خاص : كتب – محمد البسفي :
“.. إنه لمن الخطأ اللُغوي التحدث عن الولايات المتحدة كمجرد (قوة عُظمى) فنحن قوة (فوق عُظمى)، وأنا لم ينُم إلى علمي أن العالم قد رأى من قبل شيئًا مُشابهًا”.
الأدميرال ستانسفيلد تورنر
مدير سابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية
لصحيفة (دايلي تيلغراف) – 16 حزيران/يونيو 2003
“.. لا ينبغي أن نحكم على عصر من خلال ما يُعلنه عن نفسه”
كارل ماركس
وهكذا تحول الحليف، إلى متبوعًا ليس فقط في إقتداء خطاه؛ بل إلى “سيد” على التابع، المنتظر بعيدًا لأضعف إشارة استدعاء، خوض معاركه بوكالة “التوقيع على بياض”..
……………
……………
تحت أصابع “السيد”..
بمرور السنوات وتوالي العقود واختلاف مواقع القوة والضعف على خرائط الساحة الدولية وتداخل مؤثرات شتى؛ سرعان ما غيرت السياسة المصرية ذبذبات بصلتها شطر “القِبلة” الأميركية، حينما آمنت بأن 99% من صكوك الغفران، والمصالح أيضًا، في يدها. واستقر “هرمها الأمني” على موقع “التابع” التقي، الذي لم يكتفي بإقتداء خطى “إمامه”؛ بل قفز خطوات واثقة نحو تحقيق مصالح “السيد” بالنيابة..
على مشارف النصف الثاني من عقد السبعينيات من القرن الماضي، انشغل الرئيس الفرنسي، “غيسكار ديستان”، بدافع أوروبي غربي، بإفريقيا كونها بؤرة يستهدفها نفوذ “الشيوعية العالمية”؛ داعيًا العرب إلى أن “يتمثلوا خطورة الأوضاع في إفريقيا، لأن التحدي الذي يواجهه العرب والغرب معهم تحدٍ خطرًا”، مفسرًا ذلك في لقاءه بالكاتب الصحافي المصري، “محمد حسنين هيكل”، بأربعة نقاط محددة:
1 – “قناة السويس” مازالت مغلقة، رغم إنتهاء حرب “يوم الغفران”، (هكذا وصف الرئيس الفرنسي حرب تشرين أول/أكتوبر 1973).
2 – وإمدادات النفط من الخليج تضطر للدوران حول “إفريقيا”، عن طريق “رأس الرجاء الصالح”؛ لكي تصل إلى أوروبا وإلى أميركا. و”أميركا” تستطيع أن تستغني عن البترول العربي مؤقتًا، أما “أوروبا” فذلك بالنسبة لها مستحيل.
ودوران ناقلات البترول حول “إفريقيا” على الممرات البحرية المحيطة بالقارة مكشوف أمام نشاط سوفياتي يتغلغل في القارة بجهد يزيد، خصوصًا في القرن الإفريقي، وبالتحديد في “إثيوبيا”، (وكان نظام “منغستوهيلا مريم” يحكمها وهو لا يخفي هويته الشيوعية).
3 – و”أوروبا” لا تستطيع أن تقبل هذا الانكشاف للممرات البحرية التي تسير عليها ناقلات البترول الغربية.
وبما أن فتح “قناة السويس” أمام ناقلات البترول مازال معلقًا، لأنه مرهون باتفاقيات سلام بين “مصر” و”إسرائيل” مباشرة، وبين العرب وإسرائيل بطريق غير مباشر – إذًا فإن الضرورات تفرض الحد من النفوذ السوفياتي داخل القارة بكل الوسائل.
4 – إن “فرنسا” اهتمت، منذ “ديغول”، بوجود سياسي فرنسي مؤثر في القارة يحفظ مصالح كثيرة، ويحفظ كذلك صلات حضارية لها قيمتها، وذلك ما دعا “ديغول” إلى إنشاء منظمة “الفرانكفونية”، لكن هذه المنظمة قاصرة في فعلها السياسي على عكس منظمة “الكومنولث”، لأن الأقاليم الإنكليزية من “إفريقيا”، (يقصد الدول الإفريقية التي كانت تخضع للاستعمار البريطاني، والتي اعتمدت اللغة الإنكليزية)، إنضمت إلى “الكومنولث” البريطاني، (وهو تنظيم اقتصادي)، في حين أن “فرنسا” اختارت الثقافة رابطًا عن طريق منظمة “الفرانكفونية”، باعتبار اللغة الفرنسية أساسًا مشتركًا، لكن “الفرانكفونية” غرقت في الأدب والثقافة، ونسيت الإستراتيجية والسياسة، ربما تحت تأثير “سنغور”، (زعيم السنغال)، وإذا كان ذلك، فقد كانت تكفينا عضوية “اليونيسكو”، (منظمة الثقافة والعلوم)، دون داع لـ”الفرانكفونية”.. (1)
وهنا نلحظ المساعي الأوروبية والغربية – والمستمر بكثافة شديدة هذه الأيام – لإنشاء وتأسيس منظمات مؤسسية ذات صباغات عالمية تنشط بالمجالات الثقافية والفنية خدمة لمصالح دولها الجوسياسية والاقتصادية للهيمنة عولماتيًا بإدارات لا تبعد كثيرًا عن أذرع استخباراتية موجهة؛ وإن كانت، بعض أنشطة ورسائل، منظمة “اليونيسكو” تمثل جيل الريادة لهذه التنظيمات الدولية.. وذلك يختلف نوعيًا عن الأسلوب الاستخباراتي حينما تريد الأجهزة التدخل مباشرة دون الحاجة إلى الاستعانة بصبغات أو أقنعة ما..
وهذا ما لمسه “هيكل” بكل وضوح في مقابلته بـ”ألكسندر دي ميرانش”، مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، (SDECE)، ضمن رحلة تقصيه لمدى ودوافع الاهتمام الفرنسي بالقرن الإفريقي، قائلاً: “.. وراح “دي ميرانش” يتوسع في الشرح بأن «فرنسا» هي أكبر مستهلك للطاقة في القارة الأوروبية، وهي لا تملك مباشرة نفوذًا على مصادرها في الخليج، ولذلك فإن حياتها وحياة المجتمع الأوروبي، الذي تنتمي إليه، معلقة على بتروله، وهي نفسها شريكًا رئيسًا في تأمينه، وفي ذلك فإنها تتعاون مع عدد من دول المنطقة، وقد أنشئوا معًا «تعاون فعل»؛ (Cooperation D’action).
“أضاف «دي ميرانش» أنه من حسن الحظ أن بعض القوى المعنية في الشرق الأوسط دخلت مع فرنسا في هذا «التعاون في الفعل»، وأن «فرنسا» هي التي أقنعت أميركا وإسرائيل بأن لا تدخلا ضمن مجموعته، حتى لا تؤثر شكوك العرب فيهما على صدق «تعاون فعل»، بل وقع الاتفاق على أن تكون كلاهما – «الولايات المتحدة» و«إسرائيل» – على علم – ومن مسافة بما تقوم به المجموعة، وهذا ضروري حتى لا يحدث صدام بين الخطط في الظلام.
“وقال «دي ميرانش»؛ إنهم اختاروا للمجموعة عنوان، «سافاري»، (السفر في الغابات)، لأن نشاط المجموعة الأصلي في إفريقيا، وقد اختاروا اسمًا رومانسيًا بـ «الكود» لا يستطيع تحديد معناه أحد إلا إذا كان طرفًا في اللعبة !!
“وأضاف «دي ميرانش» أنه من حُسن الحظ أن رجالاً مثل الملك «الحسن»؛ (في المغرب)، والملك «فيصل»؛ (في السعودية)، والشاه «محمد رضا بهلوي»؛ (في إيران)، والرئيس «السادات»؛ (في مصر) – توفر لديهم بُعد النظر والجسارة لكي يتعاونوا مع فرنسا في هذه المهمة التي تعنيهم وتؤثر على مصالحهم الحيوية !!
“وقال «دي ميرانش»: هذا في الواقع «تعاون فعل» إستراتيجي، يُحقق مصالح مشتركة، ولذلك فإن تنفيذه تم بمعاهدة خاصة ومغلقة بين الدول الخمسة.
“وسألته – دون تعليق حتى لا أصد تدفقه في الشرح – عما إذا كانت الدول العربية، التي وقعت على الاتفاق، (في الواقع معاهدة)، تعرف أن هناك تنسيقًا مع «الولايات المتحدة» ومع «إسرائيل»، وكان جوابه دون تردد: إنهم بالطبع يعرفون، لكننا أعفيناهم جميعًا من الحرج، وعهدنا بالتنسيق مع أميركا إلى «إيران»، ثم إن الولايات المتحدة في إطار علاقاتها الخاصة مع إسرائيل تتولى إحاطتها علمًا بما يصح لها أن تعرفه !!.
“وكان «دي ميرانش» يظهر اهتمامًا خاصًا بالسعودية، لإعتقاد عنده – أفاض في شرحه – بأن الإسلام يجب ان يلعب دورًا أساسيًا في حماية النفط، وكان قوله «إنه من حسن الحظ أن أكبر منتج للنفط؛ هو نفسه بيت الأماكن المقدسة لدى المسلمين»…” (2).
ولنا أن نتوقف قليلاً أمام تلك العبارة الأخيرة التي ينسبها “هيكل” إلى مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، (SDECE)، “ألكسندر دي ميرانش”، عبر حوار من المفترض أنه جرى في الربع الأول من عقد السبعينيات الماضي؛ في معرض تحليلاتنا لظاهرة تفاقم إيديولوجيات “الإسلام السياسي” بالدول العربية والإسلامية عالميًا والدعوات الدولية للحرب “ضد الإرهاب” خلال هذه الأيام المنسحبة لعقود منصرمة، بما تفسره لنا من أسرار إصرار بعض الأنظمة العربية، مثل “مصر” و”سوريا” مثلاً، على إنتهاج “أسلمة” نُظم حكمها تشريعيًا وقانونيًا وسهولة؛ انتشار المد الوهابي المُشع من “العربية السعودية” !
لنعود إلى رصد مسير وثيقة إنشاء معاهدة مجموعة “تعاون فعل” الإستراتيجية، التي عرفت دوليًا باسم “مجموعة نادي سافاري”، التي تم توقيعها في اجتماع خاص عُقد في مدينة “جدة”، بالعربية السعودية، بين خمسة أشخاص مفوضين عن رؤسائهم:
الكونت “دي ميرانش”، نفسه؛ (مدير المخابرات الخارجية الفرنسية – عن الرئيس “ديستان”).
و”كمال أدهم”؛ (مدير المخابرات العامة السعودية – عن الملك “فيصل”).
والجنرال “أحمد الدليمي”؛ (مدير المخابرات المغربية – عن الملك “الحسن”).
والجنرال “نعمة الله ناصري”؛ (مدير “السافاك” – المخابرات الإيرانية – عن الشاه “محمد رضا بهلوي”).
ثم الدكتور “أشرف مروان”؛ (مدير مكتب الرئيس للمعلومات – عن الرئيس “أنور السادات”).
في البداية: كان “أشرف مروان” هو الذي يمثل الرئيس “السادات” في المجموعة.. وبعد سنتين غاب “اشرف مروان” وحل محله “مبارك” !! (3).
وقد تم هذا الاتفاق بنص يحتم أن يكون “عالميًا في مفهومه”؛ يتبعه مركز للعمليات مؤهل لتقييم مجريات الأمور في إفريقيا، والتعرف على مناطق الخطر، والتوصية بطرق التعامل معها. ويضم المركز ثلاثة أقسام – قسم للسكرتارية لمتابعة الشؤون الجارية. وقسم للتخطيط وقسم للعمليات. واختيرت “القاهرة” مقرًا للمركز، (لأسباب واضحة)، وطُلب من السلطات المصرية إعداد مكتب مناسب وأماكن للمعيشة. أما “فرنسا” فستزود المركز بالمعدات الفنية للاتصالات والأمن. أما رئاسة المركز فيتولاها ممثلو الدول الأعضاء بالتناوب كل عام. واتفق على جدول زمني يتم بمقتضاه قيام المركز بحلول أول أيلول/سبتمبر 1976، وتنتقل إليه هيئة الموظفين بعد أسبوعين.
وعقد “نادي سافاري” عدة اجتماعات في “العربية السعودية” و”باريس”؛ وكذلك في المركز بـ”القاهرة”. وقد اُنفقت مبالغ طائلة للحصول على مبنى للمركز وملحقات له وفي إقامة شركات “للتمويه” وفي تركيب الخطوط الساخنة والأجهزة الحساسة الأخرى وخلافه. (4).
وتحدث “دي ميرانش” عن نشأة المجموعة، وكيف أنها بدات في منتصف السبعينيات، وبعد سقوط الرئيس، “ريتشارد نيكسون”، بسبب فضيحة “ووترغيت” سنة 1974، وبسببها – أيضًا – فإن وكالة المخابرات المركزية الأميركية، (C.I.A)، وهي العملاق الأكبر في عالم المخابرات، تعطلت؛ لأنها أصبحت موضع تحقيقات واسعة في “الكونغرس”، بعدها ظهر تورطها في العمل داخل “الولايات المتحدة” نفسها، على عكس قانونها – ثم زاد أن الرئيس الأميركي الجديد – بعد خروج “نيكسون” من البيت الأبيض – وهو الرئيس، “غيرالد فورد”، قرر هو الآخر إنشاء لجنة خاصة – رأسها نائبه، “نلسون روكفللر”، للتحقيق في تجاوزات “وكالة المخابرات المركزية الأميركية”، التي طال لهذه الأسباب تعطلها، خصوصًا بعد أن قام “الكونغرس” بتجميد الاعتمادات المالية المرصودة لها.
ويستطرد “دي ميرانش”: “وفي ذلك الوقت وجدنا أننا من المحتم علينا أن نتحرك على مسؤوليتنا، ودعونا أصدقاءنا وأصدقاء الولايات المتحدة كي يتعاونوا معنا، وكانت المملكة العربية السعودية جاهزة بالتمويل، ومصر مستعدة بمعسكرات التدريب، وكان المغرب مستعدًا بعناصر بشرية، وكان شاه إيران داعمًا بكل الوسائل، (At Large)”.
“البيزنس”.. شبكات الإرتباط والسيطرة..
الكونت “ألكسندر دي ميرانش”، مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، (SDECE)، أثناء عقد السبعينيات الماضي، أيضًا، يفتح لنا مستوى آخر من الإرتباط العضوي وتبعية الجنرالات المصريين بالكيانات الأمنية الغربية، والأميركية خاصة، بداية من المؤسسات والأجهزة الأمنية وحتى شركات السلاح والأمن، بما تسمح به تلك المؤسسات من إتاحة معلومات حول نشاطاتها، وهو بالطبع نذير.. وذلك عبر إطلالة قصيرة على قصة “صفقة طائرات الميراج الفرنسية” الشهيرة؛ التي اشترتها “مصر” عن طريق وبأموال ليبية في بداية السبعينيات، قبيل حرب تشرين أول/أكتوبر 1973، والتي تناول طرفًا منها الصحافي الإسرائيلي، “يوري بار-غوزيف”؛ ضمن كتابه الذي أثار جدلاً عربيًا واسعًا – ومازال – (الملاك.. الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل)، فيما يخص “د. أشرف مروان” ودوره في إتمام هذه الصفقة، بالإضافة إلى ما تثيره الصحافة العالمية، خلال الأعوام والأشهر القليلة الماضية، من تسريب مستندات ووثائق تكشف دور وأصابع رجل الأعمال الحالي والاستخبارات السابق، “حسين سالم”، في نفس تلك الصفقة.. ولكن بشذرات مقتضبة يكشف الكونت “دي ميرانش”، للصحافي المصري، “حسنين هيكل”، جانب آخر لتلك الصفقة.. قائلاً: “.. «مبارك»؛ منذ أن ظهرت صورته لأول مرة (أمامهم) في أجواء صفقة طائرات «الميراج» التي عقدتها ليبيا مع فرنسا سنة 1971، وهي صفقة كبيرة، حجمها 106 طائرات.
“كنا نعرف أن ليبيا تعقد هذه الصفقة لصالح مصر ولمساعدتها في حرب 1973، ولذلك رحنا نراقب باهتمام، وفي الواقع فقد رصدنا وفد المفاوضات الذي بدأ التفاوض في الصفقة مع شركة «طومسون» وكانوا جميعًا ضباطًا من سلاح الطيران المصري «أعطوهم» جوازات سفر ليبية لإقناعنا أنهم ليبيون، لكننا عرفنا حقيقة أمرهم”.. أضاف: “ذلك لم يعد الآن سرًا”.
واستطرد “دي ميرانش”: “في هذا الوقت لمحت «مبارك» لأول مرة، فقد حدث خلاف بين بعض الذين شاركوا في مفاوضات عقد الصفقة، وكانوا قد تركوا سلاح الطيران المصري وكونوا شركة بينهم، ثم اختلفوا وأشتد خلافهم على حصة كل منهم في أرباح الصفقة، وظهر «مبارك» يصالحهم مع بعضهم بالحرص على علاقاتهم معًا، وهم في الأصل من ضباطه، وكان علينا أن نرصد كل شيء، لأن الصفقة كلها أحاطت بها ظروف غير عادية !!” (5).
قبل آفول عقد السبعينيات أيضًا؛ كان “الاتحاد السوفياتي” – القوة العالمية الثانية – يحارب آخر معاركه خارج حدوده في “أفغانستان”، فقد رصدت أجهزته عمليات تقوم بها “المخابرات الأميركية” للنفاذ إلى داخل إمبراطوريته، وهدفها إستثارة الشعوب الإسلامية في الجمهوريات الجنوبية للإمبراطورية، والموقع الذي يستخدم للإثارة هو “أفغانستان”، والسلاح الذي يحرك المشاعر هو “الدين”، وكذلك تورط “الاتحاد السوفياتي” في غزو “أفغانستان”.. يقول “هيكل”: “الوثائق الأميركية قبل غيرها؛ تكشف أن «الكرملين» دفع إلى التدخل العسكري في «أفغانستان» مرغمًا – أو كذلك تصوره – وكانت تلك خطة مرسومة لإصطياده واستنزافه في الجبال الصعبة والوديان الموحشة – بحرب عصابات تنتظره لتستنزف دمه وسلاحه – وسمعته !!”، وبهذا التورط فإنه أعطى الفرصة لصيحة مدوية باسم “الجهاد الإسلامي ضد الإلحاد”.. تلك الصيحة التي مازال صوتها الداوي يتردد صداه بقوة اليوم في أرجاء المنطقة لحد “تصدع” بها رأس العالم أجمع، فتلك الحقبة المفصلية تاريخيًا تؤشر على حقيقة أنها “صيحة” و”صوت” كان مطلوبًا إذاعته وتقويته بإلحاح نشاطات استخباراتية كبرى مازالت تطبق، ميدانيًا، خططها النظرية، في سحب وتحويل “حرب الجهاد ضد الإلحاد” الشيوعي، التي بدأت أولاً، إلى حرب المذاهب الإسلامية فيما بينها ثانيًا.. فكان لا بد من تطبيق نظريات مدير المخابرات الخارجية الفرنسية، وزملاءه من قيادي الأجهزة الأمنية الأميركية والغربية، حول حتمية أن يلعب “الإسلام” دورًا أساسيًا في حماية “النفط”، واستغلال فرصة: “إنه من حسن الحظ أن أكبر منتج للنفط؛ هو نفسه بيت الأماكن المقدسة لدى المسلمين…”؛ أكبر وأفضل استغلال..
وفي وصفه لأجواء “القاهرة” السياسية والعسكرية، في النصف الثاني من الثمانينيات، يرصد “هيكل”: “.. في تلك اللحظة المتزاحمة بالضرورات كانت الأوضاع في مصر – وبتفاعلات أحداثها الداخلية – وتمرد الأمن المركزي في وسطها – تتوالى وتتداعى تأثيراتها، وبينها انكشاف سلطة الحكم، وظهور مركزين للقوة في القاهرة، مع علاقات قلقة بين رجلين، («مبارك» و«أبوغزالة»)، وكلاهما يريد لنفسه سندًا ودعمًا”. وعلى طبول ذلك التصارع، المكتوم بين “المركزين”، التي بدأت تتصاعد شيئًا فشيئًا متزامنة مع تطورات و”مطالب” دولية وقوى عالمية؛ تبدى لكثيرين أن “مصر” هي “الحل”؛ خصوصًا مع اعتبارات طارئة: “مصر”؛ هي بلد يكاد أن يكون خزان طاقة بشرية غير محدودة. وهذه الطاقة فيها مورد فياض بشباب مستعد لـ”الجهاد ضد الإلحاد”. وضمن هذا البلد عناصر توجهت نحو العنف، وهناك من لا يُمانع في تصديره خارج “مصر”، يتخلص منه، ويشغله بشيء آخر يلهيه عن الداخل المصري !
وأهم من ذلك فإن “مصر” توافر لديها، في نفس اللحظة، مخزون هائل من “السلاح السوفياتي”، لم تعد في حاجة إليه، لأنها نقلت تسليحها إلى نُظم تسليح غربية (أميركية بالذات)، وبدأت السياسة المصرية تحاول تصريف ما لديها مما لم تعد بها حاجة إليه، وباعت كثيرًا منه في صفقات لـ”العراق” قدرت فيها السعر الذي تبيع به، لأن احتياجات، “صدام حسين”، في حربه ضد “إيران” فاقت كل التقديرات، والحاجة تجعل طالب السلاح مستعدًا لقبول أي شروط.
وعندها اكتشف كثيرون ممن يبحثون؛ أن الصيغة السحرية للوفاء بكافة الضرورات قد تكون في “القاهرة”، وفي رجلين فيها بالتحديد: “مبارك” و”أبوغزالة”.. الأول لديه رئاسة الدولة المصرية بكل ما تمثله، وبكل ما تقدر عليه من اعتماد السياسات. والثاني لديه فائض سلاح ومعه القدرات الإنسانية المدربة على القتال.
وبين الاثنين “طبقة”، في “مصر”، مستعدة لما يُطلب منها، خصوصًا إذا كانت “ثروة النفط” هي التي تطلب، وكان “النفوذ الدولي” هو الذي يسند !!
يفند “هيكل”: “وربما تصور الرجلان معًا أنه بالنسبة للسياسة الداخلية في مصر، فإنها عصافير كثيرة بحجر واحد. أول العصافير موارد مالية تتدفق.. والثاني عناصر من الشباب المستعد للجهاد، وتصديرها للخارج أفضل.. ثم، وهذا هو العصفور الأجمل شكلاً والأزهى لونًا، فإن كليهما يستطيع من خلال دور يقوم به أن يجد في الخارج ما يستطيع به تعزيز أرصدته في الداخل.
“.. وبشكل ما؛ فإن «مبارك» – وهو رئيس الدولة – أصبح مختصًا رئيسًا بالعلاقة مع الأمن القومي في البيت الأبيض في واشنطن، (ومعه وكالة المخابرات المركزية)، وبدوائر الأسر الحاكمة في دول وإمارات ومشيخات الخليج.
“كما أن «أبوغزالة»، بالتوازي، أصبح مختصًا بالعلاقات العملية على الأرض وبالقيادة المركزية الأميركية، وهي المسؤولة عن أمن الشرق الأوسط، وبالطبع بالتعاون مع مؤسسات المخابرات والسلاح في الخليج، وكلهم دون استثناء من أفراد الأسر الحاكمة في بلدانهم.
“وبالطبع فقد تسللت وراء الرجلين عناصر من الجماعات الجديدة التي ظهرت في مصر، وقد دخلوا على المؤخرة يحاولون جمع ما تستطيع أيديهم أن تصل إليه من الغنائم والأسلاب.. وكانت تلك هي الفترة التي شهدت كثيرًا من الغرائب.. منها مثلاً أن الجهاد في «أفغانستان» أحتاج إلى ستة آلاف بغل، لأن البغال أشد تحملاً لطلوع الجبال في «أفغانستان»، وتكفل أحد رجال الأعمال من المحظوظين باستيراد البغال – ستة آلاف بغل من قبرص، وشحنها إلى «أفغانستان»”.
“ثم اكتشف أحدهم أن الشيخ «زايد» رئيس دولة الإمارات يريد أن يتخلص من الحمير في الإمارات، فجمع ما كان منها في بلده، وأرسله هدية إلى من يحتاجها في الريف المصري، لكن هدية الحمير وجدت من يحصل عليها، ثم يعيد بيعها لأفغانستان، ومع أنها لم تكن مطلوبة، إلا أنها وصلت إلى الميدان، وكان يمكن استعمالها للنقل على الخطوط الخلفية للجهاد، وقد كان !!”.
وهكذا.. وفرت تلك المتناقضات، من المطالب الدولية من النظام المصري والتقلبات الإقليمية للمنطقة التي أحدثت درجة من الحمى في دوران عجلة ثروة النفط والذهب، وفي أسلحة المخابرات الدولية والجهاد ضد الإلحاد، لمصر فيضانًا من المساعدات يمكن رصدها من أرقام “صندوق النقد الدولي”؛ التي تفيد بأن “مصر” جاءتها في ظروف “حرب الخليج”، وما بعدها، مساعدات وهِبات بلغت قيمتها 100 مليار دولار، وهي على النحو التالي:
30 مليار إعفاء ديون مستحقة على “مصر” لدول أجنبية.
25 مليار دولار من “الكويت”.
10 مليارات دولار من “السعودية”.
10 مليارات دولار من دولة “الإمارات”.
والباقي من مصادر متفرقة، وذلك بالإضافة إلى كثير من خدمات المخابرات والأمن والسلاح والتوريدات المقدمة إلى ما لا نهاية من الخدمات، وكله أعطى “مصر” صفحة اقتصادية جديدة مشجعة !!
ولحديث الوثائق، على قلة الإفصاح عنها حتى اليوم، عن تلك “المساعدات” حديث يطول وتكثر به الأوراق والمستندات.. فبفضل التظاهرات الجامحة للحشود الشعبية التي تمثلت انتفاضة كانون ثان/يناير 2011، وما تلاها من أشهر وسنوات، ظهرت للعلن الكثير من الوثائق والأوراق الحساسة لمنظومة عمل وزارة الداخلية المصرية، وجهازها الرئيس لأمن الدولة.. تحت عنوان: “ملف خاص بمنتجات برنامج FINFISHER-فينفيشيروا”، الذي دمغت جميع محتواياته بخاتم “سري للغاية”، ضم العديد من المراسلات والمذكرات والتقارير الإدارية، بدأت بتاريخ 15 آب/أغسطس 2009 وختم بتاريخ آخر مذكرة مؤرخة بيوم الأول من كانون ثان/يناير 2011، حول موافقة “وزارة الداخلية المصرية”، ممثلة بـ”جهاز مباحث أمن الدولة”، على عرض شركة أنظمة الاتصالات الحديثة (MCS)؛ وكيلة عن شركة (GAMMA) الألمانية العالمية، المتخصصة في صناعة البرمجيات والأنظمة الإلكترونية الأمنية التي تستهدف اختراق صناديق البريد الإلكتروني، لشراء أحد أبرز منتجاتها؛ وهو برنامج (FINFISHER)، الذي “يتم استخدامه من قِبل العديد من الأجهزة الأمنية والاستخباراتية العالمية”، بمبلغ إجمالي 388.604 ألف يورو، بالإضافة إلى تدريب عدد 4 ضباط من العاملين في مجال الاختراق الإلكتروني، وتقديم الدعم الفني من الشركة لمدة ثلاثة أعوام.
وقد أُرفق خطاب، اللواء “صلاح فؤاد”، مدير الإدارة المركزية لتكنولوجيا المعلومات، المؤرخ بيوم 23 آب/أغسطس 2010، والموجه إلى السيد اللواء/ وكيل الإدارة العامة لأمانة الجهاز للشؤون المالية، ملحق تفصيلي بمواصفات ومهام برنامج الاختراق التجسسي (FINFISHER)، على النحو التالي:
أولاً: المواصفات الفنية لبرنامج متابعة الأنظمة الإلكترونية:
برنامج لمتابعة الأنظمة الإلكترونية على شبكات المعلومات بأنواعها المختلفة، (داخلية، محلية)، تمكن مستخدميها من متابعة البروتوكولات التالية:
- بروتوكول نقل النص الفائق HTTP؛ والخاص بإرسال واستقبال البيانات العاملة بأنظمة HTML باستخدام رقم 80.
- بروتوكول نقل الملفات FTP؛ والخاص بإرسال واستقبال الملفات الإلكترونية بجميع أنواعها باستخدام المنفذ رقم 20، 21.
- بروتوكول إرسال البريد البسيط SMTP؛ والخاص بالمعيار الأساس لإرسال واستقبال المراسلات البريدية على شبكات المعلومات بكافة أنواعها باستخدام المنفذ رقم 25.
- بروتوكول مكتب البريد POP3؛ والخاص بنقل المراسلات البريدية من خوادم مراسلات البريد باستخدام المنفذ رقم 110.
- بروتوكول الوصول للرسائل البريدية WEBMAIL العالمية باستخدام المنفذ رقم 80.
تحديد الحسابات والمعرفات (عربي – إنكليزي) المستخدمة أثناء الولوج على المواقع المختلفة العاملة بنظام “HTML، IPB، VB”، سواء لإداراتها أو للدخول عليها.
إدارة الحواسيب عن بُعد وكذا نسخ أو تعديل الملفات المتواجدة على أنظمة الحواسيب العاملة بأنظمة التشغيل المختلفة التي تنتجها شركة “مايكروسوفت” العالمية.
ثانيًا: الشركات التي يمكن الطرح عليها:
الشركة المصرية لإدارة وخدمات الوثائق الهندسية “EDM”.
شركة أنظمة الاتصالات الحديثة “MCS”.
شركة تي كومبيوتر.
شركة تليكوم انتربريز
كما تقر مذكرة “الإدارة المركزية لتكنولوجيا المعلومات”، التابعة لجهاز أمن الدولة، بتاريخ الأول من كانون ثان/يناير 2011، بصلاحية وكفاءة هذا البرنامج “كونه نظام اختراق أمني رفيع المستوى يحقق العديد من الإمكانيات الفنية في هذا المجال، غير متاحة في مثيلها من أنظمة الاختراق، والتي يتمثل أبرزها في (اختراق صناديق البريد الإلكتروني على شبكات “hotmail – Gmail – yahoo”، إمكانية تحديث ملفات التجسس على أجهزة العناصر المستهدفة واستخدام أجهزتهم والبصمات الإلكترونية الخاصة بهم في التواصل، التحكم الكامل في أجهزة العناصر المخترقة،….).. فضلاً عن نجاحه في اختراق عناوين الحسابات الشخصية على شبكة الـ (SKYPE)، والذي يعد نظام التواصل الإلكتروني الأكثر أمانًا بالنسبة لعناصر النشاط الضار على شبكة الانترنت لكونه مشفر.
“بعد اختراقه العنصر الستهدف بالنظام المشار إليه بمثابة زرع نظام تجسس كامل بمكان تواجد الكمبيوتر المخترق.. نظرًا لإمكانياته الهائلة والتي تتيح ما يلي:
“تسجيل محادثاته الصوتية والمرئية على شبكة الإنترنت.
تسجيل محادثاته وتحركاته ومحيطه، (صوت وصورة)، بالغرفة مكان استخدامه لجهاز الكمبيوتر المخترق، (في حالة إحتواء جهاز الكمبيوتر المخترق على كاميرا ومايكروفون كمعظم أجهزة اللاب توب).
التحكم الكامل بجهاز الكمبيوتر المخترق؛ وإمكانية نسخ جميع محتوياته.. إمكانية اختراق أجهزة الحاسب الآلي المتصلة بشبكة محلية بأكملها.. دون الحاجة إلى استهداف كل جهاز على حدا بعمليات الاختراق الإلكتروني”.
…………………………………………..
المــصـــــادر..
- محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – دار الشروق – الطبعة الأولى 2012.
- محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – مرجع سابق.
- محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – مرجع سابق.
- محمد حسنين هيكل – (مدافع آية الله.. قصة إيران والثورة) – دار الشروق – الطبعة السادسة 2002.
- محمد حسنين هيكل – (مبارك وزمانه.. من المنصة إلى الميدان) – مرجع سابق.