولة نشرها المؤرخ والأكاديمي المصري المخضرم، “د. رؤوف عباس”، تحت عنوان: (هذا الدور المريب للجامعة الأميركية)؛ أستهلها برصد مسير “الجامعة الأميركية” داخل المجتمع المصري منذ نشأتها بالقاهرة عام 1919، وحالة الإغتراب التي حرصت عليها منعزلة عن المجتمع العربي والمصري، حتى “بدأت منذ الأربعينيات تقدم من خلال قسم الخدمة العامة بعض المحاضرات العامة المتصلة بالشأن المصري العام في مواكبة الاهتمام الأميركي المتزايد عندئذ بالشرق الأوسط. وكان من الطبيعي أن يتسع نشاطها ويتنوع منذ عهد الرئيس أنور السادات، الذي لم يكتفِ بالاعتراف بشهاداتها، بل أبرم اتفاقية جعلت من أرض الجامعة الأميركية أرضًا أميركية شأنها في ذلك شأن السفارة الأميركية، لا مكان للقانون المصري داخل أسوارها … ومنذ السبعينيات من القرن الماضي حتى اليوم إزداد اهتمام الجامعة الأميركية بالشأن العام العربي والمصري، سواءً في برامجها الدراسية أو في برامج المحاضرات العامة. واهتمت بمشروع دراسات الشرق الأوسط، الذي شاركت فيه وأدارته جميع الأقسام المعنية بالدراسات الاجتماعية والإنسانية: التاريخ، والاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والدراسات العربية. وكان البرنامج يمنح الدارسين فيه درجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط، ويحرص على التمسك بالطابع الأكاديمي، وليس السياسي، فيعالج مختلف القضايا ومن بينها القضية الفلسطينية بصورة متوازنة تعرض لمختلف وجهات النظر دون تغليب واحدة على أخرى”. (5)

لافتًا إلى كثافة خريجي تلك الجامعة بين صفوف أبناء السلك الدبلوماسي المصري منذ “كان بطرس غالي قد فتح أبواب الخارجية على مصراعيها لخريجي الجامعة الأميركية منذ عهد السادات”..

ليمضي “عباس” نحو هدفه حثيثًا؛ قائلاً: “ويبدو أن تلك التطورات التي حولت الجامعة الأميركية من حالة الإغتراب إلى المشاركة قد أزعجت من يتولون أمور الجامعة التي تُقبل على مرحلة توسع هائلة، تشيد حرمًا كاملاً بالقاهرة الجديدة، تُكلف مليارات الدولارات، لابد أن تكون الجامعة قد حصلت عليها من جهات أميركية مانحة، ولعل تلك الجهات طلبت من إدارة الجامعة ترشيد برامجها الدراسية بما يخدم الإتجاهات الصهيوأميركية، وكان مشروع دراسات الشرق الأوسط حجر الزاوية على ما يبدو في هذا الترشيد. اختير لتولي أمر المشروع، «غويل بينين»، الأميركي الإسرائيلي، لكونه وجهًا مقبولاً ومعروفًا عند بعض فصائل اليسار المصري، ولإتساع دائرة صلاته وعلاقاته بمصر، منذ جاءها لجمع مادة لراسالته للدكتوراه عن العمال المصريين في أواخر الستينيات، وما أشيع عن تعاطفه مع الفلسطينيين، ولتأييده لـ «حركة السلام الآن» في إسرائيل. وجه مقبول لتسويق الدور الجديد للجامعة الأميركية”. موضحًا: أن “الرئيس الجديد يدشن سياسة جديدة تضفي على الجامعة الأميركية دورًا يتلاءم مع مرحلة إعادة ترتيب أمور الشرق الأوسط يتوافق مع المشروع الصهيوأميركي للهيمنة على المنطقة”.

في يوم 24 نيسان/أبريل 2007، خلال الاحتفال بمرور ثلاثين عامًا على صدور (أوراق القاهرة-Cairo Papers)، وهي سلسلة من الدراسات اهتمت بالشأن المصري العام، الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، قدم “غويل بينين” ورقة بحثية بعنوان (المقاومة من منظور عربي)، “حرص من خلالها على الترويج الجديد للجامعة الأميركية، ولكن في خدمة المشروع الصهيوني بوضوح تام هذه المرة … قدم «بينين» في ورقته حصرًا زمنيًا لانتصارات العرب وإنكساراتهم منذ العام 1948، وخلُص من ذلك إلى أن الانتصارات تحولت إلى هزائم في مصر والجزائر وفلسطين لماذا ؟.. لأن خطاب المقاومة العربية حُمل بفكرة رومانسية عن التاريخ، أسقطت من اعتبارها أحداث السنوات الثلاثين التي إنقضت؛ وأن على العرب أن يبحثوا عن بديل لتلك الفكرة الرومانسية لمواجهة الصهيونية والولايات المتحدة، واقترح أن يستبدل بها ما أسماه هوية المقاومة بما أطلق عليه هوية المشروع، وأن ذلك يعني التوصل إلى صيغة هجين، تدمج ما هو تاريخي بما هو سياسي، تضع في اعتبارها حقائق الأمور وتهييء الجميع لمواجهة طغيان السوق. ولا يتضح من العرض الذي قدمته (وسائل الإعلام للورقة)، ما إذا كان «غويل بينين» قد قدم إيضاحًا لما أسماه هوية المشروع، ولكن يُفهم منه التلميح إلى ضرورة إغلاق ملف المقاومة، وأن تتسع آفاق العرب والإنتباه إلى أن الأرض لم تعد موضوع الصراع، ولكن طغيان السوق في عصر العولمة، وهو صراع يتطلب من العرب إدراك حقائق الأمور والألتحام بالكيان الصهيوني في إطار المشروع الصهيوأميركي للشرق الأوسط الذي يحدد قياسيه الترزي الإسرائيلي”.

لتثور خلال الأسابيع التالية، لنشر “د. رؤوف عباس” مقالته، زوبعة متواصلة من مقالات أساتذة جامعات، والجامعة الأميركية بالقاهرة خصوصًا، ومثقفين ردًا عليه من ناحية وتضامنًا معه من ناحية أخرى، سواء هجومًا أو دفاعًا عن أستاذ التاريخ بـ”جامعة ستانفورد” بولاية كاليفورنيا الأميركية، “غويل بينين”.. وما يهمنا من تلك المعركة وأشباهها من المعارك التي كثرت وقائعها داخل الميداين الثقافية والأكاديمية، أنها تلفت نظرنا إلى مستوى آخر أكثر خطورة وسخونة من مستويات تزييف التأريخ وحرب العقول ميدانه المؤسسات التعليمية والأكاديمية، ربما من أبرزها وأهمها من حيث الانتشار، الجامعات الأميركية كمؤسسة علمية متوغلة في النسيج العربي خاصة، ونسيج دول العالم الثالث عامة، مهمتها تخريج الآلاف من أساتذة التاريخ والمؤرخين الذين يدونون ويعيدون صياغة وتحليل التأريخ لمجتمعات تلك الدول بمناهج تبدو علمية في ظاهرها، ولكنها لا تمت للبحث العلمي بأدنى صلة، مدفوعة بآراء سياسية عمادها ولُبها الرئيس سياسات النيوليبرالية، التي يتم نشرها بين أجيال متعاقبة تحت مظلة العولمة الثقيلة.

البحث العلمي والأكاديمي ومدى تبعيته للجهات والمؤسسات المانحة والممولة – والتي ما هي إلا تلك الكيانات صاحبة المصلحة والممثلة لمنظومة سياسات “النيوليبرالية” العالمية – قضية شائكة ومثارة منذ وقت طويل كاشفة لتفاصيل خطورتها.. في ورقة بحثية نُشرت حديثًا معنونة: (احتكار المنشورات العلمية.. الرأسمالية تُفسد العلوم)؛ كتب الباحثين “جون تينانت” – “ميغان دي”، حول مدى أهمية قضية استقلال البحث العلمي وحتمية خروجه من قوقعة الرأسمالية؛ سواء على مستوى النشر البحثي أو على مستوى الدراسات الأكاديمية ذاتها. “الجامعة موجودة قبل الرأسمالية، وقد رفضت الخضوع في بعض الأوقات لما تمليه عليها السوق الرأسمالية لتسعى بذلك ليس لتحقيق الربح بل إلى الحقيقة والمعرفة. لكنّ الرأسمالية تفترس كلّ ما تتمكن منه، وفي الوقت الذي زادت فيه من هيمنتها فلم يكن بالأمر المفاجيء أن تصبح الجامعات المعاصرة بشكل متزايد تابعًا ذليلاً لما سمته إيلين وود: «إملاءات السوق الرأسمالية الحتمية: المنافسة والتراكم وتعظيم الأرباح وزيادة إنتاجية العمالة».

“تتجلى هذه الحتمية في الأوساط الأكاديمية بالطرق التالية الواضحة للعيان: النشر أو الهلاك، التمويل أو التجويع.

“فدون الحصول على استثمار عام فيها، تصبح الجامعات مجبرة على اللعب تبعًا لقواعد القطّاع الخاص، وذلك بأن تعمل كمجال أعمال. ومجال الأعمال يدور بأكمله في النهاية حول الحصيلة، والحصيلة الصحيّة هنا تعتمد على تعظيم الربح، والذي يعتمد بدوره على التقييم الحذر والثابت للمدخلات والمخرجات. إنّ نتيجة العلوم الأكاديمية وفقًا للباحثين، مارك إدوارد وسدهارتا روي: «البحث الأكاديمي في القرن الحادي والعشرين هو: الحفاظ على النزاهة العلمية وسط مناخ من الحوافز المنحرفة والمنافسة المحتدمة»، وهو ما أدّى إلى تقديم نظام جديد من مقاييس الأداء الكمي، وهو ما بات يحكم تقريبًا كلّ شيء يفعله الباحثون العلميون، والتي تبدو تأثيراته واضحة على أعمالهم”.

لتحذر الورقة البحثية قرب نهايتها، موضحة: “إنّ العواقب الممنهجة لزيادة الضغط السوقي على العلوم الأكاديمية هي كارثية على الأغلب. فكما كتب إدوارد وروي: «يؤدي الجمع بين الحوافز الضارة وانخفاض التمويل إلى زيادة الضغوط التي يمكن أن تؤدي إلى سلوك غير أخلاقي. إن تحولت الكتلة الأكبر من العلماء إلى غير جديرة بالثقة فستبدو نقطة التحوّل ممكنة الحدوث، هي أن تصبح المؤسسة العلمية نفسها فاسدة بطبيعتها فتضيع الثقة العامة بها، وهو ما ينذر بحدوث عصر ظلام جديد مع جميع العواقب المدمرة للبشرية». من أجل الحفاظ على المصداقية، يحتاج العلماء إلى الحفاظ على النزاهة، ويؤدي فرط التبعية إلى تآكل تلك النزاهة وهو ما يمكنه أن يقوّض كامل المسعى”. (6)

عندما تفهم رسالتي.. تقاتل عني !

في ظل تصاعد “الحرب الباردة” بين كتلتي الدول الغربية، بقيادة “الولايات المتحدة الأميركية”، والشرقية بزعامة “الاتحاد السوفياتي”، إلى ذروتها في العقود الممتدة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي؛ سادت نظرية تحليلية في شؤون العلاقات الدولية تقطع باستحالة قيام حرب عالمية ثالثة بين الكبار، خاصة بعد أن أوصل “سُعار التسلح” بين القوتين العظميين، (الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة)، إلى تطوير تقنيات السلاح النووي الذي أصبح في متناول أيديهم خلال أي حرب هم أطرافها، حتى وإن لم تبدو كذلك، فالحرب بين الكبار، وإن بدأت بالأسلحة التقليدية؛ مكتوب عليها في مرحلة من المراحل أن تنقلب نووية، لأن أحدًا من الطرفين لن يقبل الهزيمة أمام الآخر، وفي يديه إمكانية لم يستعملها.. ومن هنا، ونتيجة لذلك، ظهرت نظريات “الحرب المحدودة”، ذلك أن الصراعات الدولية لن تتوقف لمجرد استحالة الحرب العالمية، فالأسباب الاقتصادية والسياسية والإنسانية التي تؤدي إلى الحرب مازالت باقية، ثم أنه لا يمكن حبس أو تجميد تفاعلات هذه الصراعات، فإذا كانت السيطرة على إدارة هذه الصراعات يجب أن تظل محسوبة ولا يفلت زمامها، فإن إطار الحرب يجب أن يكون محددًا لكي يكون محدودًا، وأول ضمانات التحديد ألا تنشب الحرب بين الكبار مباشرة، وإنما تنوب عنهم أطراف أخرى يقفون هم وراءها دون اضطرار إلى المواجهة المباشرة، وعواقبها غير المحدودة.

وعند الاقتراب من إدارة حكم “الولايات المتحدة”، كقوة وحيدة هيمنت بسياسة أُحادية القطب لسنوات عديدة بعد تفكك “الاتحاد السوفياتي”، بغية تحليل صورة أوضح لأساليب تفكيرها وإدارتها، يجد أي باحث مدقق أن خيرة المفكرين السياسيين والاقتصاديين في “الولايات المتحدة” من أمثال “كينيث غالبرايث”، (أشهر الاقتصاديين الأميركيين)، و”آرثر شلزنغر”، (واحد من أكبر أساتذة التاريخ)، و”ماك جورج باندي”، (ألمع أساتذة العلوم السياسية)، فضلاً عن رجال من أمثال “هنري كيسنغر” و”والت روستو” و”ربغنيو برغينسكي” – كانوا جميعًا في “المخابرات الأميركية” في مجال الدراسة والتحليل – لتأكد له إلى أي مدى امتزجت تجربة المخابرات بتجربة صنع القرار السياسي في “واشنطن” !

إن هؤلاء جميعًا، بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحوا مستشاري الأمن القومي للرؤساء في “البيت الأبيض”، ووزراء للخارجية، ومسؤولين تركوا بصماتهم واضحة على القرار الأميركي إبتداءً من الخمسينيات وحتى الثمانينيات.

وفي إشارة مبكرة يعدد “آرنولد روز”، أستاذ علم الاجتماع بجامعة “مينوسوتا”، أساليب رئيسة خمسة يمارس من خلالها رجال الصناعة الكبار نفوذهم على حكومة “الولايات المتحدة” :

(1) تحديد إعتمادات التسليح.

(2) توزيع طلبات الدفاع.

(3) تحديد الضرائب.

(4) استخدام الصحف ووسائل الإعلام الأخرى.

(5) تعيين رجال الأعمال في المناصب الرسمية لجهاز الدولة (7).

وكما يلحظ “حسنين هيكل”، على قوام إدارة “وكالة المخابرات المركزية”، بما لها من سطوة على عملية صنع القرار الأميركي، بأنها كانت – في تركيبها الداخلي – مجتمعًا طبقيًا بالفعل.

– على قمته عدد من أبناء العائلات الكبيرة الذين أدوا؛ مثل “كيرميت”، خدمتهم الوطنية في إطار المخابرات، ومعظمهم من الذين أتيحت لهم فرصة العمل مباشرة مع “آلان دالاس” في عصر “مكتب الخدمات الخاصة” في “سويسرا”. كان هؤلاء هم المكلفون بالاتصال بالملوك والقادة، وكانوا يطلقون عليهم وصف “أعضاء النادي”، وفي الغالب فإن مهامهم كانت مساندة العروش، (كما حدث في إيران)، أو إعداد الانقلابات، (كما حدث في أكثر من بلد في أميركا اللاتينية).

– تحت القمة؛ كانت هناك الطبقة التي أطلقوا عليها وصف “الكشافة”، ومعظمهم من أبناء العائلات المتوسطة والمهنيين السابقين، وهؤلاء كانت مهمتهم إقامة العلاقات، وتنظيم الشبكات، وترتيب مهام جمع المعلومات من مصادرها، وفي الواقع فإن معظم هؤلاء وجدوا الغطاء العملي لنشاطهم في السلك السياسي، حتى أن لجنة “تشرش” في الكونغرس اكتشفت، عندما تولت التحقيق في نشاط المخابرات، أن أكثر من عشرين في المئة من الدبلوماسيين الملحقين بالسفارات الأميركية في الخارج هم من رجال المخابرات.

– وكان القاع في الوكالة يضم الطبقة الثالثة، وهي طبقة الرجال المكلفين، أو الذين يمكن تكليفهم بالعمليات مباشرة إبتداءً من سرقة أو تزوير الأوراق والمستندات، ووضع أجهزة التنصت والاستماع، وحتى جرائم الخطف والقتل، وكان الوصف الشائع لهذا النوع من الرجال هو أنهم قسم “الخداع” أو “التضليل الإعلامي” أو “الألعاب القذرة” – طبقًا لنوع التكليفات التي تُصدر إليهم (8).

وإن أردنا الإلمام سريعًا ببعض أساليب عمل الاستخبارات المركزية ومدى نشاطها المحموم، أثناء فترة الحرب الباردة – وما قبلها بعقود طويلة -، نلحظ أنها نفس الأساليب تقريبًا التي تتبعها الآن داخل دول المنطقة وأقاليم الشرق الأوسط، في نهايات العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.. ففي معرض استعراضه لأساليب عمل المؤسسات وأجهزة الاستخبارات العالمية، يشير “صلاح نصر”، مدير جهاز المخابرات العامة المصرية السابق، إلى “استخدام التشهير”؛ الأسلوب الاستخباراتي الذي يؤكد على أن المخابرات الأميركية تقوم باستخدامه؛ كما غيرها من مخابرات الدول الكبرى، وذلك ببث الاتهامات للحكام والمسؤولين في الدول المستهدفة.. حتى يفقد الشعب ثقته في حكومته.

قائلاً: “فإذا انتقلنا إلى المخابرات المركزية الأميركية نجد أن الأساليب لا تختلف إلا في الشكل أو الوسيلة. فمنذ قيام الثورة البلشفية، دخلت الولايات المتحدة في معركة نفسية مستمرة مع النظام الجديد مستخدمة الأساليب الآتية :

1 – الرشوة والتجسس: فمثلاً يمكن أن نرجع بذاكرتنا إلى مؤتمر قناصل الولايات المتحدة، الذي عُقد في شهر (آب) أغسطس سنة 1918، وخطط للعمل في ثلاثة إتجاهات :

أ – إشاعة الفُرقة في الجيش الأحمر عن طريق الرشوة والتخريب وعرقلة التموينات.

ب – إشعال النار في مخازن الأغذية وأعمال التخريب.

ج – القيام بأعمال التجسس.

2 – التشهير: وهنا بالطبع يكون التشهير ضد النظام السوفياتي، وقد تكونت فعلاً لجنة فرعية تحت إشراف اللجنة القضائية بالكونغرس، كانت مهمتها نشر أكاذيب عن روسيا السوفياتية، كانت برئاسة “أوفرمان”، متهمين الدولة السوفياتية بأنها مركز تغلغل الشيوعية الدولي في الدول النامية، ويرد الشيوعيون على هذه الفكرة بأنها ليست إلا ستارًا إبتدعته الإمبريالية الأميركية لتخفي وراءه ما تقوم به من نشاط ضد الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الأخرى.

3 – المنظمات الأميركية شبه الرسمية: وقد بدأ استخدام هذا الأسلوب بعد الحرب العالمية الثانية، ففي صيف عام 1949 تألفت ما تسمى بلجنة أوروبا الحرة برئاسة، “غرو”، وزير الدولة المساعد، وسفير الولايات المتحدة في اليابان سابقًا، وكان الجنرال إيزنهاور أحد مؤسسي هذه اللجنة، كما أنشيء ما يسمى باللجنة الأميركية لتحرير الدول من خطر البلشفية، وكان هدف هذه اللجنة استخدام المهاجرين من روسيا ليكونوا أداة طيعة لممارسة التخريب في دول المعسكر الشيوعي.

4 – استخدام التجسس والتخريب: كان تقدير المخابرات الأميركية، في باديء الأمر، أنها تستطيع أن تثير السخط والشغب داخل أي دولة اشتراكية، عن طريق القيام بأعمال التخريب والاستفزاز، ومد الثائرين بكل عون مستطاع، ولكن إخفاق الثورة المجرية، سنة 1956، وثورة تشيكوسلوفاكيا، سنة 1968، لقن الأميركيين درسًا بأن تلك السياسة قد أصيبت بخيبة كبيرة، ولذا عمدوا إلى استخدام أسلوب جديد ببث الجواسيس والعملاء داخل دولة الخصم.

5 – التجسس الإذاعي والفني: وقد استخدم الأميركيون الأراضي الإيرانية لممارسة هذا النوع من التجسس على الاتحاد السوفياتي، كما استخدمت منشآت الرادار التي كانت بتركيا لرصد السفن في البحر الأسود. وتسجيل رحلات الطائرات، وطلقات الصواريخ في القسم الأوروبي من الاتحاد السوفياتي.

وليست هذه كل الأساليب، فقد ذكرنا البعض فقط لنعطي فكرة على أن المخابرات، وأعمال التجسس لا غنى عنها لاية دولة كبيرة أو صغيرة في هذا العصر الذي نعيش فيه”. (9).

ومع إنتهاء حقبة “الحرب الباردة”، وقد وصلت “الولايات المتحدة” إلى درجة من الغطرسة والهوس بقوة تفرد هيمنتها العالمية لحد التخلي عن إستراتيجيتها التليدة في “الغزو من الداخل” إلى “الغزو العسكري المباشر” – والذي تورطت فيه أيضًا بمستويات مخففة أتاحت لها العودة في محطات متعددة أثناء صراعها مع الخصم السوفياتي قبلاً – في “أفغانستان” و”العراق”؛ مواكبة لأزمة مالية طحنت سياساتها الاقتصادية والاجتماعية العالمية الجديدة، “النيوليبرالية”، بالإضافة إلى ظهور بؤر دولية تنافسية أتسعت أدوارها وسياساتها لإبتلاع مناطق نفوذها وتأثيرها.. كل تلك العوامل وغيرها تضافرت لتُنذر بقرب آفول نجم الإمبراطورية الأميركية، وكان أول من أستشعر بهذا النُذر وقرأ رسالة خطره هم “مجموعة أصحاب المصالح”، من شركات وكيانات اقتصادية كبرى عالميةً ممثلة لشركات البترول والسلاح والمجموعات المالية العملاقة، والتي تمارس نفوذها من داخل الإدارات الأميركية، وما وكالة الاستخبارات المركزية إلا إحدى منافذ تنفيذ ذلك النفوذ.

وكذلك بقيت على خريطة الإمبراطورية المتراجعة منطقة واحدة في العالم لا تستطيع أن تقبل بالخسارة فيها، وهي “الشرق الأوسط”، لأنها المنطقة التي تقع فيها بالمواقع والموارد – أهم المصالح الأميركية، فإذا خسرت فيها، إذاً فتلك هي نهاية الإمبراطورية !

وفي هذه اللحظة الحاسمة من التاريخ الإمبراطوري؛ فإن المصالح الحقيقية لـ”الولايات المتحدة الأميركية” في “الشرق الأوسط” وجدت أنها لا تستطيع أن تترك لـ”واشنطن” وحدها مسؤولية الدفاع عن المصالح الأميركية وحمايتها، بل إنها الآن مطالبة – ومستعدة – لأن تقوم بدور رئيس في قيادة المعركة مع “الشرق الأوسط”، وكذلك تقدمت هذه المصالح للعمل المباشر بنفسها، أي تقدمت شركات البترول العملاقة، وشركات السلاح الكبرى، والمجموعات المالية المستفيدة لتقيم حلفًا بينها يتحمل المسؤولية، بالتعاون مع الحكومة الأميركية، وبغيرها إذا قضت الضرورات.

وكما يؤكد “هيكل”؛ فقد “أتسع دور وكالة المخابرات المركزية الأميركية أكثر، ودخلت شركات البترول تنشيء أجهزة مخابرات لها، وكذلك تنشيء جيوشًا غير رسمية، بما يعني خصخصة الحرب عن طريق إنشاء شركات عسكرية لأول مرة في التاريخ على طريقة شركة «فينيل» التي كانت شركة «آرامكو»، في السعودية، تستأجرها لحراسة منشآتها في «الظهران»، والآن لحقت بها شركة مثل شركة «بلاك ووتر» التي استطاعت «توظيف» قوة مسلحة لا يقل تعدادها عن مائتي ألف – ظهر دورها وأنكشف في العراق، ووصلت هذه الشركة إلى حد أن أصبح لها فيه قوة جوية مستقلة.

“كان «مركز القيادة» في «واشنطن» مهيأ بالكامل لمثل هذا التطور في مسائل السيطرة عن طريق العمل المباشر تحت توجيه الشركات – هذه المرة – وليس الحكومات، كما كانت القاعدة عبر التاريخ دائمًا.. وكان مما ساعد ذلك – أو ربما أستدعاه – ظهور أسرة مثل أسرة «بوش» في السياسة الأميركية، وخبرة عملها أكثر من عشرين سنة في التأثير على القرار الأميركي، … وكان تاريخ الأسرة منذ أوائل القرن العشرين، وفي زمن “بوش” الجد – “بريسكوت بوش” – قد أقترن بثلاثة أفرع من النشاط، مؤهلة للمهام الجديدة وهي : صناعة السلاح – وتجارة البترول – ومهنة المخابرات”.

ويكمل “هيكل” شارحًا دور هذه الأسرة؛ “وكان «جورج بوش» الأب – نائب «ريغان» لثماني سنوات، ورئيس الولايات المتحدة أربع سنوات – هو الفاعل الرئيس في اللحظة الحاسمة في انتقال الفعل الإمبراطوري في الشرق الأوسط من المجال الرسمي – إلى العمل الخاص والمباشر، بما في ذلك خصخصة الجيوش في أوائل الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وبداية الحقبة الأولى من القرن الحادي والعشرين.

“وكانت الذروة في دخول «جورج بوش» الأب إلى الساحة العملية، سنة 1976، حين عينه الرئيس «غيرالد فورد»، بنصيحة من وزير خارجيته «هنري كيسنغر»، مديرًا لوكالة المخابرات المركزية الأميركية، واعتبر «جورج بوش» أن مهمته ذات شقين :

الشق الأول: إستعادة فاعلية الوكالة؛ بعد التحقيقات التي عطلت نشاطها وشلته بسبب تحقيقات فضيحة «ووترغيت».

والشق الثاني: عودة الوكالة قوية إلى الشرق الأوسط، وضم مجموعة «السافاري»* إليها، ثم إستيعابها وإبتلاعها، بعد أن إنتفت الحاجة إلى دورها لتعويض غياب الولايات المتحدة الأميركية لسنوات عن الميدان” (10).

………………………………………………….

الـمــصـــادر :

  • محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – دار الشروق – الطبعة الأولى 2012.
  • بوب وودوارد – (الحجاب-The Veil) – نيويوك.
  • محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – مصدر سابق.
  • مجموعة الأوراق السرية لمجلس الأمن القومي – الوثيقة رقم 1/5821.
  • د. رؤوف عباس – (هذا الدور المريب للجامعة الأميركية) – صحيفة (العربي) القاهرية؛ في 13 آيار/مايو 2007.
  • جون تينانت، ميغان دي – (احتكار المنشورات العلمية.. الرأسمالية تُفسد العلوم) – ترجمة: عروة درويش – مجلة (قاسيون) الإلكترونية العدد المؤرخ 22 تموز/يوليو 2018.
  • آرنولد م. روز – (قوة التنظيم) – نيويورك، 1967 – صفحات 93 – 94.
  • محمد حسنين هيكل – (سنوات الغليان) – مركز الأهرام للترجمة والنشر – الطبعة الأولى 1988.
  • عبدالله إمام – (صلاح نصر يتذكر.. الثورة – المخابرات – النكسة) – دار الخيال – مصر-لندن – 1999.
  • مجموعة “السافاري”؛ هي تكتل تم تكوينه من مجموعة من الدول الحليفة والتابعة للولايات المتحدة الأميركية في عقد السبعينيات للحد من نفوذ الاتحاد السوفياتي داخل منطقة الشرق الأوسط، أرجو مراجعة الحلقة التاسعة من هذه السلسلة تحت عنوان: (صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (9) .. الرقص على إيقاعات “السيد” !) عبر الرابط التالي :

https://goo.gl/3RPjnX

  • محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – مصدر سابق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة