15 نوفمبر، 2024 12:24 ص
Search
Close this search box.

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (6) .. “الهرم الأمني” سر القدر المُسيطر !

صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (6) .. “الهرم الأمني” سر القدر المُسيطر !

خاص : كتب – محمد البسفي :

“كلما كبرت وتضخمت الكذبة كلما صعب نفيها”.. جوبلز – وزير الدعاية النازية.

شبكة التناقضات المتداخلة..

سبق وحاولنا رصد تعريف مبسط يحدد “الرواية الدولياتية”، ضمن سياقات الآليات التنفيذية لـ”التزييف الممنهج للتأريخ”، موضحين بأنها: “رواية أو تدوينة تأريخية تشكل العماد الرئيس لمنظومة التزييف المؤسسي الممنهج للتأريخ، يتم بثها ونشرها بموازاة الرواية الرسمية التي تتبناها الدولة بمؤسساتها التعليمية والإعلامية، وتكون مختلفة عنها كلية أو مشابهة في بعض جوانبها مضيفة أحداثًا وتفاصيل تضخيمية أكبر وأوسع بهدف التشويق وشد الإنتباه ظاهريًا أو إثارة البلبلة والتشكك في وقائع تأريخية محددة أو أشخاص تاريخيين بعينهم، وتظهر عن وسيط أو مصدر خارجي وبعيد تمامًا عن أجهزة الدولة المعلنة، ويتم إنشاؤها وتوظيفها في ظروف تاريخية محددة من أجل أهداف تتنوع بين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها..” (1)

ويعمل على بث “الرواية الدولياتية” ونشرها عدة جهات وكيانات، محلية كانت أو دولية، ترتبط بأجهزة ومؤسسات أمنية وسيادية بشبكة غير مرئية أو معلنة؛ قوية الخيوط متداخلة التناقضات متوحدة المصالح والأهداف.. فلو اقتربنا من هذه الشبكة بالرصد والتحليل البحثي نجد أن تلك الأجهزة والمؤسسات الأمنية السيادية داخل دولة “مصر”، كمثال، تتخذ من الشكل “الهرمي” رسوخه وثبات أعمدة هيكلته للدولة ذاتها قبل إتخاذها لشكل تراتبيته وتدرجه الصاعد من قاعدة عريضة من أفراد مجندي الأقسام المتعددة لوزارة الداخلية صعودًا إلى قمتها التي يشغلها منصب رئيس الجمهورية والذي يخرج من صفوف القوات المسلحة، وقد شغلت بدورها درجة الخطورة والتميز من درجات “الهرم الأمني” العليا..

يستهل الباحث المصري في علم الاجتماع السياسي والمتخصص في الدراسات الأمنية، “علي الرجال”، مقالته البحثية المعنونة: (الداخلية.. أساس الحكم والحداثة في مصر)؛ بقوله: “بداية الحداثة في مصر ارتبطت بالجيش. ولكن تشكل الحداثة كآليات حكم وإنتاج وإدارة للحياة تمركزت حول “الداخلية”. فأغلب مكونات الحوكمة، (أي فن إدارة السكان وحياتهم بالكامل)، تقع داخل مؤسسة الداخلية أو على هامشها. وفي الوقت الذي تم تكثيف الحداثة وتطبيقها كمنظومة حكم، غاب الجيش، إما بسبب معاهدة لندن 1840 والهزيمة، أو بسبب فشل الثورة العرابية والاستعمار 1882، وحضرت الداخلية بكل قوتها. هيمنة الداخلية على الحوكمة، تشبه ضبعًا أسود قابعًا على صدور الجميع في الغرفة.. بينما لا أحد يراه”. (2).

مستعرضًا تاريخ “وزارة الداخلية” وبزوغها مع بداية عصر الحداثة في مصر، واستكمال تكوين شبكة مؤسسات الدولة عام 1872، وإرساء قواعد “الحوكمة” على أسس مطالب وأهداف محددة: “تضمن من جهة الولاء السياسي للحاكم وتحافظ على شرعيته، وتوفر مؤسسات تخترق الأنسجة الاجتماعية للسكان وتتدخل في إنتاج حياتهم وضبطها، حيث لم تعد تأتي من الخارج للإخضاع، وإنما صارت في الداخل، للإدارة”.

موضحًا “الرجال” أن هذه النقلة للدولة، كشكل وحضور؛ “قد جاءت من خارج المدينة إلى داخلها، في الوقت نفسه الذي بدأ يتم تأسيس مدن القنال والاحتياج إلى الضبط البوليسي وإلى شكل جديد من وضع مؤسسات الانضباط وعلاقتها برأس المال العالمي داخل هذه المدن، (وهو ما يشير إليه الباحث إبراهيم الهضيبي). لقد تداخلت مكينزمات الانضباط الحديثة مع العملية الرأسمالية والريعية في تاريخ مصر الحديث. نحن هنا أمام إنشاء المدن الحديثة، وإنشاء أهم مصدر للدخل في مصر، (قناة السويس)، على صلة وطيدة بجانب من رأس المال العالمي، سواء أكان بضائع أو مواد خامًا، وأهم وأكبر مصدر ريعي في مصر حتى الآن. وقد رُبط الانضباط بالعمل في المدينة بالبوليس. ويشير “الهضيبي” إلى أن الداخلية بدأت تضطلع بمهام مراقبة عمال شركة قناة السويس والمساجد والكنائس وكافة أشكال الانضباط والسيطرة السياسية والاجتماعية. وفي هذا، لم يكن للجيش أي دور حقيقي”.

شبكات السيطرة من الداخل..

وبحسب “ميشال فوكو” فإن مشروع التحديث جوهره “البوليس”، فمع هزيمة “الثورة العرابية” واستعمار الأراضي المصرية من قبل الآلة العسكرية البريطانية، ترسخت هيمنة “الداخلية” على الحكم في مصر، “أصبحت المؤسسة الأكثر قربًا من الحاكم وولاءً له”، ولسبب يوليه الباحث أكثر أهمية وهو: “علاقتها بالاستعمار، هي حليف مركزي له، يراقب المجتمع المحلي ويخترق أنسجته المختلفة ويتجسس عليه ويقوم برصد كل التحركات السياسية والمقاوِمة ضده ويفخخ الحياة السياسية ويهيمن عليها لمصلحته. فلعبت المؤسسة دوراً محوريًا ومركزيًا في التحديث وإدارة المجتمع والأجساد والمساحات”. وكان على القصر أن يقرب الداخلية منه أيضًا، “وهكذا ظلت الداخلية تلعب ثلاثة أدوار عميقة داخل الدولة وبنية المجتمع في مصر: تنفيذ القانون، ممارسة الانضباط، القهر والهيمنة السياسية”.

لذا فيرى الباحث أن “الداخلية” تحمل في يدها ثلاث سلطات واسعة: “البيروقراطية، القمع، المعرفة” وبالتالي؛ “فهي أكثر مؤسسات الدولة اختراقًا للنسيج الاجتماعي عبر عدة أجهزة مختلفة بداخلها. فمثلاً جهاز المباحث العامة يقوم بإدارة العديد من المناطق السكنية الحضرية والريفية، وهو من يضبط الاتفاقات الاجتماعية المختلفة، والأجساد الخطرة في المجتمع، ويشارك في تنظيم وتحجيم الجريمة، بل ويتدخل نسبيًا في إدارة السوق وبعض علاقات التجارة، هذا بالإضافة إلى دوره القمعي والقانوني. وتعد المباحث العامة أحد أهم الروافد المعرفية للداخلية؛ حيث تقع بيدها أغلب أخبار المجتمع وعلاقاته ببعضه. ومن خلال هذا الجهاز يمكن رؤية المجتمع كشبكات ومجموعات من الفاعلين وأصحاب المصالح، وبالتالي يمكن تقطيع وتفكيك أوصاله، فلا يعود كتلة مجهولة وغامضة. كما أن كل شيء يعمل داخل هذه البلد له مباحث خاصة به، فهناك مباحث التموين، مباحث الكهرباء، مباحث السياحة إلخ… ثم يأتي بعد ذلك الجهاز الأهم والأخطر وهو “أمن الدولة”، وهنا نحن نتحدث عن جهاز يتحكم في كل من اللغة والخطاب والإعلام والأجساد، ويحتكر جانبًا كبيرًا من السيادة والمعرفة في المجتمع، وهو الجهاز السيّد، المتحكم بوزارة الداخلية نفسها. وهذا الجهاز هو الأكثر هيمنة وأهمية في تاريخ مصر الحديث، منذ نشأته في 1913 على يد الإنكليز أو إرهاصاته الأولى بعد 1882”.

يدخل المجتمع في نوعية مختلفة عند “وضعه” على “جهاز أمن الدولة”: يبدأ بالتحلل إلى “جماعات سياسية، طوائف، موالين للسلطة وأعداء ومعارضين، وشبكات حكم وزبائنيّة، وشبكات معارضة”… هذا الهيكل، وهذه المهمات في تقسيم المجتمع وإدارته والتجسس عليه واختراقه واختراق المؤسسات الأخرى بالدولة لصالحه ولصالح الحاكم، هي نفسها منذ تشكله في 1913. وقد تزيد أو تنقص. فمثلاً، اختفى قسم “مكافحة الصهيونية” وظهر قسم مكافحة الجماعات الإسلامية، ومؤخرًا “الثوار”، وهكذا. وفي كل تحول كبير يصيب مصر دولةً ومجتمعًا، ويتغير فيه شكل الواقع ونمط الحياة، بل والتصور عن الكون نفسه، تبقى هذه المؤسسة بلا أي قطيعة تذكر، وتنجو من أي تغيرات جذرية إلا على مستوى الاسم. فمن “القلم السياسي” إلى “مباحث أمن الدولة” إلى “الأمن الوطني”، لكن الهيكل يظل هو نفسه والمهمات والأدوار والأساليب ومساحات الهيمنة والنفوذ هي نفسها. وهذا لا ينطبق على جهاز أمن الدولة فحسب بل على الداخلية ككل. وبينما شهد الجيش المصري عددًا لا بأس به من خطوط القطيعة التاريخية في بنيته، ومن التغييرات الجذرية، لم تشهد الداخلية المصرية قطيعة واحدة، بعد توسيعها وتطويرها الكبيرين على يد اللورد “كرومر” أثناء الاستعمار الإنكليزي.

وكما أوضح “الرجال” – في إيجاز – اختراق الداخلية بجهازها لـ”أمن الدولة”، لجميع كيانات ومفاصل المجتمع من الداخل.. يزول العجب، كمثال بسيط، من مدى هيمنة ذلك الجهاز على الجماعة الصحافية/الإعلامية، المنوط بها توعية وتثقيف المجتمع، عبر اختراقها من الداخل بـ”صنع” نجومها وعناصرها المنتخبة وتحديد موادهم المذاعة وتحديد ما يلعبونه من “أدوار” حيال السلطة، ظاهريًا، سواء داخل صفوف المعارضة أو الصفوف المؤيدة، الوضع الذي ربما فضحت جزء منه الانتفاضات الشعبية المتتالية منذ عام 2011، حينما فوجيء الراصد للمشهد السياسي بموقف نخب سياسية وفكرية وإعلامية بارزة تستبسل في تأييدها لسياسات الرئيس المصري، “عبدالفتاح السيسي”، رغم صراخها وفضحها وتكتلها ضد نفس السياسات تقريبًا تحت حكم “مبارك” و”السادات”.. وما ينطبق من زوال العجب عن مدى اختراق “أمن الدولة” للجهاز الإعلامي وللنخب الفكرية والسياسية؛ ينسحب بالطبع على التكتلات المجتمعية من نقابات وجامعات وأجهزة قضائية… إلخ..

عبر مذكراته المعنونة بـ (حياة عادية)؛ يروي المثقف المصري ورجل القضاء، “يحيى الجمل”، رواية ذات دلالة حول شخصية مصرية لمعت خلال السنوات الأخيرة حتى وصلت لأعلى المراتب الثقافية محليًا، يقدم “الجمل” شهادته العينية عن بداياتها في أواخر عقد الستينيات وبداية السبعينيات، قائلاً: “كنت أعرف أن «ف» على صلة وثيقة بالمرحوم سعد وهبة، وكان هو يعرف سعد وهبة ويقرأ له ويقدره، وكنت أعرف أيضًا أنه وثيق العلاقة بالمرحوم أحمد كامل الذي كان محافظًا للإسكندرية، وكان هذا الشاب الفنان يعمل في أحد قصور الثقافة وقد أصبح أحمد كامل؛ بعد ذلك مديرًا للمخابرات العامة، ثم أطيح به بعد ذلك فيمن أطيح بهم في انقلاب 15 (آيار) مايو 1971.

“وبدأ «ف» الحديث بطريقته الخاصة.. قال إنه يود إن يصارحني بأن له مهمة خاصة أكثر من كونه ملحقًا معارًا من وزارة الثقافة، وأنه حضّر دورة في المخابرات العامة قبل مجيئه إلى باريس، وأن أحد مهامه أن يرصد تحركات الطلبة وأن يكتب تقارير لمصر..”.

ويواصل أحد الصحافيين سرد شهادته الذاتية، هو الآخر، عن ملابسات وكواليس “شهادة الجمل”، التي صدرت ضمن مذكراته عن (دار الهلال) القاهرية أثناء فترة حكم الرئيس السابق، “حسني مبارك”، موضحًا: “لم يكن من الصعب معرفة أن المقصود هو “فاروق حسني” وزير ثقافة مصر !، ولم يلتفت إلى تلك المعلومة الخطيرة سوى الولد الوطني المخلص والمحرر الثقافي بمجلة (المصور)، “حلمي النمنم”، وعلى الفور رفع سماعة التليفون واتصل بالوزير لكي يتصرف ويمنع الفضيحة، وقامت الدنيا ولم تقعد وتطورت القصة حتى وصلت إلى جهات سيادية؛ وتم عقد ندوة ضخمة بمقر (دار الهلال)، كان ذلك في عام 2005، وهي قصة رواها الكاتب الصحافي “محمد عبدالواحد” في كتابه (مثقفون تحت الطلب)، وكشف كيف حاول “فاروق حسني” و”حلمي النمنم” و”محمد عبدالواحد”، نفسه، و”مكرم محمد أحمد” معالجة الفضيحة لغسل وتنظيف تاريخ فاروق حسني !”.

ولم تكن تلك الشهادات، حول واقعة عرضية، سوى لمحة موجزة تدلل على مدى توغل واختراق أجهزة “الهرم الأمني” المصري لقطاعات الثقافة والإعلام المحلية، وقدرتها على “صنع” نخبها وقضاياها التي تثيرها مجتمعيًا.

وبالعودة إلى دراسة “الرجال” التحليلية لمدى سيطرة “وزارة الداخلية” على المجتمع المصري، نجده يؤكد بأن: “احتفظت الداخلية المصرية بأهم شكلين للسلطة في المجتمع الحديث: السلطة الانضباطية والسلطة الحيوية. والسلطة الانضباطية تتمثل بضبط الأجساد وحركتهم داخل مساحة ما، وتحديد ما هو مباح ومتاح وما هو ممنوع ومرفوض، وإنفاذ القانون على هذه الأجساد وتطويعها وخلق حركتها وتعيين حدودها. ويتمثل هذا كله من عند إدارة أول إشارة مرور حتى الجريمة والعمل السياسي والتحول إلى العنف والقهر إذا تطلب الأمر”.

أجهزة تمكين وحماية “النيوليبرالية”..

لـ”وزارة الداخلية” المصرية جانب ومهمة أكثر حساسية وخطورة؛ يحاول كشفها الباحث، “علي الرجال”، في إحدى أبحاثه تحت عنوان: (كيف تشكّلت دولة مبارك البوليسية.. مصر: جهاز “الداخلية” والنيوليبرالية)، والذي استهله بالتأكيد على أنه: “تعود جذور دولة مبارك البوليسية إلى لحظة 1967، أي الهزيمة، حيث انتقل المشروع الناصري من السعي للسيطرة على الداخل والتمدّد في الخارج، ومن دولة صاحبة مشروع اجتماعي كبير، إلى دولة تسعى للحفاظ على سلطتها فحسب وإخضاع الداخل”. ملاحظًا أن: “أهمّ “أبطال” عصر مبارك وُلدوا في 1968. شهد هذا العام ميلاد “الأمن المركزي” ومعهد أمناء الشرطة. وكلاهما سيكون لهما حضور كثيف وثقيل في حياة المصريين. وفي 1971، تأسّس “جهاز أمن الدولة” الذي تعود جذوره إلى العهد الاستعماري ليحتلّ مكان “المخابرات العامة” التي تمّ الهجوم عليها من داخل النظام نفسه لتصفية “صلاح نصر” وتحميله عبء الهزيمة. ثم أعقب ذلك، مع وصول “السادات” إلى الحكم، محاولة “الجيش” للسيطرة على الجهاز، فكان أول منصب يتولّاه المشير “أحمد إسماعيل” قبل قيادة الجيش المصري، وصار الأمر فيما بعد تقليدًا مركزيًا، فلم يحكم الجهاز أحد من أبنائه وظل رجال المنصب يأتون من جهاز “المخابرات العسكرية”، حتى تولاه “خالد فوزي” في عهد “السيسي”. هكذا نرى جنوح الدولة نحو التحوّل من دولة أمنية، ثقلها المركزي يقع في الحفاظ على النظام وتصفية أعدائه وخصومه السياسيين (ما يمثله جهاز المخابرات العامة)، إلى دولة بوليسية”. فبحلول سبعينيات القرن الفائت، أصبح هناك ثلاث أذرع بوليسية:

“أمن الدولة”: أداة النظام في إخضاع خصومه السياسيين وإدارة الحياة العامة والانتخابات، وسيصبح الجهاز والمؤسسة الأولى في مصر.. و”قوات الأمن المركزي”: التي ستغدو جيشًا كاملاً وأداة القمع طيلة عقد التسعينيات، سواء ضد الإرهاب الإسلامي أو انتفاضات المدن. وبعد ذلك سيتسيّد حضورها المشهد السياسي والاجتماعي من 2005 إلى 2011، حيث سيتولى “الأمن المركزي” قمع المظاهرات السياسية والإضرابات العمالية. وستتحوّل ساحات الميادين الكبرى إلى مساحات لاستعراضاته العسكرية، وسيقوم بعمليات إخلاء السكان لصالح رجال الأعمال، كما حدث في قضيتي “المفروزة”، 2006، و”طوسون”، في 2008، حين تمّ اجتياح هذه المناطق السكنية لإزاحة سكانها لصالح مشاريع استثمارية جديدة.. و”أمناء الشرطة”: الجهاز الذي سيتحوّل إلى مهمّة الضبط الاجتماعي في الأحياء الفقيرة، وسيتولى مسؤولية القمع اليومي لعموم الجمهور، سواء في الحملات الأمنية أو الكمائن أو في إدارة أقسام الشرطة وبعض القطاعات البيروقراطية.

ويقر “الرجال” بأن ما يسمى بـ”الحرب على الإرهاب”، التي اشتد آوارها داخل الشارع المصري خلال عقد التسعينيات، قد زادت من سطوة “الداخلية”، التي أوغلت أكثر في قمع المناطق الشعبية على أساس يومي، وكانت تلعب دورًا استعراضيًا وانضباطيًا للسيطرة على عموم السكان وإخضاعهم، مثل الحملات المكثفة على المقاهي، وحملات ليلية للتضييق على شباب الحيّ حتى في ممارسة كرة القدم، وكذلك تعمّدت إذلال الجموع. (3).

إلا ومع دخول مصر الألفية الجديدة، في ظل قانون الطواريء، وولوجها الأهم في صفوف الدول النيوليبرالية؛ المنهج الذي يفترض معه تقليص دور دولة البوليسية بقدر تحجيم دورها الإداري، إلا ويرى الباحث توسعة هيمنة وسطوة أجهزة “الداخلية” نتيجة عدة أسباب:

1 – كان على الطبقة الاجتماعية الصاعدة والحاملة للمشروع النيوليبرالي بقيادة “جمال مبارك”، الطامح لوراثة الحكم، التحالف مع “الداخلية” في مواجهة “الجيش” وبقية البيروقراطية الناصرية. واجتمعت كلتاهما على مصالح إيديولوجية ومادية واضحة. فلأول مرة بعد الاستعمار يكون هناك مشروع سياسي قائم على ازدراء عموم السكان ورؤيتهم كمجموعة من الكسالى والرعاع. كما اجتمعت المصلحة على التحالف في مواجهة الجيش على مستوى شرعيته السياسية للحكم وعلى مستوى نفوذه الاقتصادي والمادي.

2 – خلّفت “الخصخصة”، في تسعينيات القرن الفائت، ثم استكمالها في الألفية الأولى، فائضًا بشريًا كبيرًا تُرك “للسوق”، وخلّفت دولة متآكلة، لغياب أي فرص للضبط المؤسسي من خلال قنوات العمل. وفي هذا كان هناك احتياج للضبط والقمع الشرطي بشكل عام. وكان مشروع “جمال مبارك” شديد الوضوح، فهو مهندس “لقلة منتقاة”، (بحسب تعبير الباحث “عمرو عبدالرحمن”)، وكانت أحلام الدولة الناصرية إلى زوال، وقيل للبقية أن تتدبّر أمورها بنفسها. سقطت من هذا المشروع قطاعات كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى، بل تحوّلت إلى مصدر تهديد وقلق دائم للنظام، بالأخصّ بعد انخراط بعض شبابها في الحركات الاحتجاجية منذ 2004.

3 – توسّع “القطاع غير الرسمي” بشكل كبير ليواجه هذا الغياب للتوظيف ولسوق العمل الرسمي. فأصبح هناك مزيد من الاحتياج لاستدعاء “الداخلية” لضبط الشارع وحركة السوق، حيث أصبحت الشوارع مساحات نزاع وسطوة بين الأمن وأتباعهم، وبين الباعة الآخرين.

4 – الاعتماد على “الاقتصاد الخدمي”، بالأخص “قطاع السياحة” في شرم الشيخ والغردقة، مَنح “الداخلية” مزيدًا من السطوة، فهذا القطاع يتطلب توفير الأمن الكثيف. ظهرت ممارسة شرطية غاية في الغرابة كانت تتعرض لها العمالة في هذه المدن، وهي التهديد بالترحيل. فكان من حقّ الضباط أن يقوموا بطرد مَن يشتبهون به أو لا يروق لهم إلى خارج المدينة. وكان الأمر يمس أحيانًا أبناء الطبقة الوسطى والوسطى الدنيا التي تذهب هناك للترفيه، ولكنه كان موجّهًا بالأساس ضد العمالة القادمة من المحافظات المختلفة للعمل الخدمي.

5 – انفجار ما يُعرف بـ”المناطق العشوائية” وتحوّلها إلى مصدر قلق وتهديد أمني للدولة، ولتلك “البرجوازية” المصرية. وفي المقابل، التوسّع العمراني لما يُعرف بالمجتمعات المسيّجة، (السكن المحميّ)، على أطراف القاهرة والإسكندرية. وهو ما استعدى مزيدًا من الحملات الأمنية الدائمة وحصار المناطق الشعبية والعشوائية. ووضعت كمائن أمنية على مداخل أغلب المناطق السكنية الأخرى، بالأخصّ مترفة الطابع، وتحديدًا في القاهرة.. كانت مثلها مثل ما يُعرف بـ”الكمائن الحدودية”، وهي ليست على الحدود الخارجية للبلاد بل تفصل بين المدن !

6 – مثّلت “الداخلية” أداة مهمة لـ”الفصل” و”التحجيز الاجتماعي” بين الأغنياء والطبقات الأفقر. كما أنها أصبحت المنظم المركزي لإدارة الثروة والموارد، أي للعلاقات الاجتماعية. ويمكن ملاحظة هذا بوضوح في تحوّل أقسام الشرطة من الطابع المؤسسي إلى اللا – مؤسسي، بالاعتماد الكثيف على شبكة الأمناء والمخبرين والمرشدين، بالإضافة إلى الشبكات الزبونية وشبكات البلطجة. وكذلك بمحاولتها الدائمة لاختراق النسيج الاجتماعي، والمساومة والمواءمة لإدارة الحياة اليومية، (كتقوية بعض العائلات والأفراد لتكليفهم بالضبط والسيطرة الأمنية في محيطهم، بمقابل غضّ الطرف عن أنشطتهم غير القانونية وأحيانًا غير المشروعة)، والإفراط في تجاوز الأطر القانونية من خلال جملة من المساومات.. حتى تحوّلت هذه كلها إلى عقدة في شبكة أوسع منها، ولكنها نقطة ارتكازها الرئيسة.

7 – تزامن المشروع النيوليبرالي مع الهوس العالمي، والأميركي تحديدًا، بـ”الحرب على الإرهاب”. وهو ما عزّز من سطوة “الداخلية” المصرية في الداخل وجعلها حليفًا مهمًا للخارج؛ الذي يقوم بالاستثمار الدائم فيها من التدريب إلى البنية التحتية والمعدات.

وهكذا قادت التحوّلات البنيوية الكبرى التي شهدتها مصر، وتلاقي “المشروع النيوليبرالي” مع “المشروع البوليسي”، ليس فقط إلى شراكة في الحكم، ولكن إلى تشكيل هوية جديدة لجهاز “الداخلية”. فـ”جهاز أمن الدولة” صار العقل الذي يقوم بإدارة الحكم، ويخضع له في التراتبية المؤسسية ثلاثة أجهزة وإدارات قوية داخل “الداخلية”: “الأمن المركزي، والمباحث العامة، وكل القطاعات البيروقراطية التي تخضع للوزارة”. وقوات “الأمن المركزي”، وبالأخص، على المستوى الفردي كما يتضح من نتائج أبحاث ميدانية، صارت تستشعر قوتها الكبيرة، وأنها صفوة لها قيمة مهمة في الحفاظ على النظام. وتشكّل على ذلك استعلاء ذكوري نابع من القوة الجسدية والماكينة العسكرية التي بين أيدي أفرادها. وصار “الأمناء”، وبالأخص العاملين في جهازي “المباحث العامة” و”أمن الدولة”، أسياد قطاعات اجتماعية واسعة، ونجحوا في استغلال مواقعهم الوظيفية كمصادر للريع والدخل، بما أنها تتيح لهم الهيمنة الاجتماعية والأمنية.. هذا بالإضافة إلى الفساد الموسمي أو الصفقات الاستثنائية، مثل الدخول في شراكات مع مقاولين أو بلطجية للاستيلاء على الأراضي والعقارات. وفي داخل كل قطاع، تشكلت هوية جمعية تُشعِر أفراده بالقوة والسطوة. وعلى مستوى المؤسسة ككلّ، لم تعد هذه الذراع الباطشة للنظام فقط أو مجرد جهاز قمعي تابع للدولة، وإنما صارت عصب الحكم والقمع والسطوة. وهو ما دفع أفراد المؤسسة للاستعلاء على مَن يناطحونهم السيادة على البلد، وهم القوات المسلحة. وأصبحت “الداخلية” أكثر قدرة في التجرّؤ على أفراد الجيش في الكمائن، وانتقل الأمر إلى مشاحنات دائمة بين طلاب الجهازين. وعلى المستوى الاجتماعي، صار حضور ضباط وأفراد الداخلية يتّسم بقدر من الطغيان والاستعراض الدائم للقوة، كما أصبح الالتحاق بـ “الداخلية” ليس فقط وسيلة للترقي الاجتماعي وإنما مصدر ريعي وأداة هيمنة للعائلات الكبرى، وكذلك تطلع حقيقي للطبقات الأدنى. فالمؤسسة صارت اللاعب المهيمِن داخل جهاز الدولة وأروقة الحكم، كما صارت مُحمّلة بدلائل ورمزيات اجتماعية شديدة الطغيان.

ذلك التناطح التراتبي بين درجات “الهرم الأمني”، المستعر بين “الداخلية” و”الجيش” أثناء سنوات حكم “مبارك” الأخيرة، كان محل جدال ملتهب وصل لدرجة معارك “كسر العظام” مازالت شظاها مستمرة حتى الآن، رغم حسم أغلبها لصالح “الجيش” وأجهزته الأمنية مع بروز “السيسي” على المشهد السياسي وتنصيبه رئيسًا للجمهورية.

ولكن يمضي “الرجال” في رصده البحثي لافتًا إلى أنه؛ سقطت من المشروع النيوليبرالي قطاعات كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى، بل تحوّلت إلى مصدر تهديد وقلق دائم للنظام مع تشكّل هذه الهوية عبر العقود الثلاثة، وبدء عودة الدولة البوليسية التدريجي منذ لحظة الهزيمة في 1967، أصبحت الداخلية تحمل “رؤية استعمارية” للسكان على غرار رؤية تلك المؤسسة في المرحلة الاستعمارية.

“لم يكن “عصر مبارك” هو التجلّي الوحيد للدولة البوليسية. فالعصر الخديوي والاستعماري والملكي كانت الدولة فيهم بوليسية بالمعنى العميق للكلمة، وكانت الأقسام مراكز لإذلال المصريين، وكانت “الداخلية” تتحالف مع البلطجية وتتقاسم معهم الأموال. ولعل النموذج الأبرز لهذا الأمر هو شوارع اللهو والمتعة مثل “عماد الدين” في القاهرة. الأمور التي جدّت مع “مبارك” هي الهيمنة السياسية والاجتماعية شبه الكاملة للجهاز. ففي “العصر الملكي” كانت هناك ثلاث جهات تتنازع حول السلطة: “القصر، والوزارة والبرلمان، والاستعمار الإنكليزي”. كما أنه كان لكل حقبة مشروع كبير تلتف حوله النخب والدولة. أما “مبارك” فكان مشروعه هو الأمن وعصره بدأ مع حرب الدولة على الإرهاب، وتزامن عقده الأخير مع الحرب العالمية على الإرهاب وهوس أمني عالمي، عزّز من قدرات “الداخلية” في مصر، ومنحها فرصًا أكبر للتدريب الدولي والدخول في شراكات أوسع مع الأجهزة الأمنية في دول مختلفة، أو لتدريبات يتلقاها الجهاز المصري في “ألمانيا”. (4).

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

الـمــصـــادر :

  • يرجى مراجعة “صنع التاريخ على أعين الأجهزة الأمنية والسيادية (3) .. منهجية الخلط والتلويث”، لكاتب السطور، نشر بصحيفة (كتابات) بتاريخ 28 شباط/فبراير 2018. gl/LZqMiw
  • “الداخلية.. أساس الحكم والحداثة في مصر” – علي الرجّال – صحيفة (السفير العربي) في 29 تموز/يوليو 2015.
  • “كيف تشكّلت دولة مبارك البوليسية.. مصر: جهاز “الداخلية” والنيوليبرالية” – علي الرجَال – صحيفة (السفير العربي) في 10 تشرين ثان/نوفمبر 2016.
  • علي الرجَال – مصدر سابق.

أخبار ذات صلة

أخبار ذات صلة